صفحات العالم

فالنتاين السوري

 

حسام عيتاني

نجم عيد الحب هذا العام في سورية هو، بلا منازع، الرجل الأربعيني المسحول في شوارع حلب والرافض عرض القتلة بالسماح له بوداع أطفاله مقابل السماح لهم باغتصاب زوجته.

«بنت عمي وتاج راسي»، كان يجيب الرجل المحتضر الذي يسحبه الشبيحة، أو الجنود، من يديه من مكان إلى آخر استعداداً لقتله، رداً على سؤالهم الفاجر عن مقايضة وداع أطفاله بالتنازل عن شرفه وما تبقى له من كرامة انسانية، رغم انتزاع جُلِّها بسحله عارياً مُدمى محطماً على قاذورات الشارع. لا ريب في أن الرجل عانى في سنوات عمره، كما يعرف كل سوري (ولبناني وفلسطيني احتك بأجهزة نظام الأسد) صنوفَ الذل والهوان اليومي «العادي»، وتسلُّطَ رعاع «الأمن» وأوباشه على تفاصيل الحياة، ما يضيف إلى ضنكها وعوزها وجورها ضنكاً وعوزاً وجوراً.

رَفَضَ الرجل في شريط الفيديو، وهو آخر ما وصلنا من أشرطة الرعب السورية، السماحَ للوحوش بدخول بيته ولو في مقابل أن يتسنى له، هو المسحوب إلى موت محتم، وداعُ أطفاله، فهو يعلم مسبقاً أنه إذا أدخَلَ هذا النوعَ من البشر بيتَه، فإنهم لن يكتفوا بالاعتداء على الزوجة، فالأقرب إلى طبيعتهم الإجرامية هو متابعة «عملهم» بقتل الأطفال. لقد اعتقد من سرّب الشريط أنه بفعلته يُرهب المواطن السوري، الحريص فطرياً على عائلته وعلى شرفه وكرامته، لكن الشهيد اللاحق ردَّ بالعاطفة الصادقة البسيطة على هواة زرع الموت والخوف… ردَّ بما يليق بعاشق يهيم بحبيبته، مضحّياً بحياته للحفاظ عليها وعلى أولادهما وبيتهما، الذي نتخيله بيتاً صغيراً ربما، لكنّ أصحابه كانوا يحاولون توفير العلم والحياة الكريمة لأطفال يرنون إلى مستقبل ينصفهم ويوفر حقوقهم في الكرامة والسعادة.

نحن لا نعلم إن كان هذا الرجل الشهم يأتي لزوجته «تاج رأسه» بالورود الحمر وأنواع الشوكولاتة الغالية في عيد الحب… أو كيف كان يعبِّر عن عواطفه لـ «ابنة عمه» في بيتهما الصغير في أحد شوارع حلب الفقيرة، فهموم العيش في بلاد يداس أهلها بجزمات الجند وبالشعارات الرنانة ربما حالت طويلاً دون إبداء المشاعر الصادقة والعميقة، التي بلغت في لحظة الحقيقة من الأَثَرَة حدّاً دفع صاحبَها للتضحية بحياته لئلا تضام زوجته او تُذلّ.

لن نعلم بقية القصة، وربما لن يجد الأطفال مَن يخبرهم مأثرة أبيهم، الرجل المسحول المعذب والمقتول على أيدي الشبيحة، وكيف أنه أدرك في اللحظات الأخيرة من عمره ما لا يتطلب إلا الطوية السليمة والعقل الراجح: لا مقايضةَ مع الوحش، ولا يجتمع التنازل عن الشرف بلحظة وداع الأبناء.

قدّم «شهيد الحب» هذا، في المرة الوحيدة التي ربما قد يكون ظهر فيها على شاشات التلفزيون وشبكة الإنترنت، درساً بليغاً يغيب عن كثر ممن سمعوا عن الحب كشعار استهلاكي وكسلع تجلب السعادة، قدّم عمليّاً ما لا يحتاج إلى معلقات وهدايا وأغنيات ودموع: الحب، الذي يسكن القلب ولا يخرج منه حتى مع النفس الأخير. الحب النبيل لمن وصفها بـ «تاج رأسي»، في عبارة قد لا تعجب متفذلكي الحب وناظمي القصائد الرثة الغبية وعواطف السيليكون والبوتوكس.

انتهى «عيد الحب» او «الفالنتاين» هذه السنة، واليوم يبدأ الباعة سحب الدببة الصغيرة الناعمة (الرمز المفروض لعناق العشاق) من واجهاتهم، وستختفي قريباً قوالب الحلوى المنحوتة على شكل قلوب حمراء من المحلات، ولكن… ستبقى بيننا من دون ان نعرف وننتبه، الملايين من أمثال ذلك العاشق السوري، المخلص، الوفي. وعلى هؤلاء تُعلق الآمال بانتصار ثورتهم، في سورية وغيرها… ولو كره الكارهون.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى