صفحات مميزة

مقالات مختارة تناولت “«وثيقة الإصلاح» الصادرة عن شخصيات علوية سورية”

 

إصلاح هوياتي علَوي أم تأسيس مذهبي «لقيط» ؟/ عمر قدور

بخلاف ما تداولته وسائل إعلام غربية، خرجت وثيقة الإصلاح الهوياتي «العلوية» بلا نقد مباشر لنظام بشار، أو تخلٍّ صريح عنه. أيضاً، خرجت إلى النشر كلقيط لا تُعرف نسبته، مع ادّعاء من أصحابها المتوارين بأنهم بمثابة «سلطة الضمير الجماعي» للعلويين، والادعاء بأن هذه «الهيئة الآمرة» مفوّضة من الضمير الجمعي.

هي بالتأكيد سابقة، منذ انقلاب البعث، أن تدعي مجموعة ما صفة تمثيل العلويين خارج مركز السلطة. وهي إشارة تكتسب دلالاتها من مواظبة النظام على ربط وجود الطائفة باستحواذها التام على السلطة عبر عائلة الأسد، ما يجعل الأخيرة رمزاً لوجود الطائفة، مثلما عمل إعلامه على تصويرها رمزاً لانتشالها من وضعية المظلومية التاريخية. في بداية الثورة، كرر تلفزيون النظام بث تسجيل لامرأة علوية مسنة تخاطب عائلة الأسد بما معناه أن العلويين لم يكن لهم وجود قبل سلطتهم.

الوثيقة، من هذه الوجهة، تلاقي تحدياً كبيراً، فللأسدية باع طويلة مرتبطة بالاستحواذ على القوة، وطوال أربعة عقود ونصف نشأت أجيال ترى فيها الملاذ والحماية، فضلاً عن تلك التي ترى فيها القوة والتمكن. الأسدية على علاتها، وحتى على تواضع منبتها العائلي والديني ضمن «الطائفة»، وعلى رغم سقوطها القريب المحتمل، قوة متعينة بتدرجات من السلطة يصعب مواجهتها ببيان لا تُعرف قوة حامله الاجتماعي على وجه الدقة. إنه تحدّ في الوسط العلوي نفسه، قبل أن يكون حيال نظرة الآخرين. فالأسدية من وجهة نظر مثقفين علويين «ينتقدونها» هي الخيار الواقعي في مواجهة «الإرهاب التكفيري السني».

هنا لا بأس بالتذكير بأمرين، أولهما استفادة النظام من عدم وجود مأسسة طائفية سابقة عليه، مع استثمار أقصى لحس المظلومية، بحيث يصبح هو «مؤسسة الطائفة». هذا يُحسب لعلويي سورية، بقدر ما كان نقطة ضعف استثمر فيها النظام ولا يزال. الأمر الآخر هو الدور الذي لعبه ويلعبه مثقفون من أبناء الطائفة لمصلحة رواية النظام ذاته، أي لمصلحة اعتباره الملاذ الوحيد من مظلومية لا بد قادمة، حتى مع إقرارهم بكل مساوئه وشروره.

من الضروري التنويه بأن هذين التيارين المتساندين بقوة كرسا فكرة صراع الوجود، ومبدأ الاستحواذ على السلطة كضمانة وحيدة من خطر «الآخر السني»، ولم يعمل أحد منهما على مبدأ: إذا كان «الشر» قادماً لا محالة، وسيبقى قائماً ما بقيت الأكثرية الحاملة له، فمن الأفضل الدخول معه في اشتباك سياسي.

على ذلك، لعل أهم ما جاء في وثيقة الإصلاح القول أن المظلومية لم تعد عنصراً من عناصر تعريف العلوي بذاته، بالتوازي مع تبلور مفهوم جديد متمايز عن الشيعية والسنية. اعتبار المظلومية جزءاً من الماضي يفترض إلغاء مفاعيلها السياسية الحالية، على عكس ما تذهب إليه الأسدية ومثقفوها، وحتى بعض معارضيها «الداخليين». لكن يبقى لافتاً للانتباه عدم تطرق الوثيقة، ولو مواربة، إلى الحقبة الأسدية وتأثيراتها على تعريف العلويين، سواء من جهة الـ «نحن» أو من جهة الـ «هم»، ما قد يدفع إلى الظن بوجود مقايضة مقترحة بين المظلومية العلوية التاريخية والمظلومية السنية الناشئة، على رغم تبرئة سنة سورية من مظلومية العلويين ورميها على «الغرباء» الذين حكموا البلاد.

في المقابل، ثمة فقرة ذات مغزى متعدد، فالمادة 18 من الوثيقة تنص على: «إعلان الهوية الجديدة للعلويين في هذه الوثيقة، يصادف التقاء مسيرين مشهودين نحو غد واعد للأرض السورية. فبقية السوريين يبتدرون بالانتفاض، قوة الغضب المُحقّ، أما العلويون فيبتدرون بالإصلاح الهوياتي، سلطة الضمير الجماعي». إذ لا يخفى الإقرار بأحقية الثورة، مع اعتبار الوثيقة مكافئاً لها من المقلب الآخر. هذا الربط يخالف السائد حول الفصل بين النظام والعلويين، لتبدو العلوية «التقليدية» جزءاً من الماضي ومن النظام وأزمته في آن.

قد يصحّ، من باب التفاؤل، اعتبار ما يُسمى إصلاحاً هوياتياً بمثابة تعويض عن بساطة العلوية التقليدية، أو بالأحرى العلوية الشعبية التي لم تعد تشكل مذهباً متماسكاً، وإن شكلت نسبة منها طائفة حول السلطة. إذ لا يخفى غياب ظاهرة التدين على نطاق واسع لدى العلويين، واقتصارها غالباً على قليل من الرمزيات، مع حضور أكبر لحس المظلومية الأقلوي. والأقلوية بهذا المعنى غير مرتبطة إطلاقاً بتماسك مذهبي، وهذا يحيل ثانية إلى الجذر السياسي للطائفية، بينما تحيل الوثيقة الجديدة إلى تماسك مذهبي «هوياتي» أكبر على حساب الاصطفاف الطائفي الحالي. لا يمنع هذا أن يحمل التأسيس الجديد إمكانيات طائفية سياسية على أسس من التشارك أو المحاصصة بدل الاحتكار الذي مثلته حقبة الأسد.

ما تقترحه الوثيقة يبقى شرطياً على عدة مستويات. التعريف الجديد للعلوي المتخلص من أقلويته يقتضي مناخاً عاماً لا حساب فيه للمنطق العددي، أي مشروط بالعلمانية المنصوص عليها صراحة. في السياق لا يغيب عن الوثيقة انتقاد المرجعية الإسلامية في الحكم التي لازمت التشريعات السورية منذ الاستقلال، وصولاً إلى الحقبة الأسدية. ولا يغيب عنها النص الصريح بلزوم إزالة أي مرجعية إسلامية من الدستور، بحجة أن الإسلام مصدر اختلاف بين المذاهب لا مصدر الاتفاق اللازم للدولة. من دون اتهام واضعي الوثيقة، ينسجم هذا الشرط تماماً مع ما أشيع عن اقتراحات النظام حول مشروع الدستور الجديد، ما قد يتكفل بردود أفعال سلبية إزاءه. على الأقل، يمكن الجزم بأن المناخ الحالي، المكتظ بالريبة والأحقاد المتبادلة، لا يمنح واضعيها ريادة مطلبي العلمانية والديموقراطية معاً، بخاصة مع توافر عدد كبير من مثقفي الأسدية الذين قدموا العلمانية كثقافة محابية للمذاهب الأخرى، وضد الإسلام السني حصراً.

وكما في كل وثيقة مشابهة، المحك ليس إصدارها، بل ما ستلقاه من قبول لدى جمهورها أولاً. لكن يُسجّل لها أنها أول نص صريح يتفكر في ما بعد المرحلة الأسدية من دون اصطدام صريح معها، في وقت ربما تحتاج فيه شريحة من أبناء الطائفة مرشداً لتخطيها. واقعياً، حتى سقوطها التام، من المرجح بقاء الهيمنة للأسدية، لكن من المهم أن يخرج من أوساط «الطائفة» مَن يؤكد أن المنحدرين منها لن ينتهي وجودهم مع الأسد، بخلاف كثر ربطوا الوجودين معاً تحت ذريعة عدم وجود ضمانات من الطرف الآخر.

الحياة

 

 

 

ضد النظام الطائفي لا الطائفة/ باسل العودات

بين الفينة والفينة، يُلقى بوجه السوريين بيان أو وثيقة أو رسالة ينشرها علويون سوريون، غالباً مجهولي الهوية والعنوان، وبمجملها تحمل مضموناً لا يُسمن ولا يُغني من جوع، يتخذ من خلالها العلويون موقفاً ضبابياً متردداً قابلاً للتأويل والتلوّن، ولا يعترف بخطأ ارتكبوه قبل خمسة عقود وتشبّثوا به ورسّخوه حتى وصلت سورية إلى ما وصلت إليه.

لا تعبأ غالبية السوريين كثيراً بالهوية الدينية للعلويين ـ ولا لغيرهم ـ ولا تعنيهم إن كانت هذه الطائفة مُلحقة بالشيعة أم فرقة من فرقها، ولا إن كانوا نصيريين أم جعفريين، ولا إن كان لهم مرجعيات أم ينقلون عقيدتهم بالتقليد، كما لا يعنيهم أيضاً إن كان مصدر تشريعهم كتاب واحد أم أربعة، كل ما يهمهم هو أن تراجع الطائفة مواقفها كجماعة موالية للنظام استخدمها واتكأ عليها لتعميم طغيانه.

لم يجرؤ أحد حتى الآن على وصف الثورة السورية بـ (الحرب الطائفية)، فلا هي حرب قتل على الهوية، ولا حرب طائفة ضد طائفة أو مذهب ضد مذهب، ولم تشهد مجازر جماعية بسبب الانتماء الديني وحده، ويشهد مسيحيو سورية ودروزها واسماعيليوها وبقايا يهودها على أن القتل على الهوية الدينية لم يجد له مكاناً في سورية حتى الآن.

لم تكن يوماً العقيدة أو المذهب هي السبب بوقوف نسبة كبرى من العلويين مع النظام، بل الامتيازات المادية والمعنوية والإدارية المتضخمة، ولأجلها آزروه عشرات السنين، ومع انطلاق الثورة لعب النظام على هذا التأييد ليحوّل الأزمة لصراع مذهبي، فمنذ الأسابيع الأولى للانتفاضة خرجت مستشارة الأسد بخطاب طائفي قالت فيه إن الانتفاضة طائفية وتستهدف الأقلية العلوية لا النظام السياسي الذي أقنعهم بأن دورهم التاريخي قد حلّ، وأن مهمتهم هي الثأر لأحداث تعود لنحو 1300 سنة خلت، ونجح بذلك مع شريحة واسعة منهم، فأرسلوا عشرات الآلاف من أبنائهم للموت في سبيل بقائه، وارتكبوا مجازر تلامس التطهير العرقي من أجل ذلك.

يمكن الجزم بأن مشكلة السوريين مع الطائفة العلوية هي مشكلة سياسية وليست دينية، فمنذ أن تسلم الأسد الأب السلطة قبل نحو خمسة عقود بدأ عملية الفرز الطائفي لصالح العلويين، واستخدمهم لتوطيد أسس حكمه وتوسيع نطاق الدولة الأمنية التي تحمي وجوده، وأشركهم بالسلطة ثم منحهم امتيازات خاصة تزايدت لتصبح استثنائية بكل المقاييس، وأقنع شرائح واسعة منهم بأنهم ـ أفراداً وجماعات ـ أصحاب الأمر والنهي في سورية، وبما أنه هو من يحميهم عليهم بالتالي أن يطيعوه ويحموه.

تسلم الأسد الأب السلطة عام 1971 بانقلاب عسكري، وأجرى فوراً تغييرات جذرية بجهاز الحكم ووضع ضباطاً علويين في المواقع الحساسة بالجيش والأمن، هيمنوا على هذه الأجهزة وعلى الدولة أيضاً، وتحول حزب البعث والحكومة لأدوات بيد الأمنيين منهم، وصارت المناصب الكبرى من نصيبهم، أو نصيب من يرضون عنهم من الانتهازيين من الطوائف الأخرى، وكذلك الإدارات العامة والامتيازات، وحتى المنح الدراسية الجامعية صارت لهم، والبيوت المجانية والسيارات والمزارع والمساعدات الزراعية والقروض الميسّرة، وسهّل ومن ورثه الحكم لفئة منهم ليصبحوا حيتان مال، استحوذوا على معظم الصفقات التجارية والسياحية ومناقصات الدولة بالتراضي وبأسعار بخسة، فتراكمت الثروات بأيديهم.

سكت العلويون على سياسة النظام التمييزية، بل وربما قبلوا بها في أعماقهم، فلا أحد برفض نعمة تصله بيسر، ومع الأيام صارت شريحة واسعة منهم تعتبر التميّز حقاً مُكتسباً، وحموا هذا التميّز بأجهزة أمن نارية كانت دائماً تُغطي جرائم النظام وفساده وموبقاته، ما دفع بعض البيئات المعارضة لإقامة حالة من التماهي بين النظام والطائفة كلها، واعتبروها طائفة حاكمة غالبة مُتجبّرة.

خلال خمسة عقود من حكم النظام الحالي، لم يَعِفّ قسم كبير من العلويين عن الامتيازات، ولم يرفضوا التمييز داخل المجتمع لصالحهم، ولم ينتقدوا فساد رجالاتهم، كما لم يضعوا مجتمعين حداً لتغوّل الأجهزة الأمنية بكافة مناحي الحياة مُستخدمة أبنائهم، ولم يمنعوهم من إذلال السوريين، وبعد الثورة لم يقفوا بوجه توزيع السلاح على المدنيين من طائفتهم، ولم يمنعوا تشكيل ميليشيات مسلحة غير نظامية تتجاوز القانون والشرع والأخلاق، قوامها فلذات أكبادهم الذين زجهم النظام في محرقة الموت، وبطريقهم (عفّشوا) وانتهكوا حرمات بيوت المنكوبين، رغم إدراكهم أن النظام يُدمّر باسمهم ماضي سورية وحاضرها ومستقبلها.

لم تقتنع الطائفة بأن الخلاص من الأسد هو حبل نجاة سورية، ولم تُصدّق أن دولة المواطنة والحقوق هي الضمانة الوحيدة لمستقبلهم ومستقبل أولادهم، ولم تُدرك أن استفراد طائفة بالحكم بات أمراً منسياً لا يمكن تكراره في سورية، وتلبّسهم الخوف من الحركات المتطرفة المتشددة على الرغم من أن هذه الحركات عدوة لأصحاب الثورة قبل أن تكون عدوة لهم، فصاروا من خوفهم رهناً بيد النظام.

لم يصدر عن العلويين أي بيان أو وثيقة أو رسالة تؤكد على رغبتهم بالتخلي عن النظام وعن السلطة والمناصب والامتيازات والمناصب، ولم يُعلنوا ثورتهم على النظام من أجل دولة يحكمها قانون واحد لا يُميّز بين السوريين، مع استثناء شريحة وطنية صغيرة العدد انضمت للمعارضة كان يتمنى السوريون أن تكون كبيرة.

لم يطلب السوريون يوماً أن يُصدِر العلويون بيانات لتوضيح هويتهم الدينية، وليس بمجال اهتمامهم أن يُقنعهم العلويون بصلاح مذهبهم أو عدم صلاحه، كما لم يُطالبوهم بقسر الأشياء واختراع الحجج لإبعاد أنفسهم عن الشيعة أو تقريب أنفسهم من المسيحيين، فالجميع له الحق والحرية بالإيمان بما يشاء من أديان ومذاهب، لكن ما يطلبه غالبية السوريين أن يعترف هؤلاء بأن المدن الثائرة لم تَثُر لسبب ديني أو طائفي، وأن الثورة قامت ضد النظام الطائفي وليس ضد الطائفة، ويرجعوا عن خطأهم ويُعلنوا تأييدهم لإسقاط النظام الطائفي لإقامة دولة ديمقراطية تداولية لا طائفية على أنقاضه، ويساعدوا على الإطاحة بالنظام قبل أن يقدر على تحويل الحرب لحرب أهلية مُدمّرة سيكون وقودها هم أنفسهم.

المدن

 

 

 

 

الوثيقة… خطوة أولى في اتجاه صحيح/ مصطفى كركوتي

تطرح «وثيقة الإصلاح» الصادرة عن شخصيات علوية سورية موضوع التركيبة الطائفية للمجتمع السوري في شكل علني لأول مرة. فالوثيقة لم تحدد موقع علاقة الطائفة من نظام سلالة الأسد فحسب، بل أكدت تجاوز الطائفة تاريخياً هذا النظام على أساس أنها «جزء» عضوي من كلٍّ شامل يجمعها إلى الطوائف والإثنيات الأخرى المكونة لفسيفساء وطن واحد سُمّي سورية. وهي بذلك تنأى بنفسها عن النظام الذي اعتُبر خطأً نظام حكم «علوي». والوثيقة بموادها الـ35 تسمو فوق ما كتب من نصوص وتشكيلات لتعريف (وفي بعض الحالات تشويه) الطائفة العلوية والعلويين عبر التاريخ، وتؤكد أن العلويين ليسوا فرعاً من فروع الشيعة، وأنهم يختلفون عن الشيعة في المعتقدات والأعراف والطقوس.

والأهم أنها تسهم بطريقة غير مباشرة في توضيح أن ما سمّي «الهلال الشيعي» هو عملياً حلف سياسي – أيديولوجي بين إيران ونظام دمشــــق و «حزب الله»، تقوده إيران الدولة والمؤسسة الدينية لتحقيق أهداف سياسية أساساً، وهو لا يعبر بالضرورة عن موقف وفلسفة الطائفة الشيعية، كما لا يمت بصلة إطلاقاً إلى العلويين وتطلعاتهم كمكوّن من مكونات الوطن السوري. حدث ذلك بعد نجاح طهران في «خطف» الطائفة سياسياً من حاضنتها العربية، الأمر الذي طالما حذر منه رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الراحل محمد مهدي شمس الدين في أواخر التسعينات، إذ عبّر عن ذلك لأول مرة في دار السفارة اللبنانية في لندن في لقاء موسع مع إعلاميين وديبلوماسيين، نظمه سفير لبنان آنذاك محمود حمود (أصبح وزيراً للخارجية في 2000).

الوثيقة تصحح الخطأ السائد لدى كثيرين من السوريين وغيرهم لجهة تحميل العلويين كطائفة، مسؤولية ما يجرى في سورية منذ تولي الأسد الأب السلطة في 1970، وتقدم من خلال سردية تاريخية سياسية- فلسفية- روحانية نصاً صاغته نخبة علوية يغلب فيها الطابع السياسو- فلسفي لشيوخ المذهب، يتحدث عن «عهد جديد» وعن «علويين جدد» في «سورية جديدة». إنها المرة الأولى منذ نهاية الانتداب الفرنسي يشرح فيها علماء المذهب وقادة الطائفة، بحِرَفيّة معقدة ولكنْ تفصيلية، موقع الطائفة ممن حولها وتجاه كل من يرتاب بها في مسعى لإزالة لبسٍ تاريخي واضطهاد طبقي وإنساني طالما عانى منه أبناؤها وبناتها. وهذا ما دفع مؤلفيها إلى معالجة هذه المسألة ضمن محاور ثلاثة تحدد علاقة العلويين بذاتهم أولاً، وبيئتهم ثانياً، وبالله ثالثاً.

تقول الوثيقة في خاتمتها، لمزيد من التوضيح، «إن إعلان إصلاح الهوية العلوية… هو في جوهره رجعٌ لصوت الضمير الجماعي لأبناء العلويين، أبناء الأرض السورية وأشقاء أهلها، هذا الصوت كان يقول: علويون جدد، هم معبرٌ إلى سورية جديدة». الوثيقة هي بالتأكيد دعوة للتعامل بشفافية بين الطوائف كمكونات للمجتمع على أساس المساواة التامة وعلنية المعرفة بين جميع المواطنين، وهو أمر خلت منه سورية طوال فترة حكم سلالة الأسد، حيث لم يعرف المواطن العادي الحد الأدنى من المعلومات الصحيحة عن الآخر من مواطنيه. فالنظام ادعى دائماً أنه لا عناصر تفريق بين المواطنين وكأن تجاهل هذه العناصر سبيلٌ لتذويبها، فيما يقول واقع العقود الخمسة الماضية عكس ذلك تماماً، كما يكشف راهناً توحش حرب السنوات الخمس.

في الحقيقة، لم تُجرَ مكاشفة صحيحة من هذا النوع في تاريخ سورية الغابر ولا المعاصر تكون على غرار ما فعله أخيراً تجمع العلويين في «وثيقة الإصلاح»، ولعلها تفتح الباب أمام الطوائف الأخرى للحديث بشفافية عن الماضي في سياق تمرين جريء في النقد والنقد الذاتي. إنها نقلة لا بد منها لتأسيس أرضية صحية للتعايش الحقيقي بين مكونات المجتمع السوري، وهي عملية نجحت سلالة الأسد ونظامها في طمسها تحت شعارات وهمية واهية.

وكما إبان السلم، كذلك في زمن الحرب، يبقى النظام، حتى مع افتراض حسن النيات، غير قادر على الإمساك بالبلد بالاعتماد على طائفة واحدة تشكل في أحسن الحالات نحو 12 في المئة من إجمالي السكان. وكما تبيّن الوثيقة بشفافية، لم يقف العلويون سابقاً، ولا يقفون راهناً، خلف النظام في السراء والضراء، مثلهم في ذلك مثل بقية الطوائف، لا سيما تلك التي تشكل أقليات في المجتمع. فالنظام في عهدي الأب والابن تعامل وتشارك مع شخصيات وقادة ورموز من الطائفة الأكبر (السنة) كي يضمن استمراره وتكريس شخصية الحاكم – الديكتاتور وإضفاء صبغة السرمدية على قاعدة «الأسد إلى الأبد». وهو نجح في ذلك.

شيخ تجار دمشق، كما كان يلقب رئيس غرفة تجارة وصناعة دمشق الراحل بدر الدين الشلّاح، كان يفسر سر نجاح الأسد الأب في الحكم بابتكاره نهج الشراكة بدل المصادرة، أي «دخوله شريكاً معنا»، على عكس من سبقه من قادة البعث، كصلاح جديد ويوسف زعيّن وإبراهيم ماخوس الذين كانت لديهم «نزعات اشتراكية تهدف إلى تأميم شركاتنا وضرب مصالحنا كتجّار». «نحن التجار وحافظ الأسد»، يقول الشلاح، «فهمْنا بعضنا البعض ودخلنا في شراكة تخدم الطرفين». وهو نجح في تأسيس نهج عملي للإفساد داخل طوائف العلويين والمسيحيين والاسماعيليين والسنّة والشيعة وغيرهم، وظهرت تحت خيمته نخب حديثة العهد بالمال وبالأعمال بات أعضاؤها خلال زمن زهيد نسبياً من أصحاب البلايين، كرامي مخلوف ابن خال الرئيس الحالي، وقد أضيفوا إلى أعمدة النظام من الأثرياء والتجار التقليديين.

هذه التجربة التي أطلقها الأسد الأب تتلاشى اليوم على أشلاء السوريين ووسط خراب البلاد، وهو ما لا ترى وثيقة التجمع العلوي سبيلاً للخروج منه إلا على أساس بناء وطن يتساوى فيه الجميع «في ظل الديموقراطية واحترام حقوق الإنسان».

الحياة

 

 

 

قراءة أولية في الوثيقة العلوية/ سلمان مصالحة

بعد أعوام من سفك الدماء السورية، أصدرت مجموعة من الشخصيات التمثيلية العلوية، دينية ودنيوية، وثيقة تشرح فيها رؤيتها لذاتها، لمحيطها، وتضع تصوّراً لما يمكن أن تكون عليه الدولة السورية.

لا تتطرّق الوثيقة إلى بشّار الأسد ولا إلى النظام، لا من قريب أو بعيد. كما لا تشير إلى ما هو حاصل على الأرض السورية منذ خمسة أعوام. ومع أنّ المبادرين يذكرون أنّ الإعلان «لا ينزع لابتدار إصلاح ديني سواء في معتقدات أو في طرائق»، إلاّ أنّ قراءةً متمعّنة للوثيقة تكشف لنا أبعاداً دينية وسياسية. ولهذا حريّ بنا أن ننظر فيها بعيون فاحصة. يعلن المبادرون أنّهم مفوّضون من ضمائر الطائفة العلوية «لتدبير مصيرها»، بمشاركة «نخبة من الوازنين» فيها لتأسيس هيئة تشكّل «سلطة الضمير الجماعي للعلويين». لقد عُنونت الوثيقة بـ «إعلان وثيقة إصلاح هويّاتي» لتشي بما يتضمّنه العنوان من محاولة لوضع النقاط على الحروف بخصوص مغالطات كانت قد ارتبطت بهويّة الطائفة العلوية.

من أبرز المغالطات التي يحاولون تصحيحها نسبة الطائفة العلوية إلى الشيعة، بهدف تذويبها في هذا التيّار الإسلامي. لا ينفي المبادرون تسلسل ظهورهم التاريخي «في أواخر القرن العاشر للميلاد، من قلب سكان جزء دولة سنّيّة، صار في ما بعد هذا الجزء شيعيّاً، واستقرّ أخيراً أهله في العلويّة». غير أنّهم يؤكّدون، وبصورة تتّسم بالصراحة والشجاعة، القطيعة الصريحة والتامّة مع التيارات الإسلامية الأخرى: «لسنا من الإسلام النقلي، قطب التطيُّف السنّي، ولا من العقلي، قطب التطيُّف الشيعي… إنّنا من الإسلام العرفاني، قطباً ثالثاً له». ليس هذا فحسب، بل يؤكّدون إلغاء كلّ الفتاوى التي حاولت إلحاقهم بالشيعة بأيّ شكل من الأشكال. لا ينفي أصحاب الوثيقة وجود عناصر غير إسلامية في هويّتهم الدينية، ولا يرون غضاضةً في ذلك، بل يرون فيها شهادةً على الانفتاح وعلى الغنى الروحي: «يعلن أصحاب العلوية أنّ استقاءها من باقي التوحيديات هو مصدر اكتمال لها… إنّ العلوية تغتني بالتوحيديات ما سوى الإسلام».

علاوة على هذه القطيعة، ينحو المبادرون إلى العبور إلى مرحلة جديدة تقطع حبل الاتّصال برؤى سائدة لدى الكثير من الفرق الإسلامية باعتبار ذاتها الفرقة الناجية دون سواها: «ليس من العلوية في حقبتها الجديدة أن يؤمن أبناؤها بأنّهم وحدهم من قد يظفر بالنجاة… يقطع العلويون بأنّهم عافون عن فكرة الطوائف الناجية والشعوب المختارة ومؤمنون بفكرة وجود الأخيار والفُضلاء من كلّ الملل والنحل».

منذ القدم، وعلى خلفية الاضطهاد الديني للأقليّات، للذاكرة الجمعية دور مهمّ في بلورة هويّة هذه الأقليات. لا يمكن التغاضي عن فتاوى التكفير السيئة الصيت، وفي مقدّمها الفتوى بأن «هؤلاء القوم المسمّون بالنصيرية، هم وسائر أصناف القرامطة الباطنية، أكفر من اليهود والنصارى، بل وأكفر من كثير من المشركين…». إنّ فتاوى كهذه لا يمكن إلاّ أن تؤدّي إلى التفاف عصبوي، كما لا يمكن إلاّ أن تعزّز نزعات طائفية مقابلة. على رغم ذلك، فها هم أصحاب هذه الوثيقة يجنحون إلى التصالح مع الذات معلنين أنّ الاضطهاد الديني في الماضي لم يعد جزءاً من هويّتهم، بل هو عنصر من ذاكرتهم. كما يسقطون نسبة هذه الفتوى إلى السنّة عموماً، مصرّحين بأنّها «تمثّل من أفتى بها وحسب، وليس أهل السنّة».

على خلفية الشرخ السوري الكبير، يطالب أصحاب الوثيقة بإجراء مراجعة للحال السورية من جذورها، حيث يذكّر هؤلاء بأنّ الكيان السوري، بحدوده وجنسيته وعلمه، منذ رحيل العثمانيين والفرنسيين لم يكن في يوم من الأيام من صنع أهله. لهذا، يجب العودة ومراجعة الأسس التي انبنى عليها بغية الوصول إلى صياغة جديدة يتشارك فيها كلّ أطياف المجتمع. يحاول أصحاب الوثيقة وضع بعض المبادئ لتصوّر الحياة المشتركة في سورية المستقبل، فهم يدعون إلى العيش سوية على أرضية «قيم الإخوة الإنسانية والمساواة بالمواطنة والحرية». ولذلك فهم يدعون إلى نظام علماني يفصل الدين عن الدولة. أمّا الدين فهو مجرّد مصدر معنوي وقيمة ثقافية، ولا يمكن أن يشكّل مصدراً مباشراً للدستور الذي يتأسس عليه الكيان. كما يجب أن تتساوى دستوريا مكانة جميع الديانات، الإسلامية، المسيحية وغيرها في هذه القيم المعنوية.

إنّ هذه الوثيقة ذات أبعاد اجتماعية، دينية وسياسية، كما أنّها قد تُشكّل مدخلاً جدّيّاً لإجراء مراجعة وحساب للنفس تقوم به أطياف المجتمع السوري كافّة، وذلك بغية وقف النزيف في هذا البلد. ولكن، ولأجل بلوغ هذه الغاية ثمّة حاجة إلى استصدار وثائق من قِبَل أطراف أخرى، خصوصاً من الطرف السنّي، تستجيب لدعوة المواطنة والقيم والإنسانية وتعلن فيها، أوّلا وقبل أيّ شيء آخر، إلغاء فتاوى التكفير بحقّ سائر مكوّنات المجتمع الأخرى. إنّ اتّخاذ خطوة كهذه ستشكّل دلالة على صدق النوايا في إجراء حساب نفس تاريخي.

أمّا إن لم تُتّخذ خطوات كهذه، فذلك يعني أنّ الاصطفافات الطائفية والإثنية ذاهبة إلى التجذير، وستتشكّل على الأرض حدود فاصلة بين كيانات جديدة، سياسية واجتماعية، طائفية وإثنية.

خلاصة القول، إمّا علمانية دستورية تامّة تفصل الدين والطائفة عن الدولة، وإمّا التفكّك كلّيّاً ومواصلة النزيف الطائفي وصولاً إلى التقسيم الفعلي للكيان السوري.

* كاتب فلسطيني

الحياة

 

 

 

الوثيقة العلوية:هذيان مشرقي/ ساطع نور الدين

لأنها نص غير موقع وغير مؤرخ، لا تخلو وثيقة “مجموعة الإبتدار العلوي”التي تزعم الاندراج في النصوص التاريخية التأسيسية، من طابعها الراهن الذي يدخل في سجال عميق مع وثائق مشابهة تصدر في هذه الايام عن مختلف الطوائف المكونة للمشرق العربي، والتي تلوح بسيف هوياتها القاتلة او المقتولة.

لم تكن الاخطاء اللغوية الفادحة، والمعيبة فعلا، في ذلك النص المجهول مجرد تحدٍ إضافي لقراءته المتأنية والمتكررة، ولا كانت المفردات المشتقة من أصول ليس لها وجود في اللغة ولا في تراكماتها، هي سبب العناء والشقاء في تقدير قيمة الوثيقة ووظفيتها الثقافية- الدينية. ثمة افتراق مذهل عن لغة قريش، يعكسه لسان الاشقاء السوريين المعاصر، والمستمد من أسس عربية تبدو في بعض الاحيان مخادعة او حتى مزيفة. ولا يمكن ان ينسب هذا الافتراق فقط الى نقص في الثقافة اللغوية، بل الى هجرة دائمة، متجددة أخيراً، من الهوية العربية التي لم يرد ذكرها أبداً في ذلك النص التأسيسي.

السؤال عن الحافز الذي دفع “مجموعة الابتدار العلوي” لكتابة هذه الوثيقة سهل جداً ومفهوم جداً. إحساس الطائفة العلوية بالخطر الوجودي لا يحتاج الى برهان. لكن الانكفاء الى مثل هذا النص والسعي الى رد الاتهامات بالباطنية الدينية والاجتماعية والسياسية، ونفي وقائع الانفصال الاولى في القرن الماضي، لا يخدم أي غرض ولا ينفع في توضيح الأصول التي لا تتطلب توضيحاً، بل تفترض بحثاً عن القواسم المشتركة مع الاخر، او مع الاخرين جميعا، من دون المجادلة في الدور التأسيسي للكيان الوطني على طريقة موارنة لبنان، او في الغالبية والاقلية على طريقة سنة سوريا او شيعة العراق.

أنه نص هذياني خالص، لا يختلف في جوهره عن النصوص الهذيانية التي تكتبها هذه الايام مختلف الطوائف المشرقية، التي فقدت المقدرة على الحد الادنى من التعايش، فانطلقت من صفوف السنة أسطورة الخلافة ودولتها المزعومة، وشن غلاة الشيعة حملتهم الحسينية وأعلنوا ثورتهم المهدوية، وقرع المسيحيون في كافة ارجاء المشرق أجراس الانذار من حرب الابادة.

محيرٌ فعلا ذلك التركيز في النص على ان العلويين طائفة عرفانية، وهو ما يعني حسب جميع الأسس والشروط والمصطلحات، أنهم فرقة صوفية، وهو ما لا يعيبهم ولا ينتقص من قيمتهم أبداً، لا سيما وأن الشيعة يسيرون في هذا الاتجاه.. أو ذلك التشديد على أنهم اكثر ميلاً الى العقل الشيعي من النقل السني، ثم اعلان الافتراق التام عن الشيعة، الذين لا بد انهم شعروا بطعنة في الظهر من أقرب حلفائهم في مواجهة المد السني الجارف. لعله كلام سياسي ليس إلا ، لا ينم عن ثقافة فقهية ولا عن معرفة دينية عميقة، يجامل السنة بشكل موارب، لكنه يفك الحلف مع  الشريك الشيعي، الايراني واللبناني والعراقي، الذي صار مستعداً، في خطابه وفي سلوكه المذهبي، للاندماج في أسس التصوف العلوي، والمضي حتى النهاية في أكذوبة العلمانية التي يلوح بها في وجه السنة.

إذا شاء العلويون ان يسموا أنفسهم طائفة، فهذا شأنهم، وهذا مطلب حق وعدل، لكنه لا يستقيم مع أحجام الطوائف الاخرى ولا مع مطالبها أو تطلعاتها. العدالة الطائفية هي عبوة ناسفة لاي اجتماع وطني سوري لاحق، وهي مهزلة يشهد عليها السيرك الطائفي اللبناني، ولا تنتج إلا سلسلة لامتناهية من الافكار المدمرة للوطن وللطائفة وللمذهب، ولأي لقاء مختلط مهما كان متواضعاً.

لا يمد النص يد المصالحة او حتى الحوار، بل هو كأي نص ديني، يناور، يساوم، يناقض نفسه، يستدرج الاعتراف من الاخر، من دون ان يجري أي مقاربة جدية لتجارب الطوائف الاخرى وانحداراتها الاخيرة، ولا لتجربة الوطنية السورية وانفجاراتها الراهنة، ولا طبعا لتجربة العروبة التي كانت دمشق قلبها النابض، حسب الشعار الاثير، والمفتعل.

لا يمكن الجزم في ان النص يقطع مع النظام، بل هو يبحث عن مخرج منه، وله. ولا يمكن الظن في انه الوجه الاخر لوثيقة الفيدرالية الكردية الصادرة أخيراً..

ثمة هذيان مشرقي عام، لا يستثني أحداً، ولا يعفو عن أحدٍ.

المدن

وثيقة “الابتدار العلوي”: هل اقتربت لحظة البروسترويكا؟/ سعد آدم

لايشير عنوان هذا المقال  ولا يغمز مما يخفيه نص وثيقة “الابتدار العلوي” من اسلوبية “باطنية” درج عليها العلويون، ويرشح بها منطوق النص ومضمونه، ولكنه يشير الى محاولة في قراءة الحال الذي صدرت فيه هذه الوثيقة سورياً و”علوياً”، ومغزى ومعنى صدورها، وما يجاوره في الزمان والحدث إضافة الى تحديد رسالتها، التي تحاول إيصالها لمعنيين داخل الوطن السوري، وداخل الطائفة، وربما داخل نظام الرئيس السوري بشار الاسد أيضاً.

لا يبدو أن الحديث عن خلفية سياسة لصدور الوثيقة خالياً من الصواب، فلا يوجد نص ديني سياسي مهم في التاريخ إلا وكانت السياسة احد أسباب صدوره، أو كتابته ،لكن حصر صدور هذه الوثيقة بفعل ضغط سياسي يقصد منه محاصرة فريق سياسي داخلي أو خارجي، هو افتراض يفتقد الدقة، وينطلق من رؤية مبسطة بحيث يحصر نفسه ويحاول حصر الوثيقة في ثقب سياسي ضيق.

لا شك أن ما دعا كثيرين الى الذهاب هذا المذهب هو التصريح المهم والقوي الذي جاءت به الوثيقة، وهو التبرؤ من انتماء العلويين إلى المذهب الشيعي، وهو ما يحيله بعض قرائها على الفور الى ان المقصود به –  أي التبرؤ- هي ايران، وبالتالي فهؤلاء يعتقدون ان الروس هم من أوحوا بذلك على كاتبي الوثيقة وضغطوا عليهم في سياستهم السورية في هذا الاتجاه، ويقود هذا الرأي إلى استنتاج أن الوثيقة كتبت في دوائر قديمة من الحكم.

من جهة ثانية، فإن رأياً آخر ناقش الوثيقة، وانطلق من توقيت صدورها، معتبراً أنها جاءت في أواخر عهد نظام الأسد المربوط قسراً في دوائر إعلامية عربية باسم “النظام العلوي”، وهي بالتالي وثيقة تحاول تعويم الطائفة من جديد، أو تحاول إنقاذها بعدما نالها من التشويه والتحقير والتجريم الكثير، بسبب ربطها بنظام الحكم، أو ربط النظام نفسه بها قسراً.

لا شك ان هناك ما يستدعي التأويل السياسي المحض، بل القراءة السياسوية لكل فعل أو نص مهم في الراهن والماضي العربي، والسوري بالخصوص، فهذا المجال  كان حافلاً تاريخياً باستغلال الحكام لجماعاتهم وطوائفهم، فلا يتورع واحدهم عن المقامرة اوالتضحية بجماعته أو حزبه أو طائفته، أو وطنه حتى.. في سبيل بقائه على الكرسي، لاسيما إذا كان الكرسي يمسك بخناق الطائفة او الجماعة او الحزب.

في قراءة مغايرة لذلك الرأي في الوثيقة، فإنها تذهب للقول إنها إجابة لطالما طالب بها السوريون إخوتهم، أو خصومهم العلويين، عن سؤال، بل اسئلة: من انتم؟ ماهي عقيدتكم؟ لماذا تتكتمون حيالها وتنهجون التقية بما يخصها؟

“الابتدار العلوي”، وهو العنوان الأكبر للوثيقة “إعلان وثيقة إصلاح هوياتي” والختم الذي مهرت به صفحاتها، يقدم الاجابة، أو محاولة مهمة للاجابة، لكنها لن تعجب كثيرين من النخبة السورية، وربما لن تعجب كثيرين من النخبة العلوية أيضاً، ولاشك أن علويين كثراً في كافة المستويات سيرمون هذه الوثيقة وكتابها بحجارة الاتهام والتشكيك..

وعلى الرغم من خلو الوثيقة من أي توقيع، وهو أمر لافت جداً للانتباه ومثير للاحتجاج، يفقدها جزءاً مهماً من مصداقيتها، إلا أن هذا الأمر يجعلها أقرب الى النمط الباطني عند العلويين تاريخياً، أي الجنوح الى الاحتجاب والتخفّي، وهو نمط في الحياة والفعل والفكر، سببه العميق هو الخوف من الآخر.

لو صدرت الوثيقة بتواقيع لكان لها معنى ووقع مختلف أقرب ما يكون الى السياسي الراهن المباشر والعام، والوثيقة تتجنب ذلك ليكون لها معنى فكري ديني وحقوقي، دائم ومستمر، يتجاوز اللحظة الراهنة، ويقفز فوق المأزق التاريخي للطائفة والوطن، بحيث تكون نصاً وحدثاً معاً في الوقت عينه، وهو ما تطمح إليه النصوص المؤسسة في التاريخ.

بالعودة الى عنوان الوثيقة “الابتدار العلوي”، فهي كلمة منحوتة تشير الى انها اولاً مبادرة من مجموعة علوية -نخبوية- نحو سائر العلويين والسوريين، وهي تنتظر لأجل ذلك رد فعل رصين وموضوعي، يدفع النخبة المثقفة السورية إلى مد اليد لها. وثانياً، تشير الكلمة أيضاً الى البذار، ووثيقة “الابتدار العلوي” تحاول نثر بذرة تجديد في العقل الديني للعلويين، محرضة إياهم على تفكير يتجاوز الماضي والراهن على كل الصعد، وتفتح الباب لتجديد في الفكر الديني في سوريا، والمنطقة، ينطلق من داخل المذاهب والطوائف نفسها، وليس من جانبها أو خارجها. وهي فوق ذلك في المستوى السياسي وثيقة تفتح الباب ايضاً إلى “بروسترويكا” تطاول النظام السوري نفسه، ومن داخله؟!

المدن

 

 

 

العلويّة والسنيّة السوريتان ومسألة الدولة/ حمّود حمّود

قد يُعتبر ما بناه العالم السني على مدار تاريخه في ما يخص مدوناته الفقهية، من أضخم ما أنتجته مكتبات عالم الأديان والطوائف. لكن، هل نجافي الحقيقة إذا قلنا إنّه، على رغم هذا التشكيل الضخم (الذي يُعاد إنتاجه ألف مرة اليوم، شرحه وشرح على شروحه…)، فإنّ قادته فشلوا فشلاً كبيراً في الإجابة عن «سؤال المؤسسة» أو قل «سؤال الدولة» (طبعاً بالمعنى الحداثي الصرف).

فسؤال العنف والقهر، قهر الخصم في الاستحواذ على الدولة، لهو سؤالٌ، على رغم قدمه التراثي، ما زال يكتسي حضوراً قوياً في العالم الأصولي، السني والشيعي. والحال أنّ التأسيس السني، في بارادايمه الثقافي والتاريخي، تأسيس قائم على السلطة، لكن بـ «الغلبة والقهر»، أو على وجوب بيعة «أهل الشوكة» أو ذوي القوة والسيف. أما التأسيس الشيعي فقائم أيضاً، تاريخياً جداً، على معاداة الدولة من خارج أسوارها، ودائماً على معارضة المركز أو السلطة المركزية.

لقد سار التاريخ الإسلامي بالفعل وفق نموذجين: تشكيلات قهرية مركزية، وتشكيلات «أقلوية» «طرفية» معارضة لهذا القهر. «اللادولة» هو العنوان الرئيس لمثل هذين البارادايمين الإسلاميين.

الفشل في بناء الدولة لا ينفي بالطبع حقيقة أنّ المدونات الفقهية السنية مهدت الطريق بالفعل إلى قيام «سنية سياسية» حديثة. بيد أنّ هذه «السنية» لأنها مفككةٌ، تفكّك العالم السني نفسه عن ذاته، ولأنها تصر، على أيدي أصولييها، على العمل خارج أسوار الدولة فإنه من الصعب، والحال هذا، إنتاج «مؤسسة»، سوى ما نجده اليوم في تحول هذه السنية السياسية إلى سنيّات طائفية مسيسة، أشدها اليوم في سورية والعراق. مثل هذه السنيات الطائفية المسيّسة هي ما نجده اليوم وهي تقف كبديل قوي عن مشروع الدولة.

مماهاة السنّة بالدولة أو تعريف الدولة بالسنة أحد أوجه الانحطاط الخلفي في الفهم الأصولي السوري للدولة، سواء أتى هذا الانحطاط من الإخوان السوريين أو من لفّ لفّهم خارج الدائرة الأصولية ممن يصر على حمل «اسم» ماركس، على رغم أصوليته السنية. وعلى أية حال، إذا كان من الصعب على أصوليي السنّة من السوريين النظر إلى ذواتهم الهوياتية من غير استخدام نظارات الدولة، فهذا لن يصنع منهم أبناء دولة، طالما أنّ هذا المفهوم لم يتمكن في العالم السنّي وفي التاريخ الحداثي القريب من التماهي مع بناء المؤسسة. الحروب في البلاد السورية اليوم تعاود تأكيد، وإنْ في شكل مختلف، أنّ صراع الأصوليين للاستحواذ على الدولة استمرار لمعركة كبرى، معركة صراع الأصوليين من أبناء السلطنة العثمانية وخارجها ضد الغرب حينما تسبّب الأخير بـ «جرح عميق» في العالم السني، وذلك بسلبه السلطة منه.

المسألة لم تكن عند أصوليي السنة (الذين أخذوا بالتشكل غداة شيوع آثار «الرجل المريض» وبعد موته نهائياً في 1924)، أنّ الغرب سرق الدولة (وبطبيعة الحال، الغرب أهداهم الدولة بمعنى المؤسسة)، بل إنّ السلطة سُلبت إلى الأبد من أيدي السنة.

مثل هذا «الجرح السني» يلقي بعضاً من الضوء على اختلاط المفاهيم في الشارع الأصولي السني، وكثير من هذا الاختلاط متعمّد، بين مفاهيم الأمة والدولة والسلطة، من جهة، ومن جهة أخرى، على أنّ الصراع الدموي الذي تقوده خلايا النحل من الأصوليين هو من أجل السلطة (طالما أنهم يماهون مخيالياً بين الأمة والإسلام): صراع لا من أجل الدولة، بل على الدولة. وهذا يمثل أحد الأسباب الكبرى في الفشل الذريع في العالم السني المشرقي في التأسيس لدولة، أو لنقل لمؤسسة.

حال «أهل الشوكة» يقارب، في نموذجه القهروي، ما قام به علويو سورية بالغلبة وقهر السنة (هل نحن أمام «بندول تاريخي إسلامي»، إذا استعرنا هذا المصطلح من إرنست غلنر؟). نقول هذا الكلام على رغم أنّ التأسيس العلوي يفتقر إلى علوية سياسية، أو قل «كهنوت علوي مؤسساتي»، بالمعنى الشيعي والسني. وفي الواقع، إذا كان هناك جزء من العلويين، ممن لم يعد يستطيع النظر إلى ذاته أيضاً سوى ضمن أفق نظارات الدولة (سورياً تحديداً)، فهذا لم ولن يجعل من نفسه ابن ميراث دولة، أو أنّ ثقافته السياسية قائمة على فكر الدولة أو المؤسسة، بحيث لم يعد يستطيع العيش من غير قيام الدولة. الحال على عكس ذلك للأسف. ما فعله حافظ الأسد أنه لم يخرج العلويين من الطائفة إلى المؤسسة أو الدولة، بل من الطائفة مباشرة إلى السلطة، لم يخرجهم من الريف إلى المدينة، بل مباشرة إلى السيطرة، وبالسلطة والشوكة، على فضاء المدينة. وهذا بالطبع، لن يصنع من هذا الجزء السوري صنّاع دولة، أو «أبناء مؤسسة».

وهذا يعود الى أسباب تاريخية كبرى، ليس أقلها أنّ الدولة لم تساو سوى السلطة، من جهة، ومن جهة ثانية، هناك غياب الدولة لا عن هذا الجزء العلوي فحسب، بل عن معظم الطوائف الأخرى، بما فيها الأجزاء السنية (التي يصر اليوم طائفيون هوياتيون كثر على إخراجها من ربقة اصطلاح الطائفة. لماذا؟ لأنها الأمة!).

المسألة إذاً هي، من الناحية التاريخية والثقافية، الافتقار إلى خبرة الدولة وتجربتها، بفكرتها حتى، أي الافتقار إلى الرابط السياسي المؤسساتي بين الأمة والدولة. وهذا ما تبرهن بعضه الحروب السورية الأخيرة بين السنّة والعلويين. كل من الطرفين تتملكه قوى خارقة في إظهار شهوة الموت والدم: أصوليون علويون (وهم يُقادون بحفنة من أصوليي طهران) يظهرون على خشبة مسرح الأصوليات في وجه إجرامي لم يعهده تاريخ الإسلام العلوي، من جهة، وأصوليون سنة يظهرون في وجه إرهابي جديد، وجه داعشي ونُصروي معولم، يتعشقون ويعشقون إكمال مسيرة المجازر بحق الأقليات. كل من الطرفين تتملكه كل القوى لإبادة نقيضه الطائفي (لكن لنؤكد أنّ هذا النقيض الهوياتي ما هو إلا «وهم أنوي»). كل من الطرفين تتملكه كل القوى في تدمير كل ما له صلة ببناء المؤسسة والدولة، والبقاء في حظيرة الدفاع عن أسوار الطائفة.

أما أنْ نذهب بهذا لنؤكد أنّ المشرق يلفظ أنفاسه الأخيرة (كما يرغب بعض الباحثين الغربيين)، فهذا ما لا نستطيع السير معه، طالما أنّ إمكانات التاريخ تبقى مفتوحة ومتعددة.

الحياة

 

 

 

 

سورية جديدة… وعلويون جدد/ عدلي صادق

مثلما لا يصحّ أن تكون الديانة حُجة على معتنقيها، في خطاب من لا يعتنقونها؛ فإن النصيْرية واحدة من هذه الديانات، أو المذاهب إن شئنا. مناسبة الحديث هو ظهور تلك الرؤية، ذات المنحى الفلسفي والتاريخي التي أسماها أصحابها النصيريون “وثيقة الإصلاح”، وأعربوا من خلالها عن رغبتهم في “عهدٍ جديد”، تصبح فيه المواطنة المتساوية التي يوفرها نظام ديمقراطي الضامنة لمستقبل طائفتهم، وملبيةً رغبتهم في مغادرة الإحساس بالمظلومية التاريخية الذي استثمره النظام، واهتم بتغذيته، بتكثيفٍ عالٍ، أربعة عقود. كان يتعمّد لكي يجعل نفسه مؤسسة الطائفة وشرط بقائها، وسبباً لإبقائها مشبعةً بفكرة صراع الوجود، فقد كان ذلك الاستثمار هو الذي أربك علاقة العلويين بمن حولهم، فيما هم يميلون في أعماقهم إلى علاقةٍ وطيدة، بغير ارتياب، مع أشقائهم في الوطن وفي الحياة. فأصحاب الوثيقة، الذين ينتمون إلى فئة النخبة، من شيوخ ومثقفين، حسموا أمرهم، واعتبروا مظلومية طائفتهم جزءاً من ماضٍ، لا ينبغي أن تكون له ردود أفعال سياسية وأمنية، ولا تبرّر إيقاع مظلومية أفظع بكثير، بالطائفة الأكبر، وبشعب الوطن كله.

كان لافتاً، ضمن المواد الــ 35 في الوثيقة العلوية، أن من صاغوها تعمّدوا تعيين الفارق بين المذهب الشيعي، بكل فرقه، والمذهب النصيري، والتأكيد على الاختلاف بين الطرفين، في المعتقدات والطقوس والأعراف، ما يعني أن أخذ الطائفة إلى المربع الإيراني لا يعدو كونه توظيف الطائفة، لصالح حلف أيديولوجي ــ سياسي، تقوده طهران، بمؤسستها الدينية، ولا يعبر عن طموحات العرب العلويين، ولا حتى عن العرب الشيعة. بل إن ظاهرة التدين، والميل إلى مشروع أصولي، لا يناسبان طائفةً يُعرف عن غالبيتها الاكتفاء بقليلٍ من الكلام الرمزي، وعدم الميل إلى التعبّد، وغير موصولة بأوقات احتشاد للاستماع إلى خطابةٍ حادة، مع الصلاة أو بدونها.

يدحض هؤلاء فكرة أن العلويين هم الذين حملوا وحدهم، أو أكثر من حملوا، المشروع الديكتاتوري، ويقولون إن التعامل بشفافيةٍ بين الطوائف، كمكوناتٍ للمجتمع، على أساس المساواة التامة وعلنيّة المعرفة بين جميع المواطنين؛ أمرٌ خلت منه سورية طوال فترة حكم سلالة الأسد، حيث لم يعرف المواطن العادي الحد الأدنى من المعلومات الصحيحة، عن الآخر، من مواطنيه. فالنظام ادّعى، دائماً، أن لا عناصر تفريق بين المواطنين، وكان يتجاهل هذه العناصر، بهدف تذويبها، غير أن الممارسات، في واقع العقود الخمسة الماضية، كما يقولون، كانت بالعكس تماماً، مثلما يكشف زيف القول بتمثيل السلطة للشعب السوري، هذا التوحش الذي شهدناه خلال السنوات الخمس الأخيرة.

من بين عناصر دحض فكرة تحميل العلويين أوزار النظام، يقول أصحاب الوثيقة، إن هذا النظام، في عهدي الأسد الأب والأسد الابن، تعامل وتشارك مع شخصياتٍ وقادةٍ ورموزٍ من الطائفة الأكبر، وساعده كثيرون على تكريس شخصية الحاكم ــ الديكتاتور، وإضفاء صفة السرمدية عليه، وروّجوا مقولة “الأسد إلى الأبد”. وهذا صحيح، شاهده كاتب هذه السطور بنفسه، في نوفمبر/ تشرين الثاني 1970 عندما عُلقت في وسط دمشق، وعند مدخل سوق الحميدية، لافتات تقول: “طلبنا من الله المدد، فأرسل إلينا حافظ الأسد”. أيامها، كان رئيس غرفة تجارة وصناعة دمشق، بدر الدين الشلاح، يفسّر أسباب ابتهاج التجار بمجيء الأسد، بأن النظام الاشتراكي الذي زج الأسد برموزه في السجن، كان يريد تأميم شركاتنا وضرب مصالحنا، و”قد جاءنا من يدخل معنا في شراكة، ويفهمنا ونفهمه”.

نعلم، من نص وثيقة العلويين من النخبة، أنهم يتطلعون إلى مرحلة ظهور “علويين جدد”، حسب تعبيرهم، في محاولةٍ لتمثيل ضمير طائفتهم، غير أن علويين جدداً، بمعنىً مغاير، ومن كل الطوائف والأديان، يظهرون في سياق الدفاع عن النظام، بذريعة الخوف على سورية من الإسلاميين، بكل تدرجات خطاباتهم.

العربي الجديد

 

 

«العلوي في المجتمع» السوري: صمتان مدويان في «إعلان وثيقة إصلاح هوياتي»/ حسن منيمنة
الوثيقة الصادرة عن «مجموعة الابتدار العلوي» والتي تداولتها الصحف العالمية، مع اعتبار كاتبيها من أعيان الطائفة العلوية السورية، هي وثيقة تاريخية، بغضّ النظر عن أبعادها السياسية. وهي إذ تقتضي التفاعل معها بما يظهر إيحابياتها، ويطالب كاتبيها بمتابعة النظر بما هو أقل إيجابية فيها، فإنها بشكل خاص تتطلب المساءلة حول حالتين من الصمت المدوي في طياتها، الأولى بشأن الآخر، والثانية بشأن الذات.

أما الصمت الأول، فقد اجتهدت الصحافة العالمية بمحاولة إنكاره، إذ سعت في استقراء بذور خلاف داخل هذه الوثيقة بين النظام السوري والطائفة العلوية، والتي تشكل الركيزة الأولى له في حشد شبابها ورجالها لمعاركه. وأقرب ما يكون إلى النجاح في هذا الصدد هو في إبراز عبارة «فبقية السوريين يبتدرون بالانتفاض، قوة الغضب المحق». إلا أن هذه العبارة تكاد أن تكون استطرادية. وقد وردت وحسب في سياق توصيف حال العلويين إذ تتابع الوثيقة «أما العلويون، فيبتدرون بالإصلاح الهوياتي، قوة سلطة الضمير الجماعي».

والواقع هو أن هذه الوثيقة، إذ تتطرق نظرياً وتاريخياً إلى حال الدولة السورية، لا تبدو معنية بمساءلة الحاضر أو الماضي القريب، بل باستثناء هذه الإشارة العرضية، تقع بكاملها خارج سياق الحدث السوري ظاهراً، رغم أن هذا الحدث كان دون شك الدافع إلى تشكيلها. وتغييب هذا السياق، بما ينضوي عليه من مآسي تستدعي الرفع، يحسب على الوثيقة، إذ يتعارض مع روح المصارحة والمصالحة، مع الذات والآخر، والتي يبدو أن النص يسعى إليها.

والمسألة هنا ليست لاستثمار بوادر خلاف بين النظام وحاضنته، فالخلاف قائم وإن لم يكن معلناً. حيث أن القِيَم التي يجاهر بها مؤلفو الوثيقة لا تتيح المجال للوقوف في صف النظام، بما ارتكبه من جرائم وأرساه من مظلوميات وأثاره من غرائزيات، وهذا حتى لو كان عموم السوريين السنة من التكفيريين القتلة، وهم ليسوا كذلك بتوصيف الوثيقة نفسها.

وكي لا يكون سرد المبادئ استدعاءاً غير معني بالتطبيق بما يعرّضه للاتهام بالتوظيف، فإنه لا يمكن الفصل بين الولاء للحق والبراء من الباطل. النظام مجرم، برئيسه وأفراده ومؤسساته، ولا بد من عدالة وعقاب للجرائم التي ارتكبت بحق الإنسان والوطن والإنسانية. وهذه لا محالة نقطة انطلاق أولية في مقاربة الحالة السورية اليوم من حيث القِيَم، وإن تخلّفت السياسة وصائغوها لأغراض فن الواقع عن المجاهرة باليقين.

وفي حين أن توريط النظام للطوائف والعشائر والشرائح المدينية في الجرائم التي اقتضاها بقاؤه لم ينطلق من قناعة طائفية أو ولاء عقائدي، إلا أن الواقع هو أنه ترغيباً وترهيباً قد زجّ بنسبة مرتفعة من السوريين العلويين في أفعاله مؤسِّساً لوصف يجعل من الانتفاضة على الظلم والظالم حرباً سنية علوية، وهو وصف قاصر ومجحف دون شك، غير أنه وجد رواجاً في الأوساط السنية والعلوية كما في غيرها، واستقدم للانتفاضة بعد انتقالها إلى المرحلة المسلحة من المقاتلين السنة من خارج سوريا أعداداً كبيرة، استنزفت طاقتها وحرّفت مسارها، بغضّ النظر عن النوايا، ما يشكل نجاحاً للنظام، تجسّد في إطالة أمد المأساة وتأجيل السقوط المحتوم.

فوثيقة «الإصلاح الهوياتي» تعتمد الإنكار الضمني في شأن الطبيعة الطائفية للمقتلة في سوريا من جانبيها، فلا هي تتطرق إلى عمق التوريط للسوريين العلويين في جرائم النظام، ولا هي تولي مخاوف العلويين حقّها من مواطنيهم السنة وليس فقط من المجاهدين المهاجرين، ساعة استحقاق سقوط النظام. ورغم الفائدة التي قد تكون مرجوة من هذا التصوير، لجهة التحضير لصلح مدني اجتماعي، إلا أنه يناقض التجربة المعاشة خلال الأعوام الماضية وهو بالتالي ليس قادراً أن يترسخ، بل من شأنه وحسب أن يطلق مرحلة تكاذب يزدوج فيها الخطاب بين عام يزعم الصلح وخاص يعبّئ لانفجار لاحق.

بوسع كاتبي الوثيقة أن يتجاوزوا أوجه النقد السابقة من خلال الإشارة إلى الجمهور المقصود بوثيقتهم، فليس هو عموم السوريين أو غيرهم، بل العلويون تحديداً. فالمصالحة الوطنية، بما فيها الإفصاح عن كافة المخاوف والمظالم، هي مسألة لزمن لاحق، فيما اللحظة الآنية هي لتوضيح الهوية.

ولكن الوثيقة تتعسّف في سعيها إلى تأطير الهوية. فالعلويون، من منظورها، ليسوا طائفة واحدة وحسب، بل العلوية هي كذلك مذهب عقدي واحد. فلا اعتبار بالتالي للتعدد والخلاف وعدم الانتظام في الإطار الذي تقرّره الوثيقة. والمسألة ليست فقط مسألة ملحدين ولادينيين وعلمانيين من الذين يحصّنون الدين بالخاص، بل هي تحديداً أصحاب القناعات والاعتقادات الدينية العلوية غير المتوافقة مع التعميم الاختزالي التي تشهره الوثيقة. فوفق هذا التعميم، العلوية هي النهج الثالث في الإسلام، إزاء السنية التي تشكل النهج الفقهي النقلي، والشيعية التي تجسد النهج الفقهي العقلي. فالعلوية سرّانية عرفانية غير مقيّدة بالفقهية.

وفي هذا التصوير تسطيحات متداخلة. فالعوالم الفكرية السنية والشيعية وكذلك العلوية، بعيدة كل البعد عن إمكانية إخضاعها لاختزالات مجحفة كهذه. ومصطلح السنة اليوم يقابله ما عرف في صدر الإسلام باسم الجمهور. فحصر السنية بالفقه النقلي قد يروق لبعض علماء السلفية، ولكن هؤلاء، بغضّ النظر عن قناعاتهم الذاتية، ليسوا أوصياء على السنية المُعاشة، ولا حتى على السلفية المعاشة، فهذه من خلال التزكية تلتقي من حيث تدري أو لا تدري مع الصوفية. ولا بد هنا من التنويه أن الظاهرة العرفانية الأعرق والأوسع والأكثر انتشاراً وتشعباً في السياق الإسلامي هي تحديداً الصوفية ذات الحاضنة السنية. فالوثيقة، إذ تدين ابن تيمية في فتواه، تلتزم تعريف بعض من يجاري ابن تيمية في حصر المعيارية السنية بالمنهج السلفي الفقهي النقلي، في حين أن بلاد الشام كانت ولا تزال شاهدة على ثراء التجربة الدينية السنية الفقهية وغير الفقهية وتعددها، من الأوزاعي إلى أبو العلاء المعرّي وابن عربي. وكذلك حال العالم الفكري الشيعي، حيث الأخبارية والأصولية والشيخية والكشفية وولاية الفقيه محطات، والعرفان كما الاجتهاد أداة منهجية. وكأن الوثيقة، لإبراز التعارض، تقرر الغلبة لمحطة وأداة على حساب غيرها.

على أن الاختزال الأكثر شدّة هو ما يطال العلوية نفسها. فرغم إعلان الوثيقة أن الإصلاح الهوياتي المقصود لا يهدف إلى إصلاح ديني، فإن التصور الديني الذي تسقطه الوثيقة على العلوية، تشذيباً وتهذيباً، إهمالاً وإلصاقاً، هو فعل تشكيل ديني صريح. ومن حقّ المفكرين طبعاً أن يستخلصوا ما يعتبرونه جوهر إيمان مذهبهم وأن يعيدوا صياغته بلغة جديدة، ثم أن يتابعوا انسجامه مع السجل التاريخي، بإلقاء الضوء على ما اتفق وحجبه عمّا اختلف. إلا أن الصدق مع الذات يتطلب الإقرار عندها بأن هذا فعل إصلاح ديني وليس متابعة استقرائية بحتة.

والباطنية في سعيها لتبين المستور، كما التصوف أو العرفان في الطريق إلى الحقيقة، والفقه في الذهاب إلى الشريعة، والعقيدة في الكلام إلى التوحيد، والحديث في الرواية إلى السنة، من المناهج الأصيلة في الموروث الإسلامي، وإن نعتها أبو حامد الغزالي وابن تيمية بشرّ النعوت. وجميع هذه المناهج مبنية حتماً على الرصيد الإنساني المشترك في السعي إلى كنه المعنى. فلا حرج من اعتماد تسمية السلف لمنهجه، ولا حاجة لاستدعاء مصطلحات مستحدثة من وحي التجربة الغربية، وهو ما تفعله الوثيقة في تكرار الإشارة إلى السرّانية، وكأن السلف كان قاصراً في تعبيره، أو في صياغته للمفاهيم.

إشارتان مقتضبتان تتوجبان هنا، الأولى أن موضوع السرّانية هذا تدحرج في ثقافة المنشأ، أي الغرب، من الغموض والاحترام، إلى الشبهة والإسقاط، فلا حاجة لتحميل مقام المكزون السنجاري مثلاً، أعباء هذا المصطلح وتبعاته. والثانية هي أنه ثمة تجربة مشابهة لدى بعض النخبة الفكرية في طائفة أخرى، هي الطائفة الدرزية اللبنانية، في ثمانينات القرن الماضي وتسعيناته للتواصل مع ما بدا وكأنه من المشترك الباطني الإنساني. غير أن هذه التجربة لم تنتج الإصلاح الديني، ولا ارتقت بالمعتقد إلى مرتبة المشهود الإنساني، ولا هي حصّنت الطائفة إزاء ما شهدته لاحقاً من قطعيات، بل لربما أسّست لها عن غير عمد.

ولكن الأهم، لجهة التنبيه إلى الاخترال المجحف، هو أن أصل العلوية، في مسمياتها السابقة قد يكون باطنياً وفق قراءة النخبة الفكرية، إلا أن ذلك لا يعني لزاماً أن العلويين اليوم في ممارستهم لدينهم باطنيين، أو سرانيين، أو عرفانيين. فالمناهج الدينية مادة النخبة. أما العموم، وإن سلّموا نظرياً بأحقية النخبة في منهجها، فهم بحكم الواقع ليسوا منهجيين بل تعبديين. وعامة العلويين، كما عامة غيرهم، تعتمد قدراً من الشعائرية التعبدية، هي أقل بالنسبة لمعظمهم، وأقداراً من المعتقدات حول العلاقة بين العابد والمعبود يجتهد رجال الدين في اعتراض تحولاتها المتحققة على كل حال.

وللطائفة العلوية خصوصية دون شك من خلال الصياغة الدينية التي شاءت ضمّها إلى الشيعية الإمامية الجعفرية، والتي نالت تأييد حافظ الأسد بعد أعوام قليلة من استيلائه على الحكم عام ١٩٧٠. ففعل الصياغة هذا، رغم قطعيته، لم يكن معدوم الأسس. إذ في أعقاب ظاهرة سلمان المرشد، والتي صدعّت الطائفة، كان ثمة توجه لدى بعض رجال الدين العلويين إلى إكساب الطائفة مقومات شعائرية وفقهية أوسع، والمنهل في هذه وتلك، لضمان التمايز وتثبيت المشروعية، كان الشيعية. وصدر من رجال الدين العلويين على مرّ العقود التأكيد تلو التأكيد على أصالة التشيع العلوي. وكانت خاتمة بيان موسّع وقّع عليه ثمانون من رجال الدين العلويين في سوريا ولبنان ونشر في نهاية الستينات من القرن الماضي، بعد إدراج العقيدة العلوية في الإطار الشيعي بكامل تفاصيله أن «تسمية الشيعي والعلوي تشير إلى مدلول واحد وإلى فئة واحدة هي الفئة الجعفرية الإمامية الأثنا عشرية».

وهنا الصمت المدوي الآخر في هذه وثيقة الإصلاح الهوياتي. إذ هي لا تتطرق إلى هذا الجانب من التاريخ الديني العلوي المعاصر. فإذا كان هذا الجهد التشييعي غير صادق جملة وتفصيلاً، فالكلام عن الإعلان عن الذات «خالصين من التقية» لا يقتضي إهماله، بل يلزم تبيان أسبابه. وما هو أرجح في اقترابه من الحقيقة هو أن الجهد التشييعي لم يكن كاذباً، ولكنه لم يستقطب جميع العلويين، ولا سيما منهم من جسّر ضعف الشعائرية العلوية باتجاه لادينية عملية، وإن حاولت أن تتقمص العلمانية دون أن تتخلى في معظم الأحوال عن الطائفية أو الحس الطائفي.

فبصمتها المزدوج وبمشروعها الديني غير المصرّح به، لا تبدو الوثيقة لقارئها من خارج الطائفة العلوية على أنها دعوة إصلاح للهوية الجماعية في سياق سوري، بل سجال داخل الجماعة حول الهوية بين طرحين مكتومين، الأول يدرج العلوية تحت المظلة الشيعية، ويستفيد من دعم مؤسسات رسمية ومن حضور إيراني متعاظم، ويعتمد على مقولة المقاومة للبقاء عند رأس هرم السلطة، والآخر يسعى إلى تجاوز الإثقال الذي يلقيه هذا الإدراج، والمتجسد خاصة بالتبعية والمعارك المفتوحة والتي استنزفت الطائفة بقدر يفوق سائر مكونات المجتمع السوري، وذلك من خلال الارتقاء إلى ندية مع السنة والشيعة جهاراً، والتعويل على علمانية السياسة لتجنب فخ التهميش.

هذا السجال قائم لتوّه في محافل التواصل الاجتماعي بين أصوات داخل الطائفة العلوية تزايد على طرح الوثيقة بالحديث عن العلوية كدين سوري تام مستقل، علماني في سياساته، وبين أصوات أخرى صادقة في توقها لشعائرية جديدة تجد البعض منها في الطقوس الشيعية.

وقبل بحث حال «العلوي في المجتمع»، فإن التوضيح مطلوب حول «المجتمع العلوي» نفسه، فهذا المجتمع، شأنه شأن «المجتمعات» السنية والمسيحية والدرزية والإسماعيلية والإمامية وغيرها في سوريا، ليس قابلاً للتأحيد. ولكنها جميعاً، معاً، على تعدديتها واختلافاتها الداخلية، قابلة تلقائياً للتوحيد في إطار يضع الإنسان السوري، بخصوصيته الفردية، كالقيمة الأولى في البحث السياسي والمجتمعي عن المعنى. أما كنه المعنى الديني ومفهوم الإلوهية على أساس المناهج المتنوعة، فموضوع بوسع السوريين أن يتفقوا أن يبقوا فيه كما كانوا على مدى العصور، على خلاف لا يفسد الوئام.

الإعلان، بالمطلق، ورغم كل التعليقات، خطوة إلى الأمام. تحية صادقة لكاتبيه.

حسن منيمنة هو مساهم في تحرير “منتدى فكرة”. وقد تم نشر هذه المقالة في الأصل من على موقع “منتدى فكرة”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى