صفحات الرأي

لعبة الأقليات: الأكراد نموذجاً

 

محمد السمّاك

عاش الأكراد على حلم دولة كردية مستقلة منذ مئة عام تقريباً.

انطلق الحلم في عام 1920 من معاهدة سيفر بين الحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الأولى والأمبراطورية العثمانية المتهالكة. نصت المعاهدة على حق الأقليات في الامبراطورية، الأكراد والأرمن بخاصة في الاستقلال.

غير ان هذا الحلم سرعان ما تبدد في عام 1923. فبعد قيام الدولة التركية الحديثة بقيادة مصطفى أتاتورك وفي ضوء الانتصارات التي حققها، تراجع الحلفاء عن معاهدة سيفر. وعقدوا في لوزان 1923 معاهدة جديدة مع تركيا. نصت الاتفاقية على وحدة تركيا أرضاً وشعباً .

ومنذ ذلك الوقت خبا الحلم الكردي بالدولة الوطنية، الا انه بقي في الضمير الوطني يتقدم أو يتراجع تبعاً لصعود أو لهبوط العلاقات بين الدول التي يتواجد فيها الأكراد، وهذه الدول هي إضافة الى تركيا، إيران وسوريا والعراق.

حاول الأكراد اللعب بورقة التناقضات القائمة بين هذه الدول. وفي الوقت ذاته حاولت هذه الدول اللعب بورقة التطلعات الكردية القومية في صراعاتها المتبادلة. كذلك وحاولت الولايات المتحدة (واسرائيل) اللعب بالورقتين معاً. وكان النفط وخاصة نفط كركوك- عاملاً أساسياً في هذه اللعبة المعقدة.

ولعل أول محاولة بارعة لاستعمال ورقة الحركة الكردية جرت في عام 1890. كانت هناك ثورة أرمنية ضد الإمبراطورية العثمانية تواكبها ثورة كردية بزعامة بدرخان بيك. فشكل السلطان عبد الحميد فرقة من الفرسان الأكراد الموالين له واقتحم بها معاقل المتمردين الأرمن، محققاً بذلك انتصاراً مزدوجاً :

الانتصار الأول بقمع ثورة التمرد الأرمنية، اما الانتصار الثاني فانه يتمثل في ضرب التحالف الأرمني الكردي ضد السلطنة .

بالانتصار الأول أصبح السلطان العثماني قادراً على ضرب ثورة التمرد الارمنية وهذا ما حصل. وبالانتصار الثاني تمكن من استفراد الحركتين واستضعافهما، ما سهل عليه إخضاعهما لسلطته. وفي الثمانينات من القرن الماضي وقعت القضية الكردية بين مطرقة ايران وسندان العراق، خاصة في فترة حكمي الشاه محمد رضا بهلوي وصدام حسين.

كانت إيران تقدم الدعم المالي والعسكري للحركة الكردية عندما كان العراق، بعد ثورة 1958، يطالب بعروبة الخليج ويرفض كل المعاهدات مع الكتلة الغربية. ولما طالبت إيران بإعادة النظر في معاهدة 1937 حول شط العرب، كانت تمارس من كردستان الضغط العسكري على العراق لحمله على قبول مطالبها. فردّ العراق بالاستجابة الى مطالب الأكراد بالحكم الذاتي.

ورغم ان قانون الحكم الذاتي للأكراد الذي أقره الرئيس العراقي السابق صدام حسين لاقى ترحيباً كردياً واسع النطاق، إلا انه اصطدم بعقبات رئيسة لعل من أبرزها :

اولاً : إنعدام الثقة بين بغداد وطهران، الأمر الذي أدى الى بلورة موقف إيراني يقوم على أساس التخوف من ان يستغل العراق علاقاته الودية الجديدة مع الأكراد لنقل المتاعب الى داخل الأراضي الإيرانية حيث توجد كثافة كردية.

ثانياً: انعدام الثقة بين بغداد والزعامة الكردية بقيادة الملا مصطفى البرازاني الذي رفض قطع علاقات التعاون مع إيران حتى لا يستفرد به العراق ويستضعفه.

ثالثاً : بعد ان حصلت الولايات المتحدة الأميركية على وعد من البرازاني بأن يعيد حقول النفط في كركوك الى الشركات الأميركية عندما يحقق انتصاره على حكومة بغداد، شجعت كلاً من البرازاني وايران على عرقلة تنفيذ قانون الحكم الذاتي للأكراد في العراق.

رابعاً : برزت قيادات كردية شابة جديدة (جلال الطالباني) في ضوء قانون الحكم الذاتي ولذلك آثر البرازاني تعطيل التنفيذ للقضاء على منافسيه من هؤلاء الزعماء الجدد المنافسين له .

أدت هذه العقبات وغيرها الى الإبقاء على فتيل الأزمة الكردية مشتعلاً في العراق. من أجل ذلك أيقنت بغداد صدام حسين بأن اطفاء هذا الفتيل هو بيد ايران، وانه لا بد من ثمن يدفع الى ايران مقابل ذلك. فكان اتفاق الجزائر لعام 1975 الذي رسم حدوداً جديدة بين الدولتين خاصة في منطقة شط العرب، يستجيب الى المطالب الإيرانية .

وبنتيجته سحبت ايران قواتها من الحدود العراقية، وأوقفت مساعداتها للأكراد، ما مكّن القوات العراقية من دحر قوات الملا البرازاني ومن ثم من فرض وقف إطلاق النار في 13 آذار مارس 1975. ولكن اتفاق الجزائر سرعان ما سقط ضحية الحرب العراقية الإيرانية في عام 1980 بعد الثورة الاسلامية بزعامة الامام الخميني. وسقط مع الاتفاق أكثر من مليون إيراني وعراقي على جانبي الحدود. وتكبد البلدان أكثر من 400 مليار دولار خسائر مادية.

ثم وقعت القضية الكردية بين فكي العلاقات بين سوريا وتركيا. فقد شهدت هذه العلاقات صعوداً وهبوطاً متعدداً منذ أيام الرئيس السابق حافظ الأسد.. ومن بعده ابنه وخليفته الرئيس بشار. فعندما كانت العلاقات في حالة سيئة، احتضنت سوريا حزب العمال الكردستاني الذي قاد الحركة الكردية الانفصالية في تركيا. ووفرت لزعيمه عبد الله أوجلان اقامة آمنة في ربوعها، وهيأت لمقاتليه معسكرات للتدريب والتنظيم في سهل البقاع اللبناني. ولكن عندما تحسنت العلاقات بين دمشق وأنقرة (بين الرئيسين حافظ الأسد ورجب طيب أردوغان)، وفتحت الحدود بين الدولتين، جرى إغلاق وتصفية المعسكرات في لبنان، وتمكنت تركيا من القاء القبض (؟) على أوجلان الذي حكم عليه بالسجن مدى الحياة في جزيرة “اوالي” التركية المنعزلة.

وعندما انتكست هذه العلاقات من جديد في ضوء وقوف تركيا الى جانب الثورة السورية، استعاد حزب العمال الكردستاني من جديد الدعم السوري، وكذلك دعم ايران بصفتها حليف سوريا الأول وربما الوحيد – إلا ان تركيا إدراكاً منها لخطورة هذا الالتفاف الإيراني السوري، عمدت الى الإنفتاح على حزب العمال الكردستاني وعلى كردستان (العراق) وكذلك على المطالب الكردية في تركيا بالذات. ما أدى الى تفاهم تركي كردي يشكل اليوم علامة فارقة في صورة المنطقة.

وكما كانت ايران الشاه تساعد الأكراد ضد صدام حسين، فان إيران الخامنئي ساعدت الأكراد ضد رجب طيب أردوغان. وفي الحالتين كان للمساعدة الإيرانية حدود. وهو عدم تمكينها من الاستقواء لدرجة الارتداد الى الداخل الإيراني حيث توجد ملايين عدة من الكرد تطالب بالحكم الذاتي.

ويبدو واضحاً ان الدعم الايراني للأكراد اليوم لا يعبر عن تعاطف مع قضيتهم القومية، ولكنه يشكل ورقة للمساومة مع أنقرة. وتجري المساومة على قاعدة وقف دعم تركيا للمعارضة السورية، مقابل وقف دعم إيران للمعارضة الكردية.

وفي هذا الاطار من المساومة جرى انسحاب قوات النظام السوري من المناطق الكردية في شمال شرق سوريا، ما جعل هذه المناطق قادرة على التواصل المباشر مع كردستان العراق. إلا أن التفاهم التركي الكردي أبطل مفاعيل هذه المساومة.

صحيح ان الأحزاب الكردية في المناطق السورية التي يزيد عددها على أحد عشر حزباً سياسياً، أقفلت أبوابها في وجه القوى المتمردة على سلطة الرئيس الأسد، الا انها في الوقت ذاته أعلنت انفصالها عن هذه السلطة وخروجها عليها. فهل تكون الخطوة التالية الانفصال عن سوريا والانضمام الى كردستان (العراق) ؟.. وماذا يكون رد فعل الحكومة العراقية التي تتأثر الى حد بعيد بالقرار السياسي الإيراني ؟.

ان الصراع بين بغداد وأربيل على أشده، حتى انه جرى حشد قوات البشمركة الكردية (200 ألف مقاتل) في مواجهة القوات العراقية. وايران التي كانت تدعم الأكراد في سوريا وتركيا، كانت في الوقت ذاته تمارس ضغوطاً شديدة على أكراد إيران. ثم انها تدعم الرئيس المالكي وحكومته في بغداد !!.. والتي تواجه حالة من انقطاع العلاقات مع اقليم كردستان العراق وحكومته. وكان الرئيس مسعود البرازاني قد أعلن اثر اجتماع لحكومته الاقليمية :” رفض السياسة المتبعة في بغداد التي تؤدي في حال استمرارها الى انهيار العملية السياسية برمتها نتيجة عدم الالتزام بمبدأ التوافق والشراكة والدستور وتجاوز كل القواعد السياسية والتوافقات والتفاهمات التي كانت في أساس بناء العراق الجديد “.

ثم ان حكومة أربيل لا تستطيع ان تضع نفسها بين فكي كماشة الصراع مع كل من بغداد وأنقرة في وقت واحد. فهي بحاجة الى انتزاع شرعيتها من بغداد، كما تحتاج الى تسهيلات من أنقرة لضخ نفطها عبر المرافئ التركية على البحر المتوسط.

ولذلك فانه على عكس الواقع الدموي للعلاقات التركية مع حزب العمال الكردستاني الذي استمر عقوداً طويلة وانتهى على ما يبدو باتفاق بين حكومة أردوغان وزعيم الحزب الوطني الكردستاني عبد الله أوجلان في معتقله ، فان علاقات كردستان مع تركيا تمر في أحسن مراحلها، تجارياً ونفطياً.. وبالتالي سياسياً، وهو ما يقلق طهران ويستفز بغداد.

تبقى علامة الاستفهام حول علاقة كردستان بحزب العمال الكردستاني في تركيا.. بعد اتفاق أنقرة مع عبد الله أوجلان، وبانعكاسات هذا الاتفاق على مواقف الأحزاب الكردية الجديدة في سوريا.. والأحزاب الكردية القديمة في إيران مثل حزب “بيجاك” و حزب “الحياة الحرة”… ان قدر كردستان هو انها كيان داخلي لا حدود بحرية له. وهذا عامل أساس من العوامل التي تجعله في مرمى القوى المتصارعة في لعبة الأقليات في الشرق الأوسط.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى