صفحات الثقافةعلي جازو

“لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة” لخالد خليفة/ علي جازو

رواية حلب العائلة والحزب الخراب

تُقارَن حلب ما قبل البعث بحلب ما بعده. رواية خالد خليفة الجديدة تحفر ذاكرة المكان عبر استعادة محطات من ذاكرة تشمل ثلاثة أجيال. الزمن العثماني الطويل والزمن الوطني القصير والمغتال، انتهاء بزمن البعث القاتم والقاسي. المدينة التاريخية العريقة، والعاصمة الثانية لسوريا، تبوح بالكثير مما ظل مكتوماً ومحاصراً داخل الغرف ومطابخ المنازل. الوالدة التي تنتظر موتها، تتذكر حياتها السابقة برفقة ابنها، الذي يراقب ويتذكر حياتين متداخلتين إلى حدّ عدم وجود خيط يفصل بينهما. كان زمن الأم، البطيء والرصين والرحب، زمن المودة واللطف والحلم، لكنها الآن تحيا ماضياً لا غير، وحياتها هذه تتحول إلى حكاية أشبه بخبر يوجز مأساة شخصية وعائلية في وقت واحد.

من لغة الأخبار الميتة، تتوارث وتبقى حية ونابضة، تخرج رواية تذكّر بحيوات عانت وعاشت داخل صحراء الموت وممرات الرغبات المؤجلة. من لغة القمع تخرج شهقات الحكايات وتستعيد محطات أليمة واحدة تلو أخرى. يولد طفل عندما يستولي حزب البعث على السلطة بانقلاب عسكري عام 1963، ويعود مترجم حلبي مسيحي من جنيف إلى دار أمه كي ينتظر موتها. ثمة موظف، صديق لمهندس فرنسي خططا لمحطة قطارات، يترك زوجته(الأم) بعد أن أيقن أن لا مكان له في دولة البعث. رحلات داخلية خارجية، تبدأ من حلب وتنتهي بها، كما لو أن محطة القطار التي تحولت إلى ما يشبه ثكنة عسكرية هي ذاتها قبر المدينة وصلتها المقطوعة بالعالم.

ثاني أهم مدينة سورية، يقطنها أربعة ملايين، منها خرجت أول مطبعة، لا تجد فيها كتاباً جديداً، ولا فرقة مسرحية، ولا فيلم سينما. حتى الصحف تكاد لا تصلها. لا جديد سوى الخوف وشبحه المهيمن والخانق. يتحرك ساكنو حلب المعاقَبة، بعيد مجازر الثمانينيات، كما لو كانوا لامرئيين. كل ما يحدث لهم يحدث في عتمة منزلية مدوخة، ويبقى غائراً في كهف الظنون والالتباسات. يحل الانتقام مكان الصداقة، ويتحول الجار الجديد إلى مخبر سافل. إنها جزء أصلي وماثل من الكابوس السوري الآن. حلب كهف السلطة السورية أيام الأسد الأب، ومدار عنفها القاسي الأول سنوات الثمانينيات من القرن الفائت، هي محور رواية خالد خليفة “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة”. هنا وفي قرى شمال حلب عاش العرب والكرد والمسيحيون حيوات مختلطة عجيبة. يتجه عنف السلطة العامة نحو دواخل شخوص الرواية، منهم من ينكمش وينزوي، منهم من يهرب خارج البلاد، ومنهم من يحاول التماهي مع السلطة، وثمة من يعود إلى منبت ديني سرعان ما يتركه إلى غير رجعة. تختلط المصائر وتتشابك وتتصارع على نحو هاذ. تتوزاى هذه الحيوات مع سطوة حزب البعث وحملات القمع والاعتقال التي طالت إسلاميين وشيوعيين بعيد مجازر الثمانينيات وصولاً إلى موت الأسد الأب عام 2000 ودخول أميركا العراق عام 2003. نساء في مقتبل العمر، شابات يلتحقن بدورات مظليات من أجل تأمين الدراسة في الجامعة، ثم يتخرجن مزهوات بلباسهن العسكري، يجبرن محجبات على خلع حجابهن. ثمة مدرسون وموظفون بعثيون، يحملون مسدسات روسية كما لو كانوا في ساحة قتل دائمة. عسكر البعث الدولة، وحول الموظفين إلى خدم خانعين، جلب مخبرين وحطّهم مكان من لم يقبل البقاء في دائرة الخزي والقبح. تختزل السلطة بالعنف المحض ويتحول العنف إلى عادة آلية بلا رحمة. كل ما هو مدني وأليف يختنق بشبح العسكر الذين يحولون المدينة إلى ريف قاحل، ولا يتركون أحداً دون أن يلاحقه ظل ثقيل من الرعب والهلع والخشية. مدرس يرفض ترديد شعار الحزب في اجتماع التلاميذ الصباحي، يُستدعى إلى فرع التحقيق العسكري، ويترك ساعات وحيداً حتى المساء، ثم يعود من جديد ليتكرر التعامل نفسه مرات عديدة، إلى أن يتدخل أحد أقاربه ويرشي ضباط المخابرات بطقم آثاث وينشله من مصير مفزع. الأم التي هجرها زوجها، وكافحت طويلاً حتى ربت أبناءها، تصل إلى عمر الخرف وترفض تصديق موت الرئيس عام 2000، تشتم ابنتها سوسن وتسميها باسم إيلينا عشيقة أبيها التي خطفته وهربت به إلى أميركا. تطلب الأم المهجورة من ابنها عدم رفع صوته، لأن خبر الموت خديعة، فالرئيس لا يموت! تتذكر سوسن حبّها الأول، وتزور حبيبها، طفل الصدفة القديمة، العائد من جنيف والساكن وحيداً مع أمه المريضة. عازف الكمان”رشيد” يتوب عن ذنوبه وذنوب خاله الموسيقي “نزار” المثلي الهرم الذي يبحث في كتب المتصوفة عن معنى الموت. يغرق في قراءة القرآن ويخلط بين سوره والأحاديث النبوية، ويؤلف أناشيد دينية. تتوزاى حياة موسيقية داخلية مع حياة خارجية صماء. تحمل التقوى الطارئة والنادمة العازف إلى “طهر” مفقود، ويبدو أن تحوله هذا يأخذ شكل عقاب ذاتي إذ يمضي إلى الجهاد في العراق ضد “الصليبين الجدد”، ثم يعود بأعجوبة إلى حلب من جديد، كي ينتحر: “جثة رشيد متدلية من السقف كلمبة كهرباء ملوثة بخراء الذباب”.

أطوار حياة عائلية كانت من الممكن أن تكون عادية وجميلة، لكن كل ذلك تأخر وتراكم وانحرف والتوى وغلفه نسيان ثقيل تحول لاحقاً إلى حنين مرير.. كل واحد من الشخصيات يتذكر موته الخاص وحنينه وندمه. تجري هذه الحكايات في قالب خبري نقلي، وقلما نصادف بطئاً في سرد لاهث. كأنما ثمة ما أنجز وانتهى قبل أن يكتب خالد خليفة روايته الجديدة، وهو يستعيد ما كان في قالب درامي أقرب إلى التسجيل والتوثيق. يحتاج الأدب الروائي إلى التخلص من واجب تدوين التاريخ السياسي العنيف كما لو كان التدوين واجباً أخلاقياً، لكن عدم وجود مؤرخين، ربما، يحول الأدباء إلى كتّاب مزدوجين يلهثون بين تغطية الأخبار العامة، ومراقبة مصائر فردية لم تعد فردية الآن. ثمة لغة طاغية جارفة، لا تعرف توقفاً ولا تتمهل إزاء شيء، تبقى طيّ الإنشاء في أكثر من محل، غير أن رشاقتها الشعرية وصورها الباهرة ورغبة ساردها في البوح بكل شيء تنقذها من فخ الواجب والرصد في بلد كان خارج تاريخه الخاص، في كل شيء، وصار تحت نار صراعاته المدمرة. إنها حلب تحت الأرض، وهي سجل لسوريا التي ترفع ترابها إلى السماء من جديد كما لم يرفعه بلد آخر. لكن الرواية في أكثر من مكان تبدو أقرب إلى فيلم منها إلى رواية. ذلك أنها تصويرية تتداعى دونما تمهيد ولا تمهّل، فيما تبقى عين خالد خليفة تلاحق الصور الشخصيات لاهثة دونما توقف.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى