صفحات الثقافة

قطار إلى بغداد ليلاً/ محمد الأسعد

 

 

في قطارٍ راحلٍ إلى بغداد ليلاً، وفي عربةٍ من عرباتِ الدرجة الثانية، وعلى مقعدٍ خشبي يواجهني، لفت نظري جنديٌّ بسيط الثياب يمسك بيده كتاباً.

بدا الجندي مستغرقاً وغائباً عما حوله، متوحداً مع كتابه. وقرأتُ العنوان؛ “الريل وحمد”، المجموعة الشعرية الأشهر للشاعر مظفر النواب (1934). جندي من عامة الشعب، ومجموعة شعرية في قطار ذاهب إلى عمق الليل.

كان مشهداً لا ينسى في ليلةٍ من ليالي تلك الأيام، أواخر الستينات من القرن الماضي، لم يفارقني كأنه حدثَ بالأمس القريب، وما زال يحدث الآن، وسيظل كذلك. ليس لأن من كان مستغرقاً في شعر النواب جنديّ، بل لأنه واحدٌ من ملايين المجهولين، لنا ولغيرنا وربما لنفسه أيضاً، يبحث عن نفسه في كتابٍ مكتوبٍ بلغةٍ منطوقة، أو محكية، أو عامية كما هو شائع.

وتساءلتُ آنذاك، ترى هل يمكن لهذا الإنسان الضائع في قطارٍ جنوبي أن يستغرقه كتابٌ شعري “يستوحي الكتبَ ويعبّر للناس عن الحياةِ بألفاظٍ يدركونها ربعَ إدراك” على حدّ تعبير مارون عبود؟ أعني، هل سيجتذبه “شعرنا الحديث”، شعر التفعيلة وقصيدة النثر، أو حتى شعر الألفاظ والأوزان التقليدية؟

من المؤكد، هكذا حدّثتُ نفسي، أن هذا القارئ وجد شيئاً قريباً من نفسهِ، من الريف الذي جاء منه، من ذاكرةٍ حية، من أحاديث أمّهِ، من مشهدٍ يصادفه هنا أو هناك ولا يغادر يومياته، فتخطى عتبةَ شاعرِالمنطوق ودخل فضاءً مألوفاً، وأصغى بكامل حواسّه.

من المؤكد أن شعرنا الذي تحتشد به صفحاتُ المجلات الشهيرة ويتداوله النقادُ الأنيقون، وتصفّق له قاعاتُ وزارات الإعلام، ويختلف حوله كتبةٌ مشغولون بالمكتوب والمتذكّر وما تسمى تيارات التجديد، لن يلفت لا نظرَ ولا إحساسَ هذا الإنسان المجهول، أو ملايين المجهولين على وجهِ الحقيقة، أولئك الذين يمرّون به، هذا إن مرّوا، مروراً عابراً. ولن يتوقف عند عتبتهِ، هذا إن توقف، إلا هنيهة، ثم يواصل حياته، بمعزل عنا وعن شعرنا وقاعاتنا وخلافاتنا. فالعتبة لا تعد بفضاء أليف، أو هي لا تبدو عتبة بل جداراً.

هل يعني هذا أن هناك “شعرية” حية تجد طريقها، أو يجد الناس طريقهم إليها، في فضاءٍ آخر بعيداً عن فضاء شعراء الفصحى، من رقّ منهم ومن حافظ على سماكته وغلظته على حد سواء؟

أعتقد، في ضوء تجربتي، أن الجواب سيكون نعم واضحة وقوية. وستتأكد هذه النعم منذ وقت مبكر بعد أن أشهد “مهرجاناً”، بكل معنى كلمة مهرجان، لشعراء العامية، أو شعراء المنطوق كما أفضّل القول، في إحدى قرى جنوب العراق المنسية.

في ذلك المهرجان لم يشغلني ما ألقاه الشعراء، بقدر ما شغلني شيئان؛ الأول الحضور اللافت لجمهور لا نراه عادةً حين تحمل القطاراتُ أو الطائراتُ الرسمية إلى هؤلاء البسطاء شعراءنا “الكبار” بقصائد التفعيلة أو النثر أو قصائد العصور القديمة؛ والثاني سهرات هؤلاء الشعراء وضجيجهم وغناؤهم والرقصات التي كانوا ينطلقون إليها بعفوية. كان بعضهم يجيد غناء الأبوذيات أو الدارمي أو العتابا، وبعضهم يرقص على إيقاع الليوة، وبعضهم يصفّق منتشياً.

جمهور هذا الشعر لم يكن يستمع فقط، بل كان يبتهج، ولم تكن جماعة الشعراء في سهراتها تجادل أو تناقش، بل كانت تغنّي وترقص؛ كان الجميع في مهرجان يحتفل بشيء أبعد من مجرد اجتماع في مناسبة، كان يحتفل بحياته في تلك الساعات، أو يحتفي بحياته، بمجرد أنه يحيا ملء حياته.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى