صفحات الثقافة

عن سقوط القنابل/ سنان أنطون

 

 

نقرأ في لسان العرب أنّ «القَنْبَلةَ والقَنْبَلَ: طائفةٌ من الناس ومن الخيل، قيل: هم جماعة الناس، قَنْبلةٌ من الخيل، وقنْبَلةٌ من الناس طائفة منهم والجمع القَنابِل». ونقرأ أيضاً «قَنْبَلَ الرجلُ إذا أوقدَ القُنْبُل وهو شجر» ولعل المعنى الأخير هو السبب في ترجمة Bomb إلى «قُنْبُلة» في عربيّتنا الحديثة.

تزدحم سماوات المنطقة هذه الأيّام، من سوريا إلى اليمن، بوابل كثيف من القَنابل الساقطة. كلّ قُنْبُلة تبحث (أو بالأحرى يبحث مطلقوها) عن قَنْبَلةٍ من الناس وتجدهم فتحولهم إلى جثث وأشلاء، لإيصال رسالة إلى الطرف أو الأطراف الأخرى، ولتسجيل نقاط ضدها في حروب لا تبدو نهاياتها قريبة بتاتاً. وهناك متلازمة يلاحظها المرء، وهي ليست جديدة، وسبق أن كتبتُ عنها في هذه الفسحة، ولكن لا بد من العودة إليها مجدداً. وهي تلك التي تتعلّق بالمعايير المزدوجة التي تتحكّم بالتغطية الإعلاميّة، وكذلك بالكثير من ردود الفعل على وسائل التواصل الاجتماعي، لوقائع وآثار سقوط القنابل (على المدنيين). وهذه المعايير تحدد، في حالات معيّنة، مقدار الشرّ والوحشيّة اللذين يجب أن ينسبا إلى مطلقي هذه القنابل ومسقطيها، من ثم أحقيّة أن يحتسب أولئك المدنيون الذين تسقط عليهم ضحايا. ولكنها، في حالات وسياقات أخرى، تهمّش الضحايا المدنيين أو تغيّبهم كلياً، وتتغاضى عن وحشية القصف الذي يتعرّضون له. فالإطار الأيديولوجي وقاموس التخندق السياسي هما اللذان يترجمان ويصنّفان معنى القصف وثقل القنابل ووقعها (أو خفّتها حتى اختفاءها كليّاً عند الضرورة) ويتكفّلان بتنزيه القاصفين و/ أو تبرير القصف، هذا إذا لم يتم الاحتفاء به بفجاجة (كما فعل كنعان مكية مثلاً، أثناء القصف الأميركي على بغداد في 2003 عندما كتب أن «للقنابل وقع الموسيقى على أذنيه»). وكأن القنابل لدى هؤلاء، تسقط على أشباح أو على فراغ. ولو كانت تسقط في مكان وسياق آخرَين، وعلى بشر آخرين، لكان وقع سقوطها نشازاً وجريمة كبرى بالطبع.

وإذا كان هدف إسقاط الطاغية وتحالف أمثال هؤلاء مع من يسقطه «يحلّل» القصف في فقههم الليبرالي «الإنساني»، فإننا نجد، على الطرف الآخر، أعراض هذه المتلازمة لدى الكثيرين ممن يحسبون على معسكر اليسار المعادي للإمبريالية. هؤلاء يقظون دائماً وصادحون في رفضهم للتدخّل الأميركي وتنديدهم بقنابل الولايات المتحدة وحلفائها. لكنهم يلزمون الصمت إزاء التدخّل الروسي والقنابل الفتّاكة التي يسقطها في سوريا، والتي لا تسقط هي الأخرى، على أشباح ولا فراغ. وكلّما عادت الولايات المتحدة (وحلفاؤها) نظاماً ديكتاتورياً وشنّت ضده حرباً إعلاميّة وفعليّة، يبدأ هؤلاء بالدفاع عنه وتبرير جرائمه وسجلّه بنحو مباشر أو غير مباشر (حدث هذا في حربي الخليج عام 1991 و 2003 ويحدث الآن). وتنسيهم حمّى الرغبة الشديدة في تسديد ضربات نقديّة وانتصارات خطابيّة ضد الإمبريالية أنّ جرائم الطاغية حقيقية وليست محض دعاية يجب تفنيدها. لا شكّ في ضرورة نقد خطاب واشنطن ومشاريعها الكارثية في المنطقة والوقوف ضدها. ولكن لماذا السقوط المتكرّر في فخّ التعارضات الثنائية؟ هل من الصعب جداً أن يكون المرء ضد المشاريع الأميركية ويكون أيضاً ضد الطاغية وضد من يسانده؟ أم أن قنابل هؤلاء أفضل وأخفّ من قنابل أولئك؟ ويأخذنا الحديث عن المفاضلة بين القنابل إلى المذابح التي تقترف في اليمن والتي قلّما يلتفت إليها الإعلام العالمي أو العربي الذي تسيطر على معظمه دول «التحالف» التي تتكفل بالقصف.

السفير

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى