صفحات المستقبل

لا يليق بنا سوى الأمل

غفران مصطفى

أتكوّم في الغرفة ساعات. أنا وهاتفي والضوء. يخطر في بالي سيناريوهات كثيرة للغد، من بينها أن لا أعيش. أرصد الأخبار والتعليقات، أنتقل من محطة إلى أخرى، ولا شيء يجدي. أطفئ الضوء، وامتزج بفعل الأمل الباهت. أحمل الهاتف، أتابع المستجدات، وأنا متكوّمة في غرفتي ساعات. يخطر في بالي أن أبحث عن عمل في الخارج، فيطلع وجه أمي وعائلتي أمامي مباشرة، فأغيّر رأيي. أفكر بإجازة، لكن المال الجانبي هذا مخطط دفعه لأشياء أهم. يثقل أسفل رأسي، ترتفع الحرارة في جسدي، القناصة في الخارج، الشوارع خالية، أؤجل فكرة النوم، أحشر جسدي في الزاوية، ألقي رأسي بين يدي، أغلق أذني، أقتنع أن صدى الرصاص قاتل أكثر منه مصوباً ناحيتي. والدولة هائمة على وجهها. القناصة يتثاقلون على صدري، يضيق نفسي، أكاد أختنق، أختنق… فتسعفني رنة الهاتف، صديقتي تطمئن عليّ، لأن الصاروخين الذين هبطا منذ أيام كانا في مكان قريب من منزلي. كنت قد استيقظت للتوّ، سمعت صوتاً عالياً، كانت غرفتي قد ضاقت بي، فلم ترفع من هاجس هذا الصوت، كي لا أغير رأيي بالخروج.

القناصة في رأسي طوال اليوم.

تستلّ من جسدي القوة، دولتنا الخائبة. تُنقص كل يوم من أملي في الحب وكتابة مشروعي وفي المشي من دون جدوى. تحرمني كل يوم من فرصة استئناف طيّ الخطوات على مهل. تلتزم بإبهارنا بالخيبات. لست خائفة بقدر ما هو شعور بأنني وجدت في مكان ما لا يحمل على أكتافه همّ صباحاتي، وجنبات الطرقات التي أسلك، والأبنية المثقوبة بفعل الرصاص وما يمكن أن تخبئ من قناصة. وللصراحة، رجال الأمن لدينا أو رجال الجيش، أو لا أدري ما يطلق عليهم، كلما احتجتهم لا أجدهم، وفي الأيام الباقية أتسلى بإحصائهم.

منذ يومين حرق شاب في حيّنا بيت سوري انتقاماً. وهذا الشاب له من السوابق ما لا يعدّ، وفي كل مرّة، يفرض الجيش طوقاً أمنياً لساعات ويرحل. هذا السوري راح يبحث عن مكان آخر، وهذا الشاب نائم في حيّنا. ولا أحد يعرف ما ينويه للغد. والدولة هائمة على وجهها.

لا نريد منها حمايتنا من تسلّل الجماعات المسلحة، لأن ذلك سيجعلها تنهار نفسياً. نريدها أن تفرض قوّتها نصب أعيننا، لا أكثر. أن تقول لنا أننا بأمان في بيتنا، في أحيائنا الضيقة، في شوارعنا، في الزواريب، بين جيراننا، اللبنانيين والسوريين، في غرفنا، ومناطقنا المجاورة. أن لا تكذب. أن لا تخرج بتصريحات غبيّة، أن لا تعلّق على مأساتنا بكلام أفظع. أن لا تنكر خوفنا، ولا تقنعنا بأن بيروت بخير وطرابلس بخير والحدود بخـير، والذين يموتــون هــناك لا عــلاقة لها بهم!

أريد أن أعيش الحب وأحتفي بالمكان الذي سيّره، وبالحدود التي علا عنها. أريد أن أرتب أحاديثي معه من الآن، أن لا يكون خوفه أكثر مما يحتمله الوضع. أن نقرأ ونضحك ونغرق بالتفاصيل. هذه الأشياء البسيطة، لن تغدو كذلك إذا ظلّت دولتنا الخائبة في هذا الكمّ من التفاهة واللامسؤولية والإهمال. أريد أن أعيش بتلقائية، أن أرتب حديثي معه، مثلاً ولا يكون صوت الرصاص أعلى مما قد نضجّ به. أريد أن أظل على عادة تنقيب الجمال والخير من القبح والشر بالفعل وبما يلقيه على سيماء الوجوه، ولا أنخدع بالظواهر التي تخفي رصاصاً كالقناصة. أريد أن لا أفكر بالعمل في الخارج، وأن أبني العام فوق العام على أرضي. نحن أرواح آمنّاها بينكم، يا دولتنا الخائبة، نحن أناس بلينا بكم، حافظوا علينا، قولوا ما تعرفون وتفعلون واعترفوا بعجزكم، نريد أن نعيش، أو علمونا القتال.

أنا خائفة، للحقيقة. أفكر بالسلاح، وأقترح ذلك على أخوتي. خائفة لأني أفكر هكذا، لأننا صرنا نحتاج أن نفكر هكذا. أعطونا ما يستحقه إنسان بالوجود، يا دولتنا الخائبة، لا ما يمكن أن يمون عليه حزبه وطائفته ورئيسه، أو «خذوا حصتكم من دمنا وانصرفوا».

قباحة هذا العالم لا دخل لنا فيها، نحن الذين نقطن في التفاصيل الصغيرة، نحن الشعوب التي لا تعرف إلا أن تربّي وتفرح وتمشي، أن تسمع الموسيقى، تنصت للآذان، تعشق وتغضب من أشياء لا يطلع صوتها عن الجسد، ولا أبعد من صوت الرصاص. نحن شعوب لا تشبهكم، أنتم من يستحق كل ما يلمّ بنا، نحن لا يليق بنا سوى الأمل!

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى