صفحات العالم

ماذا يريد بوتين من سورية –مجموعة مقالات

سورية.. روليت روسية/ بشير البكر

تبدو روسيا اليوم صاحبة القرار الأول فيما يتعلق بمستقبل سورية. وبناءً على المعطيات الميدانية، صارت في موقع من يستطيع وقف الحرب، ومن في وسعه أن يتركها تستمر إلى ما لا نهاية، وقد حصل الروس على هذه الورقة بالقوة العسكرية، وما كان يمكن لهم أن يحققوا هذا الإنجاز لولا استقالة الأطراف الدولية، مثل الولايات المتحدة وأوروبا، وعجز الدول الإقليمية ذات الثقل الوازن، مثل تركيا والسعودية، التي تمتنع، حتى اليوم، عن تسليح المعارضة بسلاح مضاد للطيران.

صار الروس يرسمون كل الخطوط في سورية، منذ أن استدعوا بشار الأسد إلى موسكو، في أكتوبر/تشرين أول الماضي. حينها، اشترطوا عليه أن يكون تدخلهم لمساعدته في مقابل أن يسلمهم قراره، وأن يقبل كل عناصر المعادلة التي يختارونها للحل في سورية. وبعد أن أنقذوا نظامه من الانهيار، وأعادوه إلى المشهد، ها هم يرسون على الفيدرالية وتحويل سورية إلى دولة اتحادية، بعد خمسة أشهر من حملة جوية ضارية ضد المعارضة.

لم يتوقف المراقبون طويلاً أمام قول وزير خارجية بريطانيا، فيليب هاموند، في مطلع الشهر الماضي، إن الروس يسعون إلى إقامة “دويلة علوية” لبشار الأسد، ومن ثم تردّدت الفكرة في كلام للرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، واقترب منها تلميحاً عدد من المسؤولين المهتمين بالشأن السوري، حتى إن وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، وضع “الخطة البديلة” التي لوّح بها، في حال فشل المسار التفاوضي، في إطار معادلة قوامها “نجاح المفاوضات شرط بقاء سورية موحدة”، كما ورد على لسانه الأسبوع الماضي. ويبدو كلام كيري ضرباً من ممارسة “التقية”، لأن الولايات المتحدة هي التي أوصلت الموقف في سورية إلى هذه الدرجة من الانحطاط، بحيث بات الروس يتحكمون بمفاتيحه الرئيسية، في حين تحاول واشنطن أن تعفي نفسها من المسؤولية بتقديم موسكو إلى واجهة المشهد.

والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا كان الروس أكثر صراحةً من غيرهم، في رمي هذه الورقة على الطاولة، على الرغم من أن الفكرة على قدر كبير من الخطورة سياسياً وأخلاقيا، فالتاريخ، من جهة، سوف يسجل عليهم أنهم بادروا إلى طرح مشروع تقسيم سورية، تحت اسم الفيدرالية، وتبنّيه وتسويقه. ومن جهةٍ ثانيةٍ، ستقع عليهم التبعات السياسية المباشرة لهذا المشروع، حتى لو سارت فيه وأيدته الأمم المتحدة وأميركا وأوروبا والعالم العربي؟

يبدو الروس مستعجلين لاستثمار ما حققوه في الميدان، ولديهم قناعةٌ بأنهم لا يستطيعون الحفاظ على المكاسب التي انتزعوها، إذا طال أمد الحرب التي تعتمد حتى الآن على القصف الجوي. وتشير كل المعطيات إلى أنهم، لكي يستمروا في تحقيق تقدمٍ، لا بد أن يدخلوا في الحرب عنصر المعارك البرية بقوة، سواء ضد قوات المعارضة أو داعش وجبهة النصرة، وإلا فإن قوات المعارضة سوف تمتص الصدمة، وتبدأ مرحلة حرب استنزاف جديدة لروسيا والنظام، سوف تكون كلفتها عالية مادياً وبشرياً. والسبب الثاني الذي يدفع الروس إلى الاستعجال في استثمار نصرهم هو الخوف من أن يجدوا أنفسهم مضطرين لخوض حرب ضد داعش والنصرة.

على العموم، تتمحور تقديرات الروس أن الحل الأفضل للنظام هو دويلة علوية، كما يضمنون، بهذا الخيار أيضاً، إقامة كانتون كردي على حدود تركيا. وبذلك، ينال حلفاؤهم حصة أساسية من الوليمة.

ربط نجاح الهدنة بوحدة سورية أمر في غاية الخطورة، في ظل عدم وجود مسعى دولي جدي، من أجل التوصل إلى وقف إطلاق نار فعلي. وليس من باب المصادفة أن من يواصل خرق الهدنة، ويطرح تقسيم سورية هي روسيا، وهي، تسعى من ذلك، إلى خدمة الأسد، لكن المسألة قد تتحول إلى لعبة روليت روسية.

العربي الجديد

 

 

 

القيصر وهندسة العدوّ المناسب/ أحمد بيضون

ما يريده بوتين في داخل سوريا لا يفوت فطنة الفطين: إنه اختصار الحرب الدائرة إلى مواجهةٍ بين النظام الأسدي والإرهاب الداعشي. لبوتين أغراضٌ أخرى تتعلّق بالعودة المظفّرة إلى شرق المتوسّط وبتدمير الوحدة الأوروبية، على الخصوص. وذاك أن القيصر الجديد لم يهضم، على ما يبدو، انقلاب الاتّحاد السوفياتي أثراً بعد عين وما كان سبق ذلك بزمن من تضعضع نفوذه في الشرق العربي، وما تبع انهيار جدار برلين من انحسار ذاك النفوذ عن أوروبا الشرقية جملةً. وهو يرى فرصةً في تضعضع قوى النظام الأسدي لتحقيق ما يتجاوز بكثير مجرّد الحفاظ على قاعدة كانت له على المتوسّط إلى السيطرة المبرمة على سورية. وهو ما يبيح له أن يعود لاعباً راجح الحضور في مصائر منطقة قريبةٍ إلى حدوده بما لموقعها من أهمّيةٍ إستراتيجية معلومة بين قارات العالم القديم الثلاث.

يعود سيد الكرملين متخففاً تخفّفاً كلّياً من تقدّمية الاتّحاد السوفياتي واشتراكيته السالفتين. يعود وهو ظاهر المودّة لإسرائيل بحكومتها اليمينية. وهو قادرٌ على الجمع، في المفاوضة على الصفقات الكبرى، ما بين حاكم مصر المرتدّة على ثورتها وبين حاكم السعودية المتوجّسة لا من التقارب الإيراني الأمريكي وحسب بل أيضاً من بوادر الانكفاء الأمريكي عن الشرق الأوسط كلّه، وإن يكن انكفاءً نسبيّاً بالضرورة. وفي مرحلة الانكفاء المتدرّج هذه يجد القيصر الجديد فرصته للعودة مستثمراً إلى الحدّ الأقصى موطئ قدمه السوري.

من سوريا أيضاً ـ وهو ما يبرز أهمّية موقعها ـ يباشر سيّد الكرملين زعزعة غريمه القريب الأكبر وهو الاتّحاد الأوروبي. يضع نصبَ عينيه، بطبيعة الحال، كسب الصراع على أوكرانيا والتحرّر من العقوبات الغربية أوّلاً. وهو يعلم أن استواءه طرفاً رئيساً في الصراع على المشرق العربي بابٌ إلى تكثير احتمالات المقايضة في الصراع الآخر. ولكن أمامه، في ما يتعدّى هذه المحطّة، خريطة أوروبا الشرقية بما ضمّ الاتّحاد الأوروبي إليه من دولٍ فيها كانت حديقةً أماميةً للاتّحاد السوفياتي. فإن الاتّحاد الأوروبي يستشعر اليوم نهوض ما فيه من قوى اليمين الأقصى محمولة على أكفّ عدّة بين أهمّها موجة اللجوء العارمة التي أضعفت القوى الحاكمة في أهمّ دول الاتّحاد. وهي موجةٌ يتعهّد نموّها الطيران الروسي معاضداً في ذلك النظام الأسدي وسائر مؤازريه على الأرض. وأما اليمين الأقصى، الذي يشتدّ أزره في غرب أوروبا فيقيم القيصر أحسن العلاقات مع أبرز قواه ويتّفق أن هذه القوى تتحرّق بدورها شوقاً إلى إطاحة الاتّحاد الأوروبي. في المساق نفسه يُضْعف طوفانُ اللجوء تركيا، وهي طرفٌ إقليمي مرموق في مواجهة الزحف الروسيّ الإيراني. هذا فضلاً عن امتحانه تماسك دولتين صغيرتين حافّتين بسورية هما لبنان والأردن.

في الداخل السوري يتبع الطيران الروسي سياسة الأرض المحروقة ويفتك فتكاً ذريعاً بالمدنيين للقضاء، بأيّ ثمنٍ كان، على كلّ خصمٍ للنظام يتعذّر زجُّه في خانة الإرهاب. هذا ما كان النظام نفسه يحاوله، بنُصْحٍ ومعونة إيرانيين، قبل دخول الروس. وهو ما عناه إطلاق سراح الإسلاميين المتشدّدين بالمئات من السجون الأسدية في أوائل الثورة. وهو ما عنته، في المدّة نفسها، مواجهة التظاهرات السلمية بالنار وبالاعتقال بلا حدّ وبتعذيب الألوف من المعتقلين حتى الموت… وهذا مع تعميم القتل والدمار على المناطق الثائرة بلا حدّ أيضاً. ذاك أيضاً ما عناه لاحقاً إخلاء الرقّة لفصائل مقاتلة لم تلبث أن تصدّرتها جبهة النصرة التي أخلت المدينة لداعش ثم إخلاء تدمر لداعش بلا قتالٍ يُذْكر، بعد أن كان جيش نوري المالكي، حليف الحكم الإيراني والأسد، قد أخلى لها الموصل بلا قتالٍ يُذكر أيضاً.

أفضل وصفٍ يسعنا اقتراحه لهذه الاستراتيجية، في طوريها الأسدي الإيراني والأسدي الروسي، هو أنها «هندسةٌ للعدوّ المناسب». لا يناسب نظام الأسد أن يدع عدوِّه يظهر على حقيقته لينكشف وقوفه بالحديد والنار في مواجهة شعبه. يناسبه أن يكون الإرهاب هو العدوّ المتصدّر لأن الإرهاب عدوّ العالم كلّه ولأن تصدّر الإرهاب يتيح استصراخ العالم كلّه عِوَض مواجهة معظمه إذا بقي العدوّ ثورةً شعبية. لذا يجهد النظام وحلفاؤه في سحق كلّ معارضةٍ باستثناء الإرهاب… هذا الأخير لم يلق منه، ومن حلفائه، في ما يتعدّى المناوشةَ والمناغشة، سوى التساهل والتشجيع الاستراتيجيين والدفع إلى صدارة المواجهة.

وبخلاف ما قد يتوهّمه المتعجّل، ليس لهذا «التشخيص» أدنى قرابة بـ»نظرية المؤامرة». وإنما نبرز ههنا مبدأً إستراتيجياً اعتُمد واقتضى المضيّ في تطبيقه قُدُماً أفعالاً مكشوفة بعضها هائل الضخامة. ولكنّه اقتضى أيضاً تمويه التراجع المراد من جانب النظام بالقتال المحدود. ولا يستقيم القول، على الأرجح، أن ما جرى كان مخطّطاً له من اليوم الأوّل أو من السنة الأولى. ولكن المبدأ المشار إليه ينتظم، بلا ريب، أفعالاً ومحطّات، روعي في كلّ منها، إلى الحدّ الممكن، مقتضى الظرف وحاجات المهمّة المطروحة. هذا المبدأ، بما يرمي إليه اعتماده من «هندسة للعدوّ المناسب»، كان لزومه يقضي، أوّل ما يقضي بإباحة العنف إلى حدّ التوحّش وبالتجاوز عن كلّ حسابٍ قد يحسب لمصائر المدنيين المقيمين في مواقع القتال أو لسلامة البيئة أو لثروة البلاد العمرانية أو الأثرية. فجاز القصف بالطيران من دون حدّ، وجاز استخدام السلاح الكيميائي والبراميل العشوائية في مدن وبلدات مأهولة، وجاز، لأوّل مرّةٍ منذ أن وُجِدَت الصواريخ البالستية، توجيهها عبر البلاد من جنوبها إلى شمالها لضرب أحياء مدينية، لا في مساق حربٍ «خارجية»، بل في مساق القمع الجاري لتمرّدٍ داخلي.

ما الذي يلوح خلف هذا السلوك الأسدي، حين يدعى إلى تصدّره، بعد أن أخذت قوى النظام الأسدي تخور، دولة كبيرة لها مطامح إيران، بما لها من أذرع، ثم دولة كبرى لها مطامح روسيا؟ من هذا السؤال نبدأ عجالتنا المقبلة.

٭ كاتب لبناني

القدس العربي

 

 

 

الخيارات العقلانية .. ما الذي يريده «بوتين» حقا في سوريا وأوكرانيا؟

فاجأ قرار الرئيس الروسي «فلاديمير بوتين» في سبتمبر/أيلول بنشر قوات عسكرية في ساحات القتال في سوريا أكثر خبراء السياسة الخارجية حنكة. يميل «بوتين» دوما إلى فعل ما ليس متوقعا وبخاصة في الآونة الأخيرة. قيام «بوتين» بضم شبه جزيرة القرم ودعمه لتأسيس دوليتين انفصاليتين في دونباس شرق أوكرانيا هي أحد هذه الأمور.

في صيف عام 2014، كانت هذه الجمهوريات أحادية الطرف في طريقها نحو الهزيمة. وكان الجيش الأوكراني مدعوما بزمرة من الميليشيات الخاصة التي يقودها أمراء الحرب قد بدؤوا في التوغل إلى الأراضي التي يسيطر عليها المتمردون. وبدا كما لو أن المتمردين لن يكونوا قادرين على الصمود لفترة أطول من ذلك. من أجل إنقاذهم، فقد قام «بوتين» بتزويدهم بالأسلحة والأفراد من أجل شن هجوم مضاد ومن أجل المساعدة في فتح جبهة جديدة على الساحل الجنوبي لأوكرانيا بالقرب من نوفوازوفسك. وقد تم تصميم هذه المناورة بهدف تقسيم القوات الأوكرانية.

نجح التدخل الروسي في دفع تقدم جبهة دونباس نحو الغرب. وقد تسبب تصعيد «بوتين» في عكس المكاسب السابقة التي حققتها أوكرانيا وبعث برسالة عن عزم موسكو.

من أوكرانيا إلى سوريا. يرى بعض المعارضين الروس وعلى رأسهم زعيم المعارضة السابق وأسطورة الشطرنج الروسي «جاري كاسباروف»، وكذا بعض المعلقين في الغرب، أن تراخي الرئيس الأمريكي في أوكرانيا هو الذي أغرى روسيا بالتدخل عسكريا في سوريا. بعد كل شيء، بعد أن قام «بوتين» بالاستيلاء على الأراضي في شبه جزيرة القرم وشن الحرب في دونباس دون إثارة رد عسكري من قبل الولايات المتحدة، فإن الرئيس الروسي قد استنتج أن بإمكانه أن يفعل نفس الشيء في سوريا مع الإفلات من العواقب. من المستحيل معرفة ما إذا كان هذا الاتهام صحيحا بسبب عدم وجود أدلة قوية حول طبيعة ما كان يفكر به «بوتين» قبل تدخله في سوريا.

شئنا أم أبينا، تنظر النخبة الحاكمة في روسيا إلى أوكرانيا كجزء من المجال التاريخي الشرعي لنفوذ بلادهم. قد يكون من المريح أن نعتقد أن هذا الموقف ينبع فقط من ولع «بوتين» الشخصي بالقوة والنفوذ وأنه سوف يتلاشى مع رحيله بطريقة أو بأخرى، ولكن هذا التقييم المتفائل لا يصمد أمام الحقائق. وكان رئيس الوزراء الروسي الحالي «ديمتري ميدفيديف» الذي يعتبره البعض أبرز المؤيدين لتحسين العلاقات مع الغرب، قد أعلن خلال توليه الرئاسة، وفي أعقاب الحرب بين روسيا وجورجيا عام 2008، أن الدول القريبة من روسيا تصنف في نطاق مصالحها الأكثر أهمية.

وقبل «بوتين» و«مديديف»، كان هناك حكومة «بوريس يلتسين»، وهو زعيم روسي يحتفى به الآن باعتباره زعيما ديمقراطيا من قبل بعض المراقبين الغربيين. وقد انتقد «يلتسن» توسع الناتو شرقا في أوروبا. وعندما صرح «أندريه كوزيريف»، أول وزير خارجية في حكومة يلتسين، الذي كان يشغل منصب حتى عام 1996 ، برغبة بلاده في الانضمام إلى المجتمع الديمقراطي للدول التي تتبنى اقتصاد السوق، فقد تعرض للانتقاد من قبل «يلتسن». وكان «كوزيريف» نفسه قد حذر في وقت مبكر من عام 1992 من أن توسع حلف الشمال الأطلسي في أوروبا سوف يتسبب في تقسيم القارة ويساعد في زيادة نفوذ المتشددين الروس. وقد أثبت «كوزيريف» أنه صاحب بصيرة، حيث وقف «يلسن» نفسه ضد حملة القصف التي قام بها تحالف الأطلسي في كوسوفو وصربيا عام 1999.

وبعبارة أخرى، ليس «بوتين» وحده هو من يعتقد في روسيا أن توغل القوى الكبرى في مناطق النفوذ الروسي يمثل خطرا على بلاده. معظم الزعماء الروس قد أبدوا أنهم يعتقدون بصحة هذا الأمر حين وصلوا إلى سدة الحكم تماما كما فعل أسلافهم من القياصرة والسوفييت.

تظهر استطلاعات الرأي، بما في ذلك تلك التي تجري بمعرفة مؤسسات مستقلة غير حكومية، أن تحدي «بوتين» للغرب ودفاعه عن مصالح السياسة الخارجية الروسية يلقى قبولا داخل المجتمع الروسي ككل وليس فقط داخل الطبقة القيادية فقط.

يبدو أن الروس بشكل عام غير متقبلين لاحتمالية وجود أوكرانيا متوائمة مع الغرب منذ صفقة التجارة الحرة التي تم الاتفاق عليها مع الاتحاد الأوروبي في عام 2008. في أعقاب الإطاحة بالرئيس الأوكراني «فيكتور يانكوفيتش» الموالي لروسيا إثر احتجاجات أواخر عام 2013، فقد اختار الكريملين التصعيد لأنه كان يعتقد أنه لم يكن هناك أي خيارات واقعية أمام الغرب سوى أن يتقبل الحقائق الجيوسياسية ويتراجع عن الصراع مع روسيا على عتباتها الخاصة. وقد أثبت هذا النهج دقته، حيث اكتفى الغرب بتوقيع عقوبات على موسكو، والتي لم تكن لتغير من الأمور شيئا فيما يتعلق بمسألة تعتبرها موسكو مركزية من أجل أمنها ومكانتها.

منطق سوريا

المنطق نفسه يكن تطبيقه في سوريا. ومن المؤكد أن سوريا لا تقارن مع الجمهوريات السوفيتية السابقة من حيث الأهمية الاستراتيجية لروسيا لأسباب جغرافية وعرقية، وثقافية. لكن «بوتين» لم يقم بإرسال الطائرات الحربية والمدرعات في سوريا من أجل استعراض القوة أو بسبب الأزمة الأوكرانية التي أثبتت أن الرئيس الأمريكي «باراك أوباما» يفتقد إلى الشكيمة.

لم يقم «بوتين» بحركته في سوريا أيضا من أجل صرف الانتباه عن أوكرانيا. كما هو الحال في أوكرانيا، فإن روسيا ستخدم قوتها العسكرية في سوريا نظرا لأنها تعتقد أن هناك مصالح مهمة على المحك. وهي مستعدة لحماية تلك المصالح على الرغم من العقوبات الاقتصادية الغربية.

بعض الخلفيات التاريخية قد تساعدنا في تبين أسباب هذا النهج. كان لموسكو علاقات وثيقة مع الأنظمة البعثية السورية المتعاقبة منذ الخمسينيات. كانت الحكومة السورية هي أول من وقع صفقة رسمية للحصول على الأسلحة الروسية في عام 1954. وعلى مدى العقود التالية، ظلت سوريا هي المتلقي الرئيسي للمنح والمساعدات السوفييتية. تم بناء القطاع الاقتصادي للدولة السورية اعتمادا على الأموال الروسية والمساعدات التقنية من الخبراء الروس. تلقى أكثر من 30 ألفا من الروس تعليمهم في الجامعات السوفييتية في مجالات العلوم والهندسة، والطب. وقد تم تدريب 10 آلاف من الضباط السوريين في الأكاديميات العسكرية السوفييتية. تزوج الكثير من هؤلاء من نساء روسيات وعادوا بأسرهم للإقامة في سوريا التي استقبلت عددا كبير من الروس.

وبفضل المساعدات الاقتصادية والعسكرية المستمرة إلى سوريا، فقد ظفرت روسيا بقاعدتها البحرية في ميناء طرطوس في عام 1971. في عام 1980، وقعت الاتحاد السوفييتي مع الرئيس السوري «بشار الأسد» على معاهدة التعاون الأمني. ورغم أن سوريا قامت باضطهاد الماركسيين بالسجن والتعذيب وناهضت الشيوعيين في الداخل فإن ذلك لم يزعج موسكو، حيث كانت سوريا تمثل استثمارا استراتيجيا، وليس اختبارا للنقاء الإيديولوجي.

ومع انهيار الاتحاد السوفييتي فقد وجدت روسيا نفسها عالقة مع سوريا. في عام 2005، قامت روسيا بمحو 10 مليارات دولار من قيمة 14 مليارات دولار من الديون المتراكمة على سوريا منذ العصر السوفييتي. وظلت العلاقات السياسية القوية وتم الحفاظ على تدفق الأسلحة. وقد جرى تعميق وتجديد ميناء طرطوس الروسي من أجل إعداده لاستقبال وحدات أسطول البحر الأسود الروسي من السفن الحربية والغواصات.

عندما قفز «بوتين» إلى الحرب الأهلية في سوريا، كان يهدف كما هو الحال في أوكرانيا إلى حماية مصالحه الاستراتيجية طويلة الأمد. وقد اتخذ هذه الخطوة، بالتنسيق مع إيران والعراق، مدفوعا بالمخاوف من قرب انهيار النظام السوري. في هذا التوقيت، كان المقاتلون الإسلاميون قد اجتاحوا محافظتي إدلب وحلب. والأسوأ من ذلك، أنهم انتقلوا من إدلب إلى الشريط الساحلي الممتد من شمال اللاذقية إلى ما بعد طرطوس. وصاروا قريبين من تهديد معاقل الطائفة العلوية التي ينتمي إليها الرئيس السوري «بشار الأسد».

كان تقدم المسلحين الإسلاميين في هذه المنطقة يعني أن «الأسد» قد صار قريبا من السقوط. فهم «بوتين» أن النفوذ الروسي في سوريا، والذي تراكم على مدار أكثر من نصف قرن قد صار مهددا. وعلاوة على ذلك، فإن هناك الآلاف من المقاتلين المسلمين من منطقة شمال القوقاز الروسية قد انضموا إلى الحرب ضد «الأسد»، ما أجج مخاوف «بوتين» من تعميق التمرد الإسلامي في جنوب روسيا.

كما هو الحال في أوكرانيا، فإن روسيا لن تتراجع في سوريا. ورغم أن الكثيرين في الغرب يشعرون بالغضب من النشاط الروسي ويودون القيام بشيء، إلا أن هناك القليل فقط يمكن القيام به فعليا.

تسليح القوات التي تقاتل ضد «الأسد» قد يكون هو الخيار الأقل سوءا. ولكن من غير الواضح إلى الآن ما هي الجماعات التي يمكن أن تحول إليها الأسلحة. تقع أقوى الجماعات المناهضة للأسد ضمن ائتلاف جيش الفتح والذي يضم جبهة النصرة، فرع تنظيم القاعدة في سوريا. وعلى الرغم من الحديث عن المعتدلين والديمقراطيين في المقاومة، فإن تواجدهم يعد هامشيا إذا ما نظرنا إلى المعايير الفعلية من حيث أعداد المقاتلين وعادهم وحجم السيطرة على الأراضي.

يشهد ميدان المعركة في سوريا تغييرات مستمرة. وهو ميدان سائل من حيث انتقال الأسلحة وإعادة توزيع التحالفات وتبادل السيطرة على الأراضي. الأسلحة التي يتم ضخها في مثل هذه البيئة يمكنها بسهولة أن تصل إلى الأيدي الخطأ خاصة في ظل الدعوات إلى تزويد هذه الفصائل بصواريخ محمولة مضادة للطائرات.

هل هناك خطة؟

لا تعني أي من هذه الأمور أن «بوتين» يملك استراتيجية كاملة في سوريا أو في أوكرانيا، أو أن هذه الاستراتيجية حال وجودها تعمل بشكل جيد. تبقى نهاية اللعبة الروسية في كلا الموضعين غير واضحة حتى بالنسبة إلى روسيا نفسها. تواجه التكهنات حول توغل روسيا إلى الغرب في أوكرانيا العديد من المعوقات عمليا، حيث ستبدأ القوات الروسية في مواجهة عقبات هائلة كلما انطلقت أكثر إلى الغرب نظرا لأنها سوف تدخل إلى مناطق أكثر مقاومة لها من حيث تركيبتها السكانية. سوف يكون عليها المرور عبر المدن الكبرى ودنيبروبتروفسك، خاركوف، ماريوبول والدخول في مواجهات حرب المدن، والمخاطرة بزيادة التحديات فيما يتعلق بتكلفة تأمين خطوط الإمداد.

الأهم من ذلك، أن بوتين سوف يحرق أي جذور كان قد بناها مع الغرب من خلال المشاركة في مفاوضات البرنامج النووي الإيراني. هذه العزلة قد تدفع روسيا نحو الصين، في حين أن الاستراتيجيين الروس يخشون من هذا الاحتمال بسبب قوة الصين المتنامية، والتاريخ المضطرب بين روسيا والصين خلال الـ150 عاما الماضية.

وبعبارة أخرى، فإن بوتين لن يحاول ضم المزيد من الأراضي. بدلا من ذلك فإنه يتوقع ثورة جديدة في أوكرانيا في ظل فشل حكومة الإصلاحيين التي غرقت في مشاكلها الداخلية وبددت آمال الناس. هذا الفشل الذريع هو الذي مهد الطريق سلفا لـ«يانكوفينش» الذي كان مستسلما للنفوذ الروسي. المشكلة بالنسبة لـ«بوتين» أن هذا التشخيص قد لا يكون دقيقا ما يعني خروج أوكرانيا بشكل كامل من الفلك الروسي. الإصلاحيون الأوكرانيون يواجهون بلا شك معركة طويلة وشاقة، وسوف تكون وتيرة التغييرات بطيئة. ومع ذلك، فإن لديهم العديد من النجاحات على الائتمان الخاصة بهم، بما في ذلك إنشاء قوة شرطة جديدة وتطبيق المزيد من الشفافية. يبدو من المبكر أن نحكم أن أوكرانيا قد فشلت بالفعل.

في سوريا، لإن روسيا ليست لديها أي أوهام بأن «الأسد» سوف يحكم بلدا موحدا مرة أخرى يوما ما. في الواقع، لقد انزعجت موسكو بشدة من تبجح «الأسد» بالحديث حول السيطرة على كامل سوريا مؤخرا. بدلا من ذلك، تريد موسكو للأسد أن يستخدم المكاسب التي حققتها قواته بعد التدخل الروسي للتوصل إلى اتفاق لتقاسم السلطة مع خصومه. وهناك تكمن المفارقة، وهي أنه في الوقت الذي ترغب فيه روسيا بالوصول إلى اتفاق، فإن «الأسد»، الذي أغرته الانتصارات التي حققها التدخل الروسي، قد يقرر عدم الانصياع وهو ما يضع «بوتين» أمام مشكلة جديدة لأنه لا يمكنه ببساطة أن يقرر سحب قواته والرحيل.

وبالتالي فإن «بوتين» قد يكون في انتظار مهام طويلة. سفك الدماء الهائل، والفجوة الأيديولوجية العميقة التي تفصل بين نظام «الأسد» وأعدائه، والانقسامات داخل قاعدة المقاومة سوف تمنع من الوصول إلى اتفاق سريع مقبول من جميع الأطراف. وفي الوقت نفسه، فإن التكاليف بالنسبة لروسيا تتزايد ويمكن أن تكون هناك مفاجآت غير سارة بما في ذلك نشاط الجماعات المسلحة داخل روسيا نفسها والاصطدام بين تركيا وروسيا ودخول حلف الشمال الأطلسي كطرف في الصراع.

سوف تظل روسيا والغرب على طرفي نقيض في غياب تسوية سياسية في سوريا وأوكرانيا، في الوقت الذي سيكون فيه الرئيس الأمريكي القادم، الديمقراطي أو الجمهوري، متحفظا في المسارعة نحو راب الصدع مع «بوتين» لأسباب تتعلق بالسياسة الداخلية. ومع ذلك، فإن ما يطلق عليها الحرب الباردة الثانية ليست أمرا بالنسبة للغرب.

ولكن ما يمثل أمرا سيئا للغرب فإنه أسوأ بكثير بالنسبة إلى روسيا. أسعار النفط، شريان الحياة الرئيسي للاقتصاد الروسي، هبطت إلى أقل من 30 دولارا للبرميل. والروبل قد فقدت نصف قيمتها بالنسبة للدولار. وتتعرض احتياطيات النقد الأجنبي في روسيا لضغوط كبرى نتيجة لكل هذه التحديات. ومما زاد الطين بلة، فإن الاقتصاد الروسي قد انكمش بنسبة 3.7% في عام 2015، ومن المتوقع أن يواصل الانكماش في عام 2016. وهناك دلائل على أن هذه الظروف الاقتصادية الصعبة قد تسهم في خلق اضطرابات عامة. وفي ظل هذه الظروف، قد يجد «بوتين» أن الحروب المفتوحة في أوكرانيا وسوريا قد لا يكون بالإمكان تحملها.

ترجمة وتحرير فتحي التريكي – الخليج الجديد

فورين أفيرز

 

 

 

النظام «الصامد» برعاية واشنطن على نفقة موسكو/ عزت صافي

دخلت ثورات «الربيع العربي» سنتها السادسة ولا تزال بداياتها من تونس تثير علامات الاستفهام. وقد نُشرت روايات متعددة عن بائع الكمثري (الإجاص) الذي أشعل النار في ملابسه، احتجاجاً على حرمانه من رزقه وفارق الحياة، وكان موته الشرارة التي أطلقت الثورة فعمّت خمس دول: تونس – مصر – ليبيا – اليمن – سورية.

بعد خمس سنوات، تُستعاد الرواية التونسية على حقيقتها كما حصلت. فالموظفة في بلدية ولاية «سيدي بو زيد» واسمها «فايدة حمدي» لم تصفع البائع المتجول «الضحية»، بل هي كانت قد أنذرته أربع مرات بوجوب الاستحصال على رخصة تسمح له ببيع الفواكه على عربته المتنقلة، لكنه أهمل الإنذار. وصباح 17 كانون الأول (ديسمبر) 2010 دفع «البوعزيزي» عربته إلى موقف سيارات الأجرة، وكانت محملة بفاكهة الكمثري، ولم يكن قد حصل على رخصة، فما كان من الموظفة إلا أن أخذت منه الميزان، فثار غضباً وركض نحو مركز البلدية طالباً مساعدته بحل عاجل، ولم يكن ذلك ممكناً، فخرج إلى الساحة فاقداً أعصابه، وتوجه فوراً نحو عربته، وكان يخبئ فيها قارورة مادة حارقة فسكبها على ثيابه وأشعل فيها النهار، وإذ نُقل حالاً إلى مستشفى، فقد فارق الحياة بعد أسبوعين انفجرت خلالهما ثورة تونس، وسقط فيها نحو أربعين ضحية، فيما ذهبت الموظفة فايدة حمدي إلى السجن تنفيذاً لحكم صدر بحقها وقضى بحبسها أربعة أشهر.

هي تفاصيل عادية جداً ترويها الموظفة التونسية تعبيراً عن حزن عميق يسكنها من دون ذنب، خصوصاً بعدما خرجت الثورة المفتعلة من تونس وراحت تضرب في الأقطار العربية، مخلّفة الأهوال.

هذه الخلاصة تطرح السؤال الكبير: هل كانت مؤامرة؟ وإذا كانت مؤامرة فمن هي الجهة، أو الجهات التي تملك القدرة والإمكانات لتحويلها براكين تدمر المدن والأرياف، وتقتل الآلاف وتهجّر الملايين، ويبقى النظام وحاشيته، كما هي الحال في سورية؟

هناك اسم لا يزال عالقاً في أذهان عدد كبير من السياسيين والإعلاميين العرب والسوريين، وسواهم هو «دنيس روس» الديبلوماسي الأميركي الذي تابع الكوارث التي حلت في لبنان خلال الحروب الإسرائيلية التي كانت تجتاحه في زمن ضعفه بين السبعينات ومطلع الثمانينات من القرن الماضي.

دنيس روس كتب في نشرة «معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى» بتاريخ 17 شباط (فبراير) 2016 مقالاً تناول فيه ما يجرى في سورية على عتبة اتفاق «الهدنة الموقتة». ومن مجمله هذه الأسطر:

«أدت الكارثة في سورية إلى سقوط مئات الآلاف من القتلى ونزوح 11 مليون شخص. وإذا سمح الاتفاق الذي تمّ التوصل إليه في ميونيخ بوقف «الأعمال العدائية» وإيجاد ممرات إنسانية، فإنه سيستحق العناء. ولكن من الصعب التفاؤل في هذا السياق، ولا يعود ذلك إلى أن بشار الأسد يقول أنه سيستمر في ملاحقة الإرهابيين، فهذا تصنيف يدرج ضمنه في شكل مقصود جميع خصومه تقريباً. ويتابع دنيس روس: «لكن لا أهمية لكلام الأسد لأن ليس في وسع قواته أن تحقق الكثير من دون روسيا والميليشيات الشيعية المدعومة من إيران، وحتى القوات التي تدعمها إيران تعتمد في شكل متزايد على الروس للحصول على الغطاء الجوي والدعم المدفعي».

ويضيف: «إن الروس هم الذين يتمتعون بالأهمية التي تستطيع ان تحدث فرقاً، وهم اعتمدوا مرة جديدة في نمط الاتفاق مع الولايات المتحدة على مبادئ عامة لتخفيف حدة الصراع السوري، ثم تصرفوا بعد ذلك من دون احترام تلك المبادئ».

واضح من هذا الكلام أن الديبلوماسي الأميركي المجرّب يعتبر أن الروس مسؤولون عما يجرى في سورية منذ بداية الحرب مع استمرارها، ومعنى ذلك أن العقدة في سورية ليست الأسد، إنما هي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

ففي بيروت، وفي إطار ندوة سياسية عُقدت في مقر «رابطة أصدقاء كمال جنبلاط»، كان العنوان عن «أسباب التدخل الروسي العسكري في الأزمة السورية وتداعياته الإقليمية والدولية وانعكاساته على الأوضاع في لبنان». وكان سفير روسيا في بيروت ألكسندر زاسبكين أحد المحاضرين، وكان المحاضر الثاني سفير لبنان السابق في واشنطن الدكتور رياض طبارة، وهو انطلق في مداخلته من موقف الرئيس فلاديمير بوتين «الذي حلم بإعادة بناء عظمة روسيا»، مشيراً إلى أن «انهيار الاتحاد السوفياتي» كان أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين، وقد كان لموسكو اربع دول صديقة وحليفة في المنطقة، واليوم لم يعد لها سوى القاعدة البحرية الصغيرة قرب مدينة طرطوس في سورية».

كانت هذه خلاصة واقعية مرة، لكن السفير طبّارة عاد وتناول دور الكرملين برئاسة بوتين في منطقة الشرق الأوسط، وحصرياً في سورية، حيث سارع إلى ترسيخ وجوده العسكري دعماً للنظام ومع التوسع في إقامة قواعد عسكرية في عدد من المناطق بهدف إطالة أمد وجوده إلى أجل غير محدد.

أما السفير الروسي فقد قصد في بداية مداخل الإيضاح بأن مهمته هي شرح الموقف الرسمي لدولته في موضوع تدخلها العسكري في سورية. لكنه حرص على التأكيد «أن العودة بروسيا إلى الاتحاد السوفياتي، أو إعادة بناء امبراطورية روسية، غير مطروحة على الإطلاق، مشيراً إلى أن روسيا تكتفي بالتعامل مع جاراتها السابقة على تنظيم العلاقات الاقتصادية لمصلحة جميع الأطراف.

لكنّ سؤالاً واحداً طُرح على السفير الروسي مرتين، وفي المرتين تجاوز السؤال من دون جواب. كان السؤال: من يحكم سورية اليوم؟

كان واضحاً أن السفير لا يريد الدخول في التفاصيل السورية، لكنه كان صريحاً وواضحاً في الاعتراف بأن التدخل العسكري الروسي في سورية كان رد فعل على ما حصل في دول عربية أخرى مثل ليبيا (حيث ذهبت الغنيمة إلى الأميركيين والفرنسيين والإيطاليين). ثم أكد بوضوح: روسيا لا توافق على إسقاط النظام في سورية. إنما تعمل على تحقيق إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية «ترضي الجميع»… وطبعاً لم يقل أن هذا هو المستحيل.

ويعود التساؤل: كيف كان لعملية فردية مأسوية أقدم عليها شاب تونسي بائس أن تحدث كل تلك الثورات، وكل ذلك الدمار والموت والتشرّد الذي أصاب خمس دول عربية، وأن يكون الفاعل ذلك الشاب الضحية؟!

ثمّ، لماذا تأخر التحالف الدولي المؤلف من الدول العظمى والمتوسطة خمس سنوات قبل أن يفرض «هدنة موقتة» من مستوى الهدنة التي التزمها أخيراً، وقد وصفها بأنها «موقتة»؟

أياً تكن الأجوبة يبقى جواب واحد هو الأقرب إلى الحقيقة والواقع: سورية التي كانت قبل آذار (مارس) 2016 لن تعود. والنظام السوري يدرك أنه بات في الفصل الأخير من ولايته التي دامت نحو خمس وأربعين سنة.

كان الرئيس الأميركي باراك أوباما قد نبّه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى مخاطر التوغل في الحرب السورية في بداياتها. قال له: لماذا تقدم على هذه المغامرة التي قد تودي بك إلى الغرق في المستنقع؟

لعل نصيحة أوباما في محلها. فالرئيس الأميركي يعرف أن النظام السوري «الصامد» يعيش منذ خمس وأربعين سنة برعاية واشنطن وعلى نفقة موسكو عاصمة الاتحاد السوفياتي سابقاً، والاتحاد الروسي حالياً.

أي سورية جديدة سوف تولد بعد هذا المخاض العسير الطويل؟… سؤال جوابه في الغيب المفتوح على الرئيس الأميركي المجهول والمنتظر في مطلع السنة 2017. وسواء كان ذلك الرئيس ديموقراطياً او جمهورياً فالرجاء العربي منه باطل. ذلك أن الحظ دائماً لإسرائيل التي تنعم بالبلاء العربي المديد.

* كاتب وصحافي لبناني

الحياة

 

 

 

 

روسيا تستخدم سوريا لتطويق أمريكا وأوروبا.. تستفز أردوغان وتنقذ الأسد وتتلاعب بأوباما

من الجلي أن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، لا يعتبر الولايات المتحدة الأمريكية شريكا ولا حتى خصما، إنما يعتبرها عدوا، وهذه الحقيقة قد أظهرتها حملة عامة روسية أظهرت صورة للرئيس الأمريكي باراك أوباما مع قرون على رأسه، واصفة إياه بالقاتل الدولي. (وكانت الحكومة الروسية قد أعلنت عدم مسؤوليتها عن الحملة).

وكانت هذه الحملة صادمة وجاذبة للنظر. ولكن المحزن أكثر من ذلك، هو ما يفعله بوتين في سوريا، إذ أنه يخرج واشنطن وحلفاءها من اللعبة مما قد يسبب عواقب كارثية.

في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، عندما بدأت روسيا قصفها في سوريا، تكهن أوباما أن الرئيس الروسي سيندم على قراره بالتدخل في الحرب الأهلية السورية.  فقد قال الرئيس الأمريكي إن التدخل الروسي هو “محاولة لدعم الأسد وإسكات الشارع في روسيا، وهو سيجعلهم (الروس) عالقين في مستنقع، ولن يتحقق ما يسعون إليه”، حسب تعبيره.

ربما تكون نظرة أوباما صحيحة على المدى البعيد، فقد تكون سوريا، فيتنام بوتين. ولكن حتى الآن، فإن الرئيس الروسي لم يقلب الأوضاع في سوريا لصالحه وحسب، في وقت كان يخسر فيه الرئيس السوري بشار الأسد يخسر الأراضي السوري بطريقة مستمرة، ولكنه يستخدم تدخله في سوريا كجزء من لعبة شطرنج عالمية يلعبها ضد الغرب. بصراحة، إن بوتين يطوق الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا.

وهذه خمسة طرق تسعى فيها روسيا إلى إخراج الغرب من اللعبة في سوريا:

  1. روسيا تستفز تركيا وتسعى لخلق شرخ في تحالف الناتو.

زادت حدة التوترات بين روسيا وتركيا، العضو في الناتو، بعد أن أسقطت إحدى الطائرات الحربية التركية طائرة حربية روسية قرب الحدود السورية التركية في نوفمبر/ تشرين ثاني. ومنذ ذلك الحين، بقيت روسيا عند وعدها بأن يكون ثمن اسقاط طائرتها باهظا. فالعواقب الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية على الأرض واضحة.

تركيا تقول إن روسيا تخترق اجواءها بشكل مستمر. وهي تستهدف مواقع يحتلها الأكراد السوريون الذين تدعمهم روسيا. وفي حال قررت أنقرة التدخل العسكري في سوريا، وهذا أمر ممكن، فإن احتمال اندلاع حرب روسية تركية سيجبر الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا على الدخول في الحرب تحت مظلة الناتو التزاما باتفاقية الدفاع المشترك. كما سيواجه الناتو خيار دخول حرب مع روسيا دفاعا عن الحليف الأقل اعتمادا عليه، تركيا، او أن يحدث شرخا في الحلف.

  1. روسيا تغازل الأكراد السوريين، مهددة الخطوط الواصلة بين أمريكا وحلفاءها في حربها ضد تنظيم داعش.

قبل أسابيع قليلة، رعت الأمم المتحدة جولة مباحثات سلام فاشلة في جنيف السويسرية. ولم تتم دعوة الاكراد السوريين إلى المباحثات، وهم حلفاء واشنطن الأساسيين في حربها ضد تنظيم داعش كما أنهم يسيطرون على مناطق واسعة في سوريا، لأن تركيا تنظر إلى وحدات حماية الشعب الكردية على أنها إرهابية. في وقت لم تعلق فيه الولايات المتحدة الامريكية على القضية، احتضنت روسيا الأكراد داعية لوجوب إشراكهم في المفاوضات. واليوم يفتتح الأكراد السوريون مكتبا لهم في موسكو، واصفين هذه المناسبة بأنها “لحظة تاريخية للشعب الكردي”.

لا تسلط روسيا الضوء على الاستراتيجية الأمريكية المتناقضة وغير الجديرة باثقة في سوريا وحسب، وإنما تغازل الأكراد بعيدا عن واشنطن.

  1. التصرفات الروسية تنتج موجات مستمرة ومتزايدة من اللاجئين السوريين، ما قد يؤثر على الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها.

رغم أن بوتين قد زعم بأن الضربات الجوية الروسية في سوريا تهدف إلى القضاء على تنظيم داعش والتنظيمات الإرهابية الأخرى، يبقى هدفه الأساسي هو حماية الأسد. ولفعل ذلك، فإن روسيا والأسد استهدفا المسلحين الذين لا ينتمون إلى داعش دون اهتمام كبير بحياة المدنيين، هادفين إلى وضع الغرب بين خيارين، إما الأسد او داعش. القصف المتواصل في داخل ومحيط المدن السورية الكبرى، كحلب التي كان يسيطر عليها الثوار، بدأت فصلا جديدا في أزمة اللاجئين، مما سيشكل ضغطا على تركيا، المثقلة بحوالي 2.5 مليون لاجئ، وعلى أوروبا وواشنطن مستقبلا.

  1. محاولة روسيا لزيادة النزوح من سوريا، تساعد في انقسام أوروبا على نفسها

نجى الاتحاد الأوروبي من تحديات كثيرة، فقد تجاوز أزمة الديون اليونانية وانهيار البنوك وحتى الصدام مع روسيا حول أوكرانيا، ولكنه قد لا يستطيع الخروج من أزمة اللاجئين بسلام. يستطيع المرء تخيل ابتسامة الرضى على وجه بوتين وهو يشاهد النداء المثالي للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل لفتح الحدود والذي يأتي تحت ضغط الهجمات الروسية. تدعم أزمة اللاجئين والجدل القائم حول الهجمات الإرهابية التي نفذها مسلمون متطرفون لديهم ارتباطات بإرهابيين سوريين، اليمين المتطرف في أوروبا وتزرع الشكوك حول بقاء جواز “شنغن” الأوروبي وتفرض الظل على نجاة الاتحاد الأوروبي من هذه الأزمة.

إضعاف أوروبا يشكل خسارة للولايات المتحدة الأمريكية ومكسبا لروسيا.

  1. روسيا تلعب بالولايات المتحدة الأمريكية على طاولة الدبلوماسية

فعندما أعلن وزير الخارجية الأمريكي، جون كيري، في ميونخ الألمانية، أن القوى العالمية قد اتفقت على “وقف الأعمال العدائية” في سوريا، قليلون توقعوا توقف نيران الأسلحة.  في الحقيقة، تأخير الاتفاقية لأسبوع، جعل بعضنا يتوقع بأن القتل سيزداد نتيجة للاتفاق. وهذا بالفعل ما حدث، ولكن هذا ليس كل ما حدث، فروسيا قد لعبت بواشنطن على طاولة المفاوضات.

الضحايا كالعادة هم السوريون، الذين يفقدون حياتهم في وقت تقرر فيه القوى العالمية والجماعات الإرهابية مصيرهم. وافقت روسيا على الاتفاق ولكنها أوضحت بأن وقف القتال لا يشمل المناطق الخاضعة لسيطرة “التنظيمات الإرهابية”. بأسلوب آخر، إن روسيا لم توافق إلا على زيادة وتيرة هجماتها على حلب، مما سيحقق مكاسب استراتيجية ضخمة للأسد. في حين يقف الجهد الدبلوماسي الأمريكي، والذي تقوده النوايا الحسنة، عاجزا.

قد يأتي يوم ويندم فيه بوتين على تدخله في سوريا، ولكن حتى الآن وفي وقت تقصف فيه قواته المستشفيات في سوريا، ومناصروه في موسكو يطلبون من الأمم المتحدة معاقبة أوباما، لا يمكن لبوتين إلا أن يعجب ويسعد بنجاحه في العملية السورية. ليس فقط لأنه أنقذ الأسد مما كان يبدو انهيارا قريبا لحكمه ولكن أيضا لأنه أضعف الولايات المتحدة الامريكية وحلفاءها.

لفريدا غيتيس، الصحفية المتخصصة في الشؤون العالمية لمجلة The Miami Herald and World Politics، ومنتجة ومراسلة سابقة لـ CNN. يذكر أن الآراء في هذا المقال تعبر عن رأي الكاتب، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر CNN.

 

 

 

مشكلة سوريا:بوتين/ حسين عبد الحسين

في ظاهرها، تبدو الأزمة في سوريا مرتبطة بمصير رئيسها بشار الأسد، وكيفية تشكيل هيئة انتقالية تؤدي الى قيام “حكومة وحدة وطنية”. بعد الاتفاق بين الأسد ومعارضيه، حسب تصريحات الرئيس الاميركي باراك أوباما، يمكن توحيد جهود الطرفين في الحرب ضد التنظيمات التي تصنفها الأمم المتحدة ارهابية.

لكن الخطة الدولية المعدة لسوريا تبدو وكأنها تنتمي الى زمن ولّى، الى زمن لم تكن قد سالت فيه دماء نصف مليون سوري ولا تهجّر فيه اكثر من خمسة ملايين. في تلك الايام في العام ٢٠١١، قام السوريون بثورة شعبية ضد نظام متسلط، وكان الحل — حسبما رأته جامعة الدول العربية والأمم المتحدة — يقضي بتوسيع المشاركة في الحكم، تترافق مع خروج الأسد منه، على غرار الحل اليمني، وهو حل رفضه الأسد، وآثر بدلا منه ان يشن حربا دموية على شعبه.

اليوم، بعد خمس سنوات، تحولت ثورة سوريا الشعبية الى مواجهة دولية، ظاهرها سوري، وباطنها صراع اقليمي دولي استراتيجي مسرحه سوريا والمنطقة عموما، وهو اعتقاد عززه تصريح الأمين العام لحلف “شمال الأطلسي” ينس ستولتنبرغ، الذي قال ان التحالف قلق “من الحشد العسكري الروسي الكبير في سوريا بقوات برية وقوات بحرية، في شرق المتوسط، وقوات جوية تشن ضربات”.

وما يؤكد مخاوف ستولتنبرغ من مواجهة روسية واسعة ضد الغرب عموما، آراء غربيين آخرين حذرت من نوايا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فالمعلق في صحيفة “نيويورك تايمز” توماس فريدمان كتب قبل اسابيع انه يعتقد ان الهدف الرئيسي لموسكو في سوريا هو اطالة أمد الحرب، التي تدفع المزيد من المهجرين السوريين الى اوروبا، فيفرض هؤلاء اعادة بناء الحدود بين دول “الاتحاد الاوروبي”، ما يساهم في تفتيته واضعافه، وتاليا اضعاف احد اكبر حلفاء الولايات المتحدة في العالم، وهو رأي أيده الملياردير الاميركي المقرب من الحزب الديموقراطي جورج سورس.

وفي الاعلام الغربي ايضا، حذّرت مجلة “الايكونوميست” من التأييد الكبير الذي يبديه بوتين — وربما ينفق اموالا دعائية لدعمه — لاستفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي. وجاءت المقالة في عقب تقارير في الاعلام الاميركي اشارت الى ان كبرى الشركات الاميركية تنفق اموالا دعائية في بريطانيا لمحاولة ابقاء المملكة المتحدة داخل “الاتحاد الاوروبي”.

والى محاولة بوتين تفتيت اوروبا وإغراقها باللاجئين السوريين، حسب الخبراء الغربيين، يبدي بعض المسؤولين والديبلوماسيين السابقين خوفهم من التمدد العسكري الروسي في منطقة شرق المتوسط، خارج سوريا.

وفي هذا السياق، حذّر سفير اميركا السابق في البحرين آدم ارلي من تمدد روسيا داخل ارمينيا. وفي مقالة في مجلة فوربس، كتب ارلي ان “التحالف الارمني الروسي يزداد قوة، فارمينيا تستضيف حاليا خمسة الاف جندي روسي وقاعدتين روسيتين”، و“في العام ٢٠١٠، مدد البلدان الاتفاقية التي تسمح للقوات الروسية بالتواجد في قواعد في ارمينيا حتى العام ٢٠٢٤، وتعهدت موسكو بموجبها بمدّ الجيش الارمني بأسلحة حديثة”. واضاف ارلي ان القاعدة العسكرية ١٠٢، التي تبعد ١٢٠ كيلومترا شرق يريفان العاصمة واقل من ١٠ كيلومترات عن الحدود مع تركيا، اصبحت موطأ قدم اساسي لروسيا.

واذا ما قارنا هذه التقارير مع اخرى حول نية روسيا بيع الايرانيين مقاتلات حديثة ونظام الدفاع الجوي “اس ٣٠٠”، في ما يبدو انها محاولة من موسكو لحمل طهران على الانخراط في المنظومة العسكرية الروسية، فضلا عن المقاتلات التي باعتها روسيا للعراقيين، يصبح جليا ان بوتين يرسم طوقا عسكريا محكما في منطقة الشرق الاوسط يفصل فيه تركيا عن دول الخليج العربي، وفي نفس الوقت يحاصر “حلف شمال الأطلسي” ويسعى لتقويض “الاتحاد الاوروبي” واغراقه باللاجئين.

مشكلة سوريا لم تعد مشكلة السوريين وحدهم، بل مواجهة عالمية كبيرة صار السوريون فيها — وأولهم الأسد — لاعبين صغارا. مشكلة سوريا صار اسمها بوتين، وحتى تتبدل احوال الغرب وزعيمه المزعوم في البيت الابيض الاميركي، ستبدو الامور وكأنها تميل في مصلحة موسكو وتابعيها.

المدن

 

 

 

ألكسندر دوغين: راسـ”بوتين”/ مازن عزي

في مقابلة تعود إلى مطلع العام 2014 مع ألكسندر دوغين، قال بإن الحل مع الأوكرانيين هو: “اقتل، اقتل، اقتل، يجب ألا يكون هناك أي نقاش، كأستاذ أقول لك ذلك”. المقابلة أحدثت تململاً في بعض أوساط الإنتلجنسيا الروسية. وجَمَعَت عريضةٌ تطالب بإقالة دوغين من رئاسة قسم علم الاجتماع في جامعة موسكو أكثر من 10 آلاف توقيع. المشكلة الوحيدة في تلك العريضة أن موقعيها اعتقدوا بأنه من الفظاظة أن يتحدث استاذ الجامعة بهذة الطريقة. لكن دوغين، لم يكن ليعطي تلك الوصفة السحرية للحل الروسي في أوكرانيا، من موقعه كأستاذ جامعي، بل بوصفه مُعلم النخبة الروسية الحاكمة، وصاحب النفوذ الهائل على الرئيس فلاديمير بوتين، وصائغ القوة المفاهيمية لمبادراته.

دوغين، المولود في العام 1962 لأب كولونيل في الاستخبارات العسكرية السوفياتية، طرد من معهد موسكو للطيران في العام 1979، لحمله أفكاراً مناهضة للسوفيات. ومن وقتها بدأ يطور مفهوم “أوراسيا” كمجال نفوذ جيوسياسي لروسيا الأرثودوكسية، ومعارضاً للقشرة الرقيقة الخاصة بديكتاتورية البروليتاريا التي سيطرت من خلالها نخبة الحزب الشيوعي السوفياتي على الحكم. وأوراسيا هي مفهوم يعود إلى مجتمع المهاجرين الروس البيض الأوائل بين العامين 1917 و1920، الهاربين من الشيوعية، والحالمين بامبراطورية أرثودوكسية.

أوراسيا هي مفهوم سلبي يُعرّفُ بالنفي للعدو المشترك لأعضائها: “العدو اﻷطلسي”، أو ما يسميه دوغين أحيانا بالقوة البحرية مقابل القوة اﻷرضية للامبراطورية الروسية. أوراسيا، بحسب لغة دوغين، هي المنطقة المعدة للثورة ضد اﻷميركيين، ضد البرجوازيين، الرافضة للقيم الليبرالية. هي النبض الحضاري المشترك الذي سيولد الأساس للوحدة الاستراتيجية السياسية.

لدوغين لحية طويلة محيرة، لا هي بالمشذبة ولا المرسلة. لحية تناسب مُنظراً محافظاً يَصِفُ الحركات السياسية التي أنشأها؛ تارة بالفاشية وتارة بالمحافظة. إلا أن الأصيل فيها هو نزعتها المسيحية القومية، ذات السمات الشمولية، في عهد ما بعد الحرب الباردة.

ورغم انهمامه النظري، وتأليفه لأكثر من 30 كتاباً، يسيطر دوغين بشكل شبه احتكاري على الطيف الإيديولوجي الروسي عبر المجموعات التنظيمية اليمينية التابعة له والدائرة في فلك نظرياته. وتنتجُ تلك المجموعات، كمية هائلة من الكتب والمجلات، وتمتلك منصات إعلامية كثيرة، يصعب تمييزها عن بعض.

أوراسيا هي ركن الصراع الجيوسياسي الذي يخطط له دوغين، ويكرس وقته وجهده كي ينفذه بوتين. دوغين هو الشخص الوحيد في روسيا الذي ينظر إلى بوتين بمزيج من الشفقة والحب، ويعتبره أضعف من أن يكيل للخصوم ضربات موجعة. انتقده في جورجيا، على خطوط التماس، وشن هجوماً على ضعفه قُبيل الحرب الأوكرانية، مع الانفصاليين الأوكران.

دوغين، الذي يُوصفُ بـ”راسبوتين”، في مزيج من شعوذته الخلاصية، نحت مفهوم “الطابور السادس” ليناسب حاشية بوتين: تلك الطواقم المحابية للغرب التي تضغط على زعيم اﻷمة، حائز التأييد الجماهيري الهائل، كي يُدخل اصلاحات ليبرالية، أو كي يَخفُضَ منسوب التوتر مع الدول المجاورة. دوغين وصف معارضي بوتين بـ”المرضى العقليين”، ودعا إلى نزع الجنسية الروسية عنهم وطردهم من البلاد.

دوغين الذي يمجد بوتين ويحتقره، يرى في النخبة السياسية الروسية عقبة يجب تدميرها. ويُعتقد بأن نفوذ دوغين، قد أسفر عن استبعاد وزير الدفاع الروسي عن قرار ضم القرم إلى روسيا، وكما يتم حالياً استبعاد وزير الخارجية الروسي عن الحلقة الضيقة المحيطة بالرئيس، في حين يُجاهد حاكم مصرف روسيا بائساً للقاء بوتين. راسبوتين روسيا الجديد، يعمل على عزل بوتين، وابقائه في فقاعة بعيدة، كي يتسنى له وحده التأثير عليه.

لدوغين شعوذات لا تنتهي، ويقترب فيها من جوهر اﻷرثودوكسية الخاصة بطائفته “Old Believers” المنشقة عن الكنيسة الأرثودوكسية منذ منتصف القرن 17. فدعا مثلاً إلى حظر الإنترنت عن الروس، قائلاً: “الله ضد الإنترنت”، كما اعتبر في مقابلة مصورة أن الفيزياء والكيمياء علوم شريرة.

هرطقة دوغين، وانتقائيته، هي الأكثر أصالة في بنائه الفلسفي، فهو المعادي للشيوعية، ساهم في كتابة البرنامج السياسي للحزب الشيوعي السوفياتي “إعادة التأسيس” بقيادة جينادي زوغانوف، بُعيد انهيار الاتحاد السوفييتي. وأسس لاحقاً “الجبهة البولشوفية الوطنية”. ثم هلل لاحقاً لعودة “الفاشية اﻻصيلة الحقة الثورية الجذرية المتساوقة” إلى روسيا.

كما أن دوغين المعادي للغرب، يعتبر أحد القلائل الذين اعتبروا المخزون العقائدي للقوميين الروس منخفض القيمة، ويجب احياؤه بمساعدة الأفكار الغربية. تناقض لا يمكن فهمه إلا في إطار أرثودوكسيته الأرثودوكسية، التي تدفعه للتصرف كوسيط بين القومية الروسية المنغلقة على ذاتها، ومسيحيته الطهرانية، ومخزون التطرف الغربي. ذلك دفعه لاستلهام نظريات الألماني كارل شميت، منظر النازية، حول النظام العالمي المحافظ. تلقيح فاشي لقومية-دينية يخدم هدفاً واحداً: استعادة الإمبراطورية الروسية الأرثودوكسية.

لماذا نحارب في سوريا

في تشرين الثاني 2015، نشر دوغين مقالاً بالألمانية في جريدة “Zuerst”، ولخص فيه أهداف الحرب الروسية في سوريا بالقول: “الجبهة اليوم مفتوحة بين الأوراسيين والأطلسيين في سوريا”.

الحرب بين الطرفين، تعيش معركتها الثالثة، بحسب تقويم دوغين؛ حرب الشيشان الثانية، ثم حرب جورجيا، والآن الحرب السورية. وتدخل روسيا العسكري في سوريا، أو كما يسميه دوغين “تقديم دعم عسكري روسي إلى سوريا”، هو فعل جيوسياسي لأوراسيا. فـ”الدولة الإسلامية” كمنتج أميركي، هي خطر مباشر على روسيا، و”اذا لم نحتوِ ما خلقته الولايات المتحدة ودعمته من إرهاب في سوريا، فعلينا قريباً أن نقاتله على حدودنا، وحتى ضمن أراضينا”.

انهيار سوريا بحسب دوغين سيولد انهياراً متتابعا “تأثير الدومينو” على جميع الدول الإسلامية في المنطقة، وملايين اللاجئين سيغزون أوروبا لأنهم لن يعودوا قادرين على العيش في الفوضى. تلك الفوضى المخلوقة أميركياً، هي موجهة مباشرة ضد أوروبا، كي يُحدث اللاجئون عدم استقرار في البنية التحتية الاجتماعية لأوروبا، وبالتالي العمل على شلّ القارة العجوز سياسياً.

تلك المنطلقات النظرية المقلوبة رأساً على عقب، لفهم الوقائع في سوريا، تصل مع دوغين إلى نتيجتها القصوى: “روسيا تقاتل في سوريا دفاعاً عن مصالح أوروبا”. وفي ذلك استمرارية تاريخية، كما يغمز دوغين: في السابق نظرت روسيا إلى أوروبا كدرع ضد التمدد العثماني-التركي، واليوم روسيا، وهي تقاتل ضد طموحات الهيمنة الأميركية في سوريا، هي الدرع للقارة الأوروبية.

وكان دوغين قد قال في مقابلة صحافية سابقة على التدخل العسكري الروسي، بإن قبول الولايات المتحدة بالدور الروسي في سوريا سيكون نهاية لأميركا كقوة عظمى فائقة. أما عدم تدخل روسيا وخيانتها للرئيس الشرعي المنتخب بشار الأسد، فسيعني تعميق هزيمة القوة البرية، وانهاء الهوية السياسية الأوراسية. وستكون الهجمة التالية للقوة البحرية على إيران وشمال القوقاز. تسليم سوريا للأميركيين هو انتحار جيوسياسي لروسيا.

دوغين يُشبه المعركة في سوريا بلعبة “بوكر”، تمارس فيها أميركا ضروب الإيهام النفسي على بوتين، لكن بمجرد اندلاع الحرب، فجميع الأوراق ستصبح على الطاولة. دوغين بدوره، مارس كامل صنوف الايهام النفسي على بوتين، لجعل الحرب ذات معنى استراتيجي لمشروع متخيل. وهو اذ يهزأ من أوباما، معتبراً إياه منفذاً لسياسات أميركية خارجية لا أكثر، يقول في المقابل إن “بوتين هو كل شيء”. فبوتين المحبوب جماهيرياً، في هذه الحرب هو بلا نخبة سياسية تسانده، لذا فهي حربه الشخصية.

أسس الجيوسياسة

في كتابه المعنون “أسس الجيوسياسة: المستقبل الجيوسياسي لروسيا”، الصادر بالروسية في العام 1997، أعلن دوغين بأن المعركة للسيطرة على العالم من قبل الروس لم تنته بعد. الكتاب الذي تحول إلى منهاج دراسي في الأكاديميات العسكرية الروسية، سرعان ما ألهم النخب العسكرية والأمنية الروسية، وقاد عملية تغيير مفاهيمية لدى موظفي الخارجية.

الكتاب الذي ساهم في تطوير فرضيته جنرالات روس، يقوم على مزيج من التصورات القيامية ذات المنشأ الأرثودوكسي، والفاشية الوطنية الروسية المحافظة. وهو يسعى إلى إقامة وجود قاري جديد لـ”أوراسيا”، كامبراطورية متخيلة تمتد من دبلن غرباً إلى فلاديفوستوك شرقاً، جوهرها روسيا اﻷرثودوكسية.

الكتاب الرؤيوي، تحول من تنبؤات، إلى دليل عمل، تُنفذ تعاليمه اليوم على الأرض. دوغين يُنظرُ لإقامة حلف روسي-ألماني، والسماح لبرلين بالهيمنة على الدول البروتستانتية والكاثوليكية في أوروبا الشرقية والوسطى. ويجب تشجيع فرنسا على إقامة تحالف مع ألمانيا، نظراً للتقاليد العريقة لدى البلدين في مناهضة اﻷطلسيين. وفي هذا المسعى يجب عزل بريطانيا عن أوروبا، وإخراجها من الاتحاد الأوروبي، وتعزيز النزعة الانعزالية لدى الأميركيين، وإغراقهم في مشاكل داخلية ذات علاقة بالتطرف والإثنيات، وخاصة الأزمات العرقية المرتبطة بالسود. دوغين أعلن في شباط/فبراير 2016 دعمه للمرشح الجمهوري دونالد ترامب.

دوغين يقول بإن تلك الامور يجب أن تنفذ لا من خلال أعمال عسكرية، بل من خلال القوى الخشنة، عبر تبني الأجهزة الروسية الخاصة برنامجاً من التخريب وبث عدم الاستقرار وتشويش المعلومات. المركزي في العمليات الروسية، هو استخدام الغاز والنفط ومصادر الطاقة الروسية، للتنمر على الدول الأخرى. والغاية النهائية لدوغين هي تحويل أوروبا بكاملها إلى نموذج فنلندا الواقعة تحت الهيمنة الروسية، أي “فنلدنة أوروبا”.

في مقابل التنازلات للألمان، يتوحب على روسيا، امتصاص فنلندا، واجبار رومانيا ومقدونيا والبوسنة وصربيا واليونان على التوحد مع موسكو، التي يسميها دوغين “روما الثالثة”، في اطار المجموعة الأرثودوكسية الشرقية.

أوكرانيا، لا معنى جيوسياسياً لها، وهي خطر محدق على “أوراسيا”. لذا ينبغي على موسكو احتلال أوكرانيا بالكامل وعدم التوقف قبل الوصول إلى كييف. دوغين قاد مجموعات شبابية عرفت باسم “حركة شباب أوراسيا” خططت لاقتحام البرلمان في كييف، وهو على علاقة شخصية بزعماء المليشيات الانفصالية في لوهانسك ودونيتسك. وكان قد نصح المتمردين المدعومين من موسكو بإقامة جمهورية “روسيا الجديدة” شرقي أوكرانيا.

الكتاب، يركز على تحالف موسكو-طهران، نتيجة “التشابه في الحضارتين الاسلامية والروسية”. ولذلك يجب اقامة تحالف بين موسكو وطهران ويرفان عاصمة أرمينيا، في مواجهة أنقرة. دوغين الذي يحمل كرهاً تاريخياً لتركيا، رغم أنه نظر سابقاً لتحالف سلافي-تركي، يرى بأن موسكو يجب أن تفتت تركيا عبر دعم اﻷكراد واﻷرمن وبقية الأقليات. فالشعوب اﻷرية على غرار الإيرانيين والأكراد هم المتفوقون عرقياً، ممن يستأهلون دولة-قارة كأوراسيا.

لدوغين صوت عميق بارد، يعكس أفكار المُنظّر الروسي الأبرز منذ عقدين. حضوره طاغ ومهيمن، ووجوده هو حلول الفكرة في الجسد، كحلول الألوهية في المسيح. يشتعل ولا يلتهب، ينفصل رويداً رويداً عن بشريته لصالح أفكار لم تعد تلحظ وجوداً للبشر في خرائط فارغة، من أوكرانيا إلى سوريا، خالقاً “محيط روسيا الصحي”. دوغين بات نموذجاً لانفصال الفكرة عن منشئها، لانفصال الرأس عن الجسد. كيف لا وقد صار رأساً لشخص أخر: رأس بوتين.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى