صفحات مميزةعمر قدور

عن محاذير وصف النظام بالمحتلّ: عمر قدور

عمر قدور

كان بعض الأقلام سبّاقاً في وصف النظام السوري كقوة احتلال، ثم ما لبثت الفكرة أن شاعت في أوساط كتّاب وناشطين، ليُضيف إليها في ما بعد تدخل «حزب الله» و «الحرس الثوري» الإيراني ثقلاً أكبر، بحيث يتماهى النظام تماماً مع حلفائه الأجانب الذين لا يُجادل في كونهم قوات احتلال. وكما في كل رواج من هذا القبيل تنزل الفكرة من مجال النقاش والشك لتصبح يقيناً راسخاً، وفي الوقت ذاته تتخفف من حمولتها المعرفية الأصل لمصلحة التسييس والاستخدام المباشرين، وعلى الأغلب لا تبقى مخلصة للإطار الفكري المستجد بمقدار ما تلاقي المعارف العمومية المسبقة والشائعة.

لا شك في أن النظام طوال أربعة عقود استنزف الاقتصاد فساداً، وقضى على كل ممكنات التطور الطبيعي، وأمعن في تخريب النسيج الاجتماعي. وفي السنتين الأخيرتين قتل ودمّر أكثر مما يمكن نسبه إلى القوى الاستعمارية التي مرت على البلد، بما فيها إسرائيل التي لا تزال تُصنف العدو والاستعمار الأكبر؛ أي أنه ارتكب كل الموبقات التي تختزنها الثقافة الشائعة عن الاستعمار، بل وتزيد عليها. من هنا، من الوحشية الفائضة للنظام، ربما يكمن أحد الفوارق بينه وبين المحتل، يُضاف إليها بالتأكيد استعداده المطلق للتضحية بأرواح مواليه وأرزاقهم من أجل بقائه، ذلك بخلاف ما هو معهود عن قوى الاحتلال التي تدير مستعمراتها وفق موازين الربح والخسارة.

لكن التخارج مع النظام، أي جعله خارجياً تماماً، ينبئ بأوجه عدة للقطيعة التامة لا يخلو بعضها من حساسية مؤثرة في المستقبل، بخاصة الحساسية الطائفية. فالنظر إلى النظام بوصفه قوة احتلال يستدعي تقسيم المجتمع بين محتلين وخاضعين للاحتلال أو ثائرين عليه، وعندما توضع طائفة أو طوائف موالية في موقع المحتل سيكون هذا بمثابة القطيعة الحادة معها. في المقابل، دائماً وفق القسمة الطائفية، تتنصل «الأكثرية» السنّية من مسؤولياتها حيال مجيء النظام وبقائه، فهي بموجب هذا التصور كانت منذ البداية خاضعة بالحديد والنار، بدلالة ما حصـل في حماة في الستينات من القرن العشرين، ومن ثــم ما حــصل في حــماة وحلب مطلع الثمانينات.

على الصعيد ذاته، يُنظر إلى مرحلة الخمسينات بوصفها الوعد الديموقراطي الذي أطاحه انقلاب «البعث»، من دون مساءلة النخبة «السنّية» الحاكمة آنذاك عن دورها ومسؤوليتها إزاء الانقلابات التي سبقت انقلاب «البعث» وبشّرت به. لم تنظر النخبة الحاكمة حينها بالجدية اللازمة إلى الدور المتعاظم للجيش في الحياة السياسية والعامة، هي التي عرفت بتعاليها وتعالي أبنائها عن المشاركة في المؤسسة الوليدة. والمعلوم أن تلك الحقبة شهدت تنافراً وصراعات بين المؤسستين السياسية والعسكرية؛ هذه المرة بصرف النظر عن المسألة الطائفية.

ترجع أصول تلك الأرستقراطية المدينية الحاكمة إلى العهد العثماني، ومن المرجح أنها لم تلحظ جيداً آثار الانتداب الفرنسي التي امتدت بحكم حداثته إلى الأرياف البعيدة والمهمّشة، وأذنت بتحول في أوساط الريف المهمش الذي بدأ يتطلع إلى دور جديد في الحياة العامة. وحيثما لم تكن الأوساط السياسية جاهزة لمشاركته وتمكينه، حصل العكس في المؤسسات العسكرية والأمنية الصاعدة، تلك المؤسسات التي أثبتت الأحداث اللاحقة أنها الأكثر انضباطاً وتماسكاً من نظيراتها السياسية، فكانت الأخيرة غافلة أو مستهترة بما يجري في جانبها، ولم يسعفها أفقها السياسي المحدود في تطويق الانقلاب المركّب الآتي.

لا يمكن تصور بقاء النظام طوال هذه المدة من دون مشاركة حثيثة من الأكثرية، قد تتعاظم المشاركة أو تتضاءل وفق الظروف، فمثلاً استبشرت الأكثرية بانقلاب الأسد الأب لأنها رأت فيه شريكاً محتملاً، بخلاف زملائه الراديكاليين الذين حكموا منذ انقلاب شباط (فبراير) 1966. السيناريو ذاته بدا محتملاً مع مجيء الأسد الابن، لولا أنه أهدر الفرصة وذهب نحو طور أشد من الاستئثار بالسلطة والثروة.

لذلك، لا يبشّر إلقاء المسؤولية المطلقة على النظام- وهذا ما يضمره شيوع وصفه بالاحتلال- بمحاسبة شاملة لحقبة لم يكن فيها الفاعل الأوحد، بل كان أيضاً مسنوداً بالثقافة السياسية السائدة عموماً. بالمعنى الرمزي، أصبح النظام احتلالاً منذ خرج السوريون يطالبون بأسس جديدة للحكم وتداول السلطة، تقوم على الحرية والديموقراطية. أما قبل ذلك، فكان طرفاً مهيمناً أو محتكراً للسلطة، في غياب شبه عام لثقافة الدولة وتداول السلطة، وما لم تتخلص غالبية السوريين من ثقافة السلطة فلن يكون في وسعها الجزم بأن النظام صار خارجياً تماماً.

من جهة أخرى؛ ثمة خشية حقيقية من أن يهدد وصف النظام بالاحتلال جوهرَ الثورة بعدّها ثورة حرية، يحدث ذلك عندما ينقلب المزاج العام من فكرة الحرية إلى فكرة التحرر. ليس بجديد هنا أن تجتذب فكرة التحرر عدداً أكبر من المناصرين، وحتى أن تأتي بعدد أكبر من المقاتلين الأجانب على غرار ما حدث في أماكن عدة، بما أن بوصلة الصراع تتركز على الخلاص من العدو المشترك، من دون الخوض في أسباب العداء المختلفة.

سيكون مكلفاً جداً أن يعود السوريون إلى مزاج التحرر بعد تقدمهم للمطالبة بالحرية؛ تحت شعارات التحرر عاش السوري ما يزيد على ستة عقود، وتم إيهامه بأن العدو يتربص به في الخارج، بعد أن تمت شيطنة العدو بالمطلق. كان ترويج ثقافة التحرر غاية ووسيلة في آن، إذ أسس لمنع السياسة في الداخل، وأدى إلى تأجيل مستمر لقيام الدولة الوطنية والمواطنة التي لا تستقيم من دون الحرية… والحق أن شيوع ثقافة التحرر التي نرى الآن أكثر صورها ابتذالاً لدى الممانعين كان مستفحلاً، ويُخشى من عودته بصورة مقلوبة، ومرة أخرى على حساب استحقاقات الحرية.

فقط التشديد الدائم على أنها ثورة حرية، هو ما يجعل النظام خارجياً بالتأسيس النظري وبالفعل، وحينها يصبح وصفه بالمحتل استنتاجاً جديداً لا يبني على مقولاته ذاتها عن الاحتلال، تلك المقولات التي أعفته من مسؤولياته إزاء البلد. هذا يقتضي أيضاً رؤية جديدة للعلاقة بالخارج ككل، لا تنقلاً موسمياً لمزاج العداء وتوزيعاً متناوباً للمسؤوليات على الآخرين فحسب.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى