جولان حاجيصفحات الثقافة

في رأس المدينة الخالية موتٌ ميّت


جولان حاجي()

[الأم في فجر الزيارة

لمعَ تحت بابنا

الشعاعُ الدامي بين بوصلتهم ونجمِ الشمال

فاجتازتِ الطريقُ بيتنا راحلةً إلى المصبّ.

أحجارُها دموعُنا التي تراكمت في الصدور حتى لفظناها.

الطريقُ هشّمتِ المرآة ذات الوجهين وقواريرَ العطّارين

ولم تتركْ لنا إلا الغيومَ نسكنها

وأفواهنا كجيوبنا محشوّةٌ بالرمل.

علَّمَتْهُ الأمطارُ كيف سيتبخّرُ من جسدِ الأرض.

علَّمَهُ القطُّ النومَ في ظلالِ الورد.

أرشدَتْهُ البئرُ إلى الكتمان.

تصفرُّ الأوراق، تصرخُ وتتطاير،

فينصتُ إلى نبضِ الشجرة.

العالمُ خارقٌ كالحِراب،

أسمالٌ ترفرفُ كالراياتِ في الحلبة

حيث سَبَحَ المجانينُ في جراحِنا واستعطفوها كيلا تندمل

ولا شيء سيرقأ كلَّ هذا الدم سوى الشمس والريح.

أحلامُنا تتذكّرُ أحلامَنا.

كقططٍ مبتلّة احتمينا بالشجرة حين أمطرت

وأطفأتْ قطراتٌ كبيرة سجائرَنا.

أضواءُ الكشافات دارَتْ على مسرحِ الغيم.

غرقتِ المناديل. خلتِ الكراسي

حيث انتظرتُ يدكِ.

رفعتِ الجذورُ حجارةَ الأرصفةِ أمامنا

وأخفيتُ على كتفي وحامَكِ

وشمَ رغبةٍ لم تتحقّقْ.

الغرقى عادوا بالحصى، والموقدُ أسودُ كقيعانِ القدور.

المقصُّ في يدكِ ذيلُ سنونوةٍ ميتة

وقلبُكِ يغزلُ الشعاعاتِ والقشَّ في سجادةٍ واحدة.

قمرُ صلاتِكِ اكتمل،

سيقاسمُكِ رغيفَ جسده

ويدورُ كرحى الطباشيرِ على قماشةِ المساء.

سنرتدي ما يرتديهِ العميان،

بينما التجاعيدُ التي يرفعها الألمُ بكلاليبهِ من أحشائك

تزدحمُ في زوايا الفمِ والعينين:

لا مكانَ إلا وجهكِ.

ثمة بحرٌ يتقلّبُ ويتعرّقُ تحت التراب،

وفتىً يبكي لأنه رأى الخبز. إنه ابنُكِ.

مُدّي يدَكِ وزحزحي هذه الصخرةَ بلمسة.

ستسري، من تحت الشاهدة، موجةٌ عطشى

وتطبعُ على راحتكِ قبلةً

هادئةً كهذا العشب، رقيقةً كخمارِ رأسك.

[مدينة خالية

الطلقاتُ التي تركض كالمجانين من صدغِ المدينة إلى صدغِها الآخر، ومن فمها إلى قذالها، ومن عينها إلى أسفل جمجمتها، ترقصُ فوق حفرِ الطرقات والموتى ولا تتصادم. حُرّةً كالهواءِ والضوءِ والإشاعات تدخلُ من كلِّ اتجاه وتغادرُ من كلِّ اتجاه. في رأسِ المدينة الخالية موتٌ ميت، وبارودٌ كثير يغطّي دماً يتبخّرُ فوق دمٍ يبسَ على التراب، وبين أذنيها النازفتين يعبرُ الطنين مثل شاحناتِ المهرّبين.

[مأوى

في الغرفِ والساحاتِ وقاعاتِ المنتظرين

الحياةُ التي تتنقّطُ من الساعات

لم تحفرْ عيناً في قلبك.

السطورُ حبيسة الرأس

تتشرّدُ هنا وفي كلِّ مأوى سواه:

صنبورٌ معطَّل ينقّط قطراتهِ الأخيرة في البحر

حيث غرقتِ الكلماتُ بأسمالها المشتعلة.

مرحى أيها العفويون.

في هذا الثباتِ المؤلم

روحي ترتطمُ بجلدي وتتبعثرُ في المسام،

يداي تلمعان كملحِ الحقيقة.

[نيروز

ركامُ زهورٍ بيضاء على الرصيف

وركامُ كلماتٍ في الصدر.

حاضرٌ ضيّقٌ حيّ

تجتازهُ كعصافيرِ الشوارع.

تعلو الأشواكُ خضراء على جانبِ الطريق.

تيجانها البنفسجية ستصير ذهباً

ثقبَ عجلةَ الدراجة وسلَّ خيطاً من وشاحِ أختك.

وراءها يحلقُ الموتى ذقونَهم

ودخانٌ يرتجف

كقشعريرةٍ تسري تحت المياه.

سمكةٌ صغيرة، حمراءُ كثمرةِ السمّاق

تتواثبُ بين السنابل.

الشاهدةُ بابٌ في منتصفهِ مرآةٌ صغيرة.

النسيمُ يتصفّحُ قرآناً أسودَ صغيراً

يبسطُ جناحيهِ على التراب.

يقفُ طفلٌ أمام البابِ الضيّق

بيدهِ تفاحة

وفي جيوبهِ بندقٌ وزبيب

ولا أحد في المرآة غيرُ سحابةٍ بعيدة.

[فندق

لا رحمةَ على سريرِ بروكروست،

ضيقٌ هو الكهف المُضاءُ بالدم،

ضيقةٌ عيوننا.

ضبابنا غبار والرفاق مشؤومون.

أمثالنا لا يدركون الجدوى،

مهدورون كالدمِ والوقت

وإذا أنصتنا إلى قلوبنا

سمعنا ضحكةً تتهشّمُ أسنانها.

وُلدنا في زورقٍ مثقوب

فاستعجلنا الوصول وما مِن مياه.

طفَونا بين الأحجار

وهرمنا كحقائب جريحة، فارغة ومقفلة،

تصل من دوننا

إلى فندقٍ نزلاؤهُ لصوصٌ وسفاحون.

[قصف عشوائي، أبجدية مسمارية

المحتضر منكبٌّ بين كتفي الميت

كمَنْ يقرأ كتابَ الدم

فيهدهدهُ البخارُ قبل أن يغفو.

معاصمُ مربوطةٌ بالأسلاك

ترفعُ الأيدي

كأجنحةٍ مثبّتةٍ بالدبابيس

كجفونٍ ترمشُ أمام نصالِ الريح.

المساميرُ على ثلوجِ الأسطحة

حروفٌ صدئة في منظارِ القناص.

خطواتُ النازحين على الجليد

تتوقف عند شفيرِ الوادي

تحت غصون البندق،

يدخّنون لهاثهم فيتّسعُ البياض

ويترامى الفجر فوق الجبال.

تسمعهم العصافير

سيقانها مغلولة بقيودٍ لا تُرى

متقافزةً من حبّةٍ إلى أخرى

تساقطت وسط الطلقات.

منظارك مقلوب:

ذاك إزميلٌ في يدِ الفتى

وليس مسماراً يغرزه قزمٌ في دميةٍ عملاقة؛

وتلك جمرةُ لفافته، لا عينُ الوحش.

انظر بعينيك:

مراهقون حلموا

بأدغالٍ تنبتُ على الصدورِ والسيقان

ماتوا

وتدلّى إلى العاناتِ شَعرُ آباطهم.

الموتى ليسوا إطاراً لوجهِ أحد.

* ** **

عينك لا ترى وجهك

وأنت تعبرُ الجرح المسمَّى مخرجَ النجاة

إلى ظلامِ جسدك.

ستتلوّى في أحشائك مُزبِداً كالمصروعين

وتتنقّطُ دموعُكَ الحارقة من إحليلك المقطوع.

() شاعر سوري

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى