صفحات الرأي

كيف حالكم مع الانحطاط؟/ الياس خوري

 

 

لم يعد للتحليل السياسي أي معنى، والسبب ليس تكالب القوى الاقليمية والدولية على سوريا، عبر تحويلها إلى ملعب للموت. فهذا التكالب يمكن فهمه وتحليله، من الهوس الروسي بمياه المتوسط، إلى العهر الأمريكي الذي يريد خوض المعارك بدماء الآخرين، إلى الحلم الامبراطوري الايراني، إلى الهوس العثماني التركي، إلى الانتفاخ الخليجي بالثروة والفكر الظلامي، وصولاً إلى دولة البغدادي التي هي الوجه الآخر لدولة الاستبداد والتوحش التي بناها حافظ الأسد وأورثها لنجله.

لكن كي نستطيع نحن، أي الضحايا، أن نحلل ونبني خطاباً يعيننا على مواجهة هذا الموت الزاحف، ينبغي أن نكون طرفاً في المعادلة، وهذا لم يعد متوفراً، في اللحظة الراهنة على الأقل. وحين لا تكون الضحية سوى ضحية، أي حين تفقد القدرة على تحديد موقعها في الكارثة ، فهذا مؤشر على الانحطاط.

ما نطلق عليه اسم عصر الانحطاط في التاريخ العربي، هو المرحلة التاريخية التي بدأت بسقوط بغداد في ايدي المغول وانهيار الأندلس. أي هي الفترة الزمنية التي فقد فيها العالم العربي القدرة على الإمساك بمصيره، وتحوّل إلى ملعب للصراع بين الدول والامبراطوريات المهيمنة.

هذا لا يعني أن الانحطاط السياسي كان انحطاطاً ثقافياً شاملاً، ففي زمن الانحطاط هذا انتجت الثقافة العربية كتابها العظيم: «ألف ليلة وليلة»، وأسس ابن خلدون فلسفة العمران، وقاوم ابن رشد بالعقلانية ملامح الانحطاط الفكري، وإلى آخره… وهذه مسألة تحتاج إلى نقاش خاص.

نعود إلى سؤال الانحطاط، والمفارق هو أننا سنكتشف أن محاولات الخروج من الانحطاط في العصر الحديث باءت بالفشل، فالمحاولة الجدية التي حاولتها الحركة القومية اصطدمت بثلاثة جدران: القوى الاستعمارية التي بلورت نفوذها من خلال الدولة العبرية، الثروة النفطية التي احتضنت النكوص الثقافي والاجتماعي، والاستبداد الذي قاد المشرق العربي إلى الهزائم والعجز.

يجب ألا تحجب قراءة هذه الخريطة الثلاثية الأبعاد حقيقة أن السبب الرئيسي لفشل الخروج من الانحطاط ليس القوى الخارجية، فهزيمة الخامس من حزيران لم تكن حتمية، بل كان من الممكن تلافيها لولا الادارة الاستبدادية التي جعلت من الجيش المصري اقطاعية للمشير عامر، والدولة مكاناً مستباحاً للضباط سواء أكانوا أحراراً أو لم يكونوا. كما أن الانهيار الساداتي بعد حرب تشرين الأول / اكتوبر لم يكن حتمياً هو الآخر، لو لم يكن النظام الذي أسسته ثورة 23 تموز / يوليو استبدادياً وفردياً ومتسلطاً على المجتمع. الإنحطاط ليس جديداً، لكن الجديد فيه هو انهيار دول المشرق العربي وتفككها، وتحوّل الناس إلى مجرد ضحايا لا حول لها.

لقد مللنا من تكرار حقيقة أن الاستبداد دمّر كل شيء، وحوّل المجتمع إلى أشلاء، وحين حاولت الأشلاء أن تنتفض انتصبت في وجهها جدران القمع والخبث والوحشية، وجرى استثمار عدم وجود قيادات حكيمة وقادرة من أجل جرّها إلى الهاوية.

هل يعفي هذا الوصف الضحية من أي مسؤولية؟ وهل يعني هذا تسليماً قدرياً بانهيار بلاد الشام، التي هي قلب المشرق العربي وروحه؟

ما يجري في سوريا اليوم هو أكثر من تحويل البلاد إلى ساحة للصراع الإقليمي، مثلما جرى في لبنان خلال حربه الأهلية الطويلة، انه استباحة كاملة للمشرق العربي، يتم فيها اخراج جميع الأطراف السورية، بما فيها النظام الاستبدادي من المعادلة، وتحويل سوريا إلى مختبر لحرب عالمية مؤجلة، لكنها تخاض بشكل غير مكلف لأن كلفتها الوحيدة هي دماء السوريات والسوريين.

هذا الوصف للمآل الذي وصلت إليه الأمور محبط ومحزن، ولكن متى كان الانحطاط مفرحاً أو متفائلاً؟

السؤال اليوم ليس كيف نخرج من هذا الانحطاط، فهو سؤال لا نملك الإجابة عليه الآن. وحدها ادوات هذا الإنحطاط من قوى فاشية ومستبدة وطائفية وأصولية هي من يملك الاجابة. خامنئي والبغدادي يملكان جواباً واحداً رغم الصراع بينهما هو تحجيب المجتمع وإذلاله، نظام آل الاسد يملك جواب تحويل سوريا إلى جحيم يصير معه السجن أكثر رحمة. لكن هؤلاء اللاعبين الصغار لا يملكون القرار، ولا أظن أن اللاعبين الكبيرين الروسي والأمريكي يملكانه هما أيضا، أو يعرفان إلى اين يمضي قطار الموت والخراب السوري.

السؤال هو كيف نبقى وسط حقول القتل هذه؟ أي كيف نتحايل على الموت بالموت وعلى الحياة بالحياة؟

ما نشهده اليوم في سوريا يفوق الوصف، صراخ شعب يمزق السماء وألم وتشرد وجوع وفقر وخيام وبحر يبتلع اللاجئين. شعب يصير في مأساته علامة عار الانسانية بأسرها. لكنه رغم كل الألم يحاول أن يبقى جاعلاً من غريزة البقاء اسماً آخر للسمو الانساني.

أمام الألم علينا أن نتعلم كتابة الألم، وفي مواجهة الانحطاط علينا أن ننتج القيم الإنسانية ونتمسك بها، قيم الحق والعدالة وحرية الأفراد والشعوب وكرامتها.

تبدأ مواجهة الانحطاط من عدم التسليم به أو الاستسلام له، صحيح أن سوريا لا تملك اليوم قيادات سياسية قادرة على مواجهة موج الانحطاط العالي، لكنها تعلم أنها لا تستطيع الاستسلام، لأنها تواجه المغول الجدد الذين لا هدف لهم سوى التدمير والاستعباد.

السوريات والسوريون وحدهم اليوم، يقاومون الموت بموتهم، والتشرد بتشردهم، والمذلة بإصرارهم على الدفاع عن كرامتنا التي يجب أن نلمّها عن أرض التاريخ قبل أن يبتلعنا الغياب.

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى