صبحي حديديصفحات الثقافة

المثقف السوري والانتفاضة: خمسة أنماط من خيانة الرسالة


صبحي حديدي

صاروا أكثر من طابور ـ أوّل أو خامس، إذ لم تعد ثمة فروقات تميّز ـ أولئك الذين يتباكون على مستقبل سورية، وتنهمر دموعهم مدرارة لأنّ البلد عرضة لمخاطر خطوب وحروب شتى، من كلّ الضروب: الأهلية، والطائفية، والإثنية، والمناطقية؛ بين المدينة والريف، أو بين الشباب والشيوخ، أو بين جيش نظامي كلاسيكي وجيش فئوي موالٍ، أو بين طبقات فقيرة محدودة الدخل وأخرى متوسطة أو متبرجزة، أو بين دعاة التدخل الخارجي ورافضيه، وصفّ ‘العسكرة’ مقابل صفّ ‘السلمية؛ وكذلك، طبعاً، بين ‘الإسلاميين’ و’العلمانيين’، و… ‘المحافظين’ ضدّ الحداثيين’!

طبائع البكاء تتفاوت، إلى هذا، فنعثر أوّلاً على مثقف سكت دهر الانتفاضة كلّه، وليس بعضه أو قليله؛ ثمّ ارتأى أن يكسر قرابة تسعة أشهر من الصمت، لكي يهتف من سويداء قلبه: أواه يا سورية، يا بلدي الحبيب، إلى أين يسير بك أبناؤك الجهلة السفهاء المغامرون! صاحب هذا الخطاب يلوذ بالميلودراما، من دون أن يقرّ بأنها هكذا بالطبع، مع حرص شديد (لكنه مفضوح تماماً) على عدم الإيحاء بنبرة عاطفية فاقعة، او أخرى شعبوية رخيصة. شعاره هو إنقاذ سورية من مصير أسود ينتظرها، عواقبه وخيمة لا عدّ لها ولا حصر؛ وقراءته تقول إنّ ما يشهده البلد ليس انتفاضة من أجل الديمقراطية والحرية، بل هو سلسلة مؤامرات خارجية، تقودها قوى غربية وأطلسية وعثمانية وعربية، وتهدف إلى تقسيم البلد وإعادة إنتاج سايكس ـ بيكو، على نحو أسوأ وأدهى.

في صياغة أخرى، يقول هذا المثقف إنّ الانتفاضة هي مصدر الخطر، واستمرارها هو الذي يغري القوى الكبرى بزيادة المؤامرات، وبالتالي يستدرج التدخل الخارجي، ويعرّض سورية إلى ما تعرّضت له بلدان مثل ليبيا والعراق وأفغانستان. وإذا كان لا يتجاسر على القول بأنّ الانتفاضة لم تكن ضرورية أصلاً، لكي يتجاسر استطراداً على المطالبة بوقفها فوراً؛ فإنّ المثقف من هذا النمط لا ينتهي عملياً إلا إلى هذا الطلب، خاصة حين يتكشف برنامجه البسيط للغاية: دحر المؤامرات عن طريق تكاتف الشعب مع السلطة، والنزوع إلى العقل وليس الجهل، ونبذ الفرقة بين مكونات المجتمع؛ وأخيراً… قيام الحاكم ببعض الإصلاحات السياسية والإدارية التي يطالب بها المحكوم، فلا خلاف على هذا التفصيل!

نعثر، كذلك، على مَنْ عدّ ذاته في صفّ الانتفاضة، فكتب عنها، ونظّر لها، وسمّى نفسه ناطقاً باسمها، فوضع الكرة في ملعب النظام وحده، وعلى عاتق السلطة ألقى مسؤولية المسير بسورية إلى برّ الأمان، أو دفعها إلى هاوية المجهول. وحين يتسامح قليلاً مع السلطة، فإنّ ذلك المثقف يشرط التسامح بسؤال قاطع: هل ‘النخب الحاكمة والمالكة’ قادرة على اجتياز الاختبار الذي يطرحه عليها الحراك الشعبي؟

هل ستتعاون مع الشعب، وخاصة شبابه، فتصلح ما أفسدته ممارساتها الأمنية خلال عقود طويلة؟ وهو، كذلك، اعتاد الكتابة عن الإصلاح بوصفه ردماً للهوة بين الواقع والفكر، أي بين ‘واقع البؤس’ الذي تمثله الأنظمة القائمة، وفكر المستقبل الذي تطمح إليه الاجيال الشابة وتسعى إلى خلقه.

لم نقرأ له فزعاً من هؤلاء الشباب، أو قدحاً بقدراتهم على ممارسة السياسة كـ’فنّ’، أو إعراضاً عن شعارات يرفعونها من دون أن يدركوا محتواها (مثل ‘الشعب يريد إسقاط النظام’)، أو سخرية من انجرارهم إلى برامج غير قابلة للتطبيق، أو تخوّفاً من انزلاقهم إلى العسكرة والعنف المضادّ والنزوعات الطائفية. وما دام قد فعل لاحقاً، وليس سابقاً، فإنّ من المنطقي محاسبته ـ بوصفه المثقف الطليعي الرائد والرائي ـ على أنه لم يبصر في الوقت المناسب، ولم يتبصّر فينذر ويحذر؛ وهو، استطراداً، مسؤول بدوره عن قسط من ‘الأمراض’ التي يشخصها اليوم، في غمرة ضجيج وعجيج، وكان قبلئذ عاجزاً عن إدراكها والتوعية إزاء مخاطرها، أو ساكتاً عنها لغاية في نفسه. لقد بلغ اليوم مرحلة انهيار مقادير كبيرة من التطابق بين ما كتب ونظّر ونطق، وبين ما قاله ويقوله الشارع الشعبي، وما فعله ويفعله، قبلئذ وبعدئذ؛ فكان طبيعياً أن تنهار تعاقداته القديمة، فينضوي في صفّ العويل والرثاء والوقوف على أطلال، أو تكاد، هي في نظره كلّ ما تبقى من الانتفاضة!

نمط ثالث ما يزال مؤمناً بأنّ نصر الشعب قادم لا محالة، لأنّ الميزان بين الأمل والقنوط لم يختلّ عنده تماماً لصالح الشعور الأخير، ولأنّ ما يركن إليه من عتاد فكري وعدّة تحليلية وانحيازات أخلاقية تقوده، متضافرة متكاملة، إلى المآل الوحيد المنظور منطقياً: سقوط النظام. إنه ليس في قلب الحراك الشعبي تماماً، ولكنه ليس على هوامشه أيضاً؛ ونجده تارة يدافع عن طروحات ‘المجلس الوطني السوري’، فيرى أنها تمثّل أفكاره مثلما تمثّل قطاعات واسعة من المعارضة وأبناء الشعب، من دون أن نفتقده تماماً في ملتقيات ‘هيئة التنسيق’ أو مجموعات المعارضة الأخرى التي تنادي بأفكار مرحلية أو استراتيجية تجعلها على مبعدة من المجلس. خطابه عن السلطة ليس قاطعاً، بمعنى الإعراب عن معارضة جذرية لا تترك هامشاً ملموساً لتأويلها على غير وجهتها؛ لكنه، من جانب آخر، ليس البتة محابياً للنظام، على الأقلّ في مستوى ما توفّره القرائن من حصيلة عن مواقفه.

تلك خصال لا تعيبه، غنيّ عن القول، بل تبدو أقرب إلى ترسيخ التكامل منها إلى إثارة التناقض؛ إلا… إذا صار صاحبنا هذا أسير الفزع من ‘كوابيس’ شتى، هي تنويعات أخرى على ضروب الخطوب والحروب، فانقلبت الخصال ذاتها عليه، بعد أن كانت له! الخطر، هنا، أنّ ديناميات ارتباطه بالمعارضة، وصورته في ناظر الحراك الشعبي، خاصة لدى أولئك الذين يتماهون مباشرة مع شخصيته الفكرية والسياسية أو حتى الإنسانية، سوف تصاب بالعطالة، لكي لا يخشى المرء من تحوّلها إلى عبء وعالة (كما يحدث في المشاهد المحزنة، حين ترفع بعض التظاهرات لافتات ضدّ شخصيات معارضة، بالاسم). وليس الأمر أنّ الصمت ستار حاجب، وهو بالفعل قد يكون هكذا، بل في أنه قد يفضي إلى سوء فهم، وإلى إساءة تفسير أيضاً.

النمط الرابع يعتلي برج عاج، على غرار مشهد خيانة المثقف الأكثر رسوخاً في التاريخ والتعريفات الكلاسيكية، فيضع النظام والمعارضة على قدم المساواة في الزلل، ويخضعها لسيرورات تخطئةٍ تكاد تنهض على ركائز متشابهة لا تفرّق بين شبيح ومتظاهر، وبين قاتل وقتيل.

فإذا كبّر بعض الناس، في هذا الحيّ الشعبي المحافظ أو ذاك، عندما ينتهي عدنان العرعور من أحاديثه الليلية النارية، أو إذا هتف المتظاهرون بأنه لا معين لهم إلا الله، فاستجاروا بالذات الإلهية وحدها؛ فإنّ الذنب مشترَك بالمناصفة، تقريباً، بين نظام يحابي أمثال الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، ومعارضة تحابي أمثال محمد رياض الشقفة! أمّا إذا أعلن المرء إدانته المطلقة لـ ‘ديمقراطية قصّ الألسن’ كما ينادي بها العرعور، فإنّ هذا السلوك لا يكفي، والمرء مطالَب بعدها باستكمال شهادة حسن السلوك، وتأثيم كلّ وأيّ متظاهر يكبّر عند سماع العرعور!

ولا يستكمل هذا النمط إلا نموذج خامس لمثقف يُلصق تهمة خيانة سورية (وبعضهم لا يتورع عن الذهاب أبعد، فيتحدّث عن ‘خيانة الأمة’!) بكلّ مَنْ لا يدين ما صار يُعرف باسم ‘عسكرة الانتفاضة’، إدانة جازمة قاطعة حاسمة، لا هامش فيها للأخذ أو الردّ أو الجدل أو تقليب الرأي. العسكرة هي نهاية الانتفاضة، والانتفاضة هي اللاعسكرة بالضرورة، وهذا حكم باتّ لا استئناف فيه هنا أيضاً، حتى إذا كانت غالبية المرابطين في هذا الصفّ توافق على إقرار مزدوج، ثمّ تعمد بعد الموافقة إلى وأده في المهد: انّ عنف النظام المتزايد، المستشرس أكثر والمتغوّل أشدّ، هو الذي يدفع المتظاهرين إلى التسلّح، دفاعاً عن النفس والعرض والرزق، غالباً؛ وأنّ هذا الحقّ مشروع، وتعترف به شرائع الكون منذ بدء الخليقة. الجانب الأخطر في هذا النموذج هو ذلك الافتراض الضمني الذي يقول إنّ الشعب، وليس النظام، هو المتهَم بالعسكرة، وبالتالي فإنّ لجوء بعض المواطنين إلى حمل السلاح ليس نتيجة للسياسات الأمنية والعسكرية الهمجية التي ينتهجها النظام لكسر الانتفاضة، بل هو ردّ فعل غير صحي، وغير ثوري، وغير سلمي.

والحال أنّ التسلّح، مثل العسكرة والتخندقات الدينية والطائفية والإثنية، تطورات كفيلة بإلحاق الأذى الشديد بثقافة الاحتجاج والمقاومة السلمية والتعبئة الجماهيرية وروح الاجتماع الشعبي، وسواها كثير من الخصال العبقرية التي اجترحتها الانتفاضة السورية طيلة الأشهر الثمانية الماضية. لكنّ النقاش فيها ليس أحادياً سكونياً، أو مانوياً جامداً لا مساحة فيه إلا لـ’نعم’ أو ‘لا’، أسود أو أبيض، سلمية مطلقة أو عسكرة لا تقلّ إطلاقاً، واقعية ‘فنّ’ السياسة أو ميتافيزيقا ‘فنّ’ التخوين. صحيح، بالفعل، أنّ على الانتفاضة ألا تسقط في أحابيل العسكرة، ولا فخاخ التسليح والتسلّح أياً كانت مصادرها؛ ولكن هل يمكن حمل مسطرة قياس لا يأتيها الباطل أبداً، تُرفع مثل سيف بتار في وجه كلّ من حمل السلاح، من دون تمحيص في الأسباب التي دفعته إلى هذا، كيف، متى، وأين…؟

ولو كان ممثّلو هذه الأنماط الخمسة من أهل النظام وأنصاره، على أي نحو، لهان الأمر واتضحت الدوافع الخافية من دون كبير عناء، إذ لن تكون مواقفهم أكثر من زخرف متكلف يميّزهم عن تلك الدفاعات التي يلهج بها الموالون عادة، مراراً وتكراراً، حتى صارت أشبه بعلامة فارقة، ديماغوجية ودعاوية صرفة. لكنّ المتباكين أولئك يتوزعون على فئات متباينة، سياسياً واجتماعياً وفكرياً وثقافياً، احتُسبت على الدوام في رصيد ‘المعارضة’، بالمعنى الواسع الفضفاض للمصطلح؛ والغالبية بينهم تعرّضوا لأفانين قمع النظام، بين ملاحقة واعتقال وأحكام قضائية تعسفية واضطهاد مدني، فضلاً عن طراز خاصّ من التنكيل تعرّضوا له على يد محيط اجتماعي أو طائفي موالٍ للنظام، اعتبرهم مارقين على الجماعة، منشقّين عن الإجماع الأهلي.

هي، بذلك، تنويعات سورية على خيانة عتيقة أدمن المثقف ارتكابها على مدار التاريخ، في كلّ المجتمعات، خاصة خلال أطوار التأزم والثورة، حين تتطب الحياة موقفاً بالغ الوضوح من حيث الانحياز إلى صفّ الحرّية، أو الالتحاق بالطغيان.

الموقف الثالث، حتى حين يسمّونه ‘توسطات’ من باب التجميل، هو في نهاية المطاف انضواء ضدّ الحقّ، مقنّع كثيراً أو قليلاً، لكنه يخون رسالة المثقف. يخونها كثيرا هذه المرّة، وليس قليلاً!

‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى