صفحات الثقافة

كثبان جودوروفسكي”: مشروع سوريالي سحقته هوليوود/ زياد عدوان

 

 

في عام 1973، قرّر المخرج التشيلي أليخاندرو جودوروفسكي أن يصنع فيلماً روائياً بعنوان “الكثبان”، عن رواية خيال علمي، بالعنوان ذاته، للكاتب الأميركي فرانك هيربيرت.

أراد المخرج الإشكالي أن يجمع كل “مجانين” الفن والأدب ليعملوا معه في مشروعه الجديد. قدّم ملف فيلمه إلى شركات هوليوود، فجاء الردّ بالرفض. بعدها، قامت هوليوود باستخدام أفكار وتصاميم مشروع الفيلم لتصنع منها أشرطة أخرى دون العودة إلى جودوروفسكي. كان ذلك انتصاراً لدهاء هوليوود على جنون المخرج التشيلي، كما اعتقد الجميع حينها.

تلك هي القصة التي يرويها الفيلم الوثائقي “كثبان جودوروفسكي” (2013) للمخرج الأميركي الشاب فرانك بافيتش، الذي يستعيد رحلة الجنون التي قام بها صاحب “الكأس المقدسة” في سبعينيات القرن الماضي لإنجاز فيلمه، وقد كان هذا الأخير مشغولاً حينها بالبحث عن طاقم مممثلين ومصممين وفنانين من طراز خاص ليكونوا “محاربين معه” في المشروع على حد تعبيره.

يقول جودوروفسكي: “لا يمكنك أن تصنع فناً بلا جنون. انظر إلى دالي، و”بينك فلويد” وأورسون ويلز”. لم تكن هذه الأمثلة اعتباطية. فقد طلب جودوروفسكي بالفعل من سلفادور دالي وأورسون ويلز، إضافة إلى ميك جاغر (المغني في فرقة “رولينغ ستونز” البريطانية) التمثيل في شريطه. كما طلب من أعضاء فرقة “بينك فلويد” أن يصنعوا موسيقى الفيلم، ووافق الجميع. هكذا بدأت حفلة الجنون.

أنجز جودوروفسكي قبل هذا الشريط ثلاثة أفلام جريئة بسورّياليتها ومشاكستها للذائقة السينمائية والأعراف الاجتماعية، ليحجز لنفسه مكاناً على لائحة المخرجين الطليعيين في العالم. أخرج ومثّل وكتب “فاندو وليس” (Fando and Lis) عام 1968، و”الخُلد” (El Topo) عام 1970، و”الجبل المقدس” عام 1973. وفي الأفلام الثلاثة، كما هو حال أفلامه حتى الآن، يظهر قدرةً فريدة على خلق عوالم تتداخل فيها الأساطير مع الدين والأحلام والعنف والجنس.

بعد الضجة التي رافقت “الجبل المقدس”، قرّر جودوروفسكي أن يجمع كل أنواع الإثارة الممكنة في فيلم “الكثبان”، وقطع خطوات واسعة لتحقيق مشروعه، بمساعدة جنون مَن هم حوله. وكان لا بدّ للصدفة أن تساهم في إنجاز العمل والزيادة في جنونه أيضاً. فعندما كان يتصفّح مرة كتاباً مصوراً بعنوان “التوت” للكاتب والفنان جان جيرو (أو مويبيوس، كما هو اسمه الفني)، اكتشف أن هذا الرسام هو الشخص المناسب لفيلمه الجديد. بحث عن مويبيوس في هذا العالم الواسع. وشاءت أقدار المجانين أن يلتقي الاثنان صدفة في مكتب وكيل أعمال جودوروفسكي.

يتحدّث جودوروفسكي عن الكيفية التي أقنع بها نجوم الجنون بالعمل في فيلمه. طلب سلفادور دالي مبلغ 100000 دولار لكل دقيقة يظهر بها في الشريط. وجرى له الأمر، ولكن بشرط ظهور الشخصية التي يمثلها دالي، “إمبراطور المجرة”، لخمس دقائق فقط. أما أورسون ويلز فكان معتكفاً في مطعم في باريس يأكل ويأكل، فجرى إقناعه بالعمل معهم على أن يحضروا رئيس الطباخين في المطعم الباريسي إلى التصوير، ليشرف على وجبات المخرج والممثل الأميركي. ثم التقى جودوروفسكي بأعضاء فرقة “بينك فلويد”، فتجاهلوه وهم يأكلون سندويشات البرغر، فما كان منه إلا أن شتمهم بعصبية، ليقتنع أعضاء الفرقة بتأليف موسيقى الفيلم إثر ذلك.

وافق المجانين على أن يكونوا “محاربين” في “الكثبان”، ولكن بقي أمر التمويل. استطاع منتج الفيلم حينها أن يؤمّن ربع الميزانية المطلوبة. ذهب المخرج والمنتج إلى هوليوود للحصول على التمويل الباقي. وهنا توقّف الجنون، ولم يكن للصدفة أي حضور في قلاع هوليوود، إذ رُفض المشروع وعاد الجميع خائبين.

لم يناسب جنون جودوروفسكي ومحاربيه طموحات هوليوود الربحية. هكذا كان الاعتقاد وقتها. ولكن تبقى لهوليوود قدرتها على استثمار كل شيء؛ ففي الوقت الذي كان جودوروفسكي يخوض فيه معركة كل شيء أو لا شيء، بعد رفض أستوديوهات هوليوود المشروع، قامت شركة “يونيفرسال” بعد سنوات قليلة بإنجاز فيلم “الكثبان” عن رواية فرانك هربيرت نفسها، ولكن بإخراج ديفيد لينش.

يتحدّث جودوروفسكي عن حيرته تجاه فيلم لينش، فهو معجب به، ولكن المشروع مشروعه أصلاً. تردّد كثيراً قبل أن يشاهد فيلمه المسروق، إلى أن قرر أخيراً قعل ذلك. وبسعادة غامرة يصف مشاعره وهو يشاهد نسخة لينش: “كان فيلماً رديئاً للغاية”.

لعل قرار جودوروفسكي بأن يذهب إلى هوليوود هو نوع آخر من الجنون. فمن الطبيعي أن ترفض هوليوود، الحريصة على مكاسبها، مغامرة يقوم بها مخرج سورّيالي مثله. مخرج مثل جودوروفسكي سيقى غريباً عن منطق النقود وحسابات الربح خصوصاً أنه يؤمن فعلاً بقوة السينما وقدرتها على فهم العالم وفتح نوافذ جديدة لنرى منها واقعنا وأساطيرنا. يسحب جودوروفسكي نقوداً من محفظته، ويتكلم بحماسة الشباب أمام كاميرا بافيتش: “لا تساوي هذه النقود شيئاً. النقود هراء. لا تملك هذه الأوراق في داخلها أي شيء. لأفلام السينما قلبٌ وعقل وقوة وطموح”. ثم يعود إلى هدوء العجوز (تجاوز عمره الثمانين عاماً)، ويسهم بحسرة متسائلاً: “لم لا يُستاطع صنع فيلم مثل “الكثبان”؟”.

لم تتوقف هوليوود عن الاستهانة بجودوروفسكي، بل قامت استديوهاتها بابتزازه، مستخدمة تصاميمه، وطاقم عمله، ورسوماته في أفلام مثل “حرب النجوم” و”بروميثيوس”. لكنْ، ليس لدى المخرج العجوز وقت للاستياء والتذمر، فهناك الكثير أمامه لينتجه. وبالفعل، ما تزال دور السينما تعرض حتى هذه الأيام فيلمه الروائي الأخير “رقصة الحقيقة” (La danza de la realidad) الذي أنجزه العام الماضي.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى