صبحي حديديصفحات الرأي

ما بعد الحداثة: ترسانة المدفعية الثقيلة!/ صبحي حديدي

 

 

 

في طبعة إلكترونية، تسعى إلى مطابقة شكل القراءة مع مضامين النصّ، تحذّر أورنا غاديش قراءها من أنّ كتابها «ما بعد الحداثة: مضاعفة الرهان على التغيير»، ليس مخصصاً لـ«ضعاف القلوب»! لماذا؟ لأنّ الكتاب ما بعد حداثي في كلّ تفصيل، قلباً وقالباً كما تقول الفصحى؛ في اللغة والتبويب والموضوعات والتصميم الطباعي، ابتداءً من ثورة الإنترنت وما أسبغته على معيشنا اليومي من تبدلات جوهرية، وليس انتهاءً بهذا التداخل غير المسبوق بين الأنظمة وحقول المعرفة، وبين النظرية والممارسة…

ومع ذلك، بل ربما بسبب من ذلك، ليس في وسع غاديش أن تذهب بعيداً عن سلسلة «أقانيم»، كبرى وتأسيسية، اقترنت بمفهوم ما بعد الحداثة منذ البدء؛ ولهذا يعثر القارئ على «كلاسيكيات» نظرية عديدة طيّ فصول الكتاب: منظورات أونطولوجية وإبستمولوجية وتيبولوجية (والمصطلحات لها، غنيّ عن القول)، وقراءة مارتن هايدغر، على ضوء منجزات جاك دريدا؛ ثمّ إمانويل كانط ونيتشه، بعد جان ـ فرنسوا ليوتار وميشيل فوكو وجان بودريار وجيل دولوز؛ هذا فضلاً عن كارل ماركس وسيغموند فرويد، بالطبع… «دربكة» نظريات، أو ترسانة مدفعية ثقيلة، قد يقول قارئ من أهل «القلوب الضعيفة»؛ ولن يجافي الحقيقة كثيراً، في الواقع!

إلى هذا كله، لا غنى عن منظّرنا الكبير إيهاب حسن (1925 ـ 2015)المصري، الأمريكي الذي ولد في القاهرة وهاجر إلى الولايات المتحدة عام 1946، حيث أقام وعمل في تدريس الأدب بعد أن تخلى عن الهندسة، اختصاصه الدراسي الأصلي. ولقد احتلّ موقعاً متميزاً، سواء على الصعيد الأكاديمي الأمريكي والعالمي (إذْ حاضر ودرّس في قارات العالم الخمس)، أو على صعيد النظرية والدراسات النقدية. ومنذ عام 1961، تاريخ صدور كتابه الأول «البراءة الراديكالية: دراسات في الرواية الأمريكية المعاصرة»، أجرى حسن سلسلة تنويعات على مبدأ نقدي متماثل، يساجل بأنّ السمة المركزية في الأدب الحديث (و«ما بعد الحديث»، خاصة) هي العدمية الراديكالية، في مسائل الفنّ والشكل واللغة.

هذا، في عبارة حسن الشائعة، هو «أدب الصمت» الذي «يدور حول نفسه، وينقلب على نفسه، لكي يعلن الرفض التامّ للتاريخ الغربي، ولصورة الإنسان كمقياس للأشياء جمعاء». وبغية التعمق أكثر، أصدر حسن كتابه الثاني «أدب الصمت: هنري ميللر وصموئيل بيكيت»؛ ثم أعقبه بكتابه الأشهر، والأهمّ ربما: «تقطيع أوصال أورفيوس: نحو أدب ما بعد حداثي» (1971). وفي الإجمال، كانت النتائج تنتهي بهذا الأدب إلى الاغتراب عن العقل والمجتمع والتاريخ؛ واختزال جميع الالتزامات الطبيعية، أو المختلَقة، المفروضة في عالم البشر؛ واستثمار حالات الذهن القصوى، بما في ذلك الانفصال عن الطبيعة، أو اللجوء إلى الأنماط المنحرفة من الميول الحيوية والإيروسية؛ وسلخ اللغة عن الكلام اليومي، بما في ذلك تحريف الأفكار التقليدية حول الشكل؛ ومناهضة كل ما يتصل بمبادئ مثل «السيطرة»، و»الحكمة»، و»الثبات»، و»النسق التاريخي»…

وفي دراسة رائدة بعنوان «نحو مفهوم لما بعد الحداثة»، اشتهرت لأنها منحته سلطة التنظير للمفهوم بأسره (وهذا ما تتوقف عنده غاديش، باهتمام كبير يليق بالمعلّم الرائد)، حاول حسن تقديم تخطيط مدرسي توجيهي وتجريبي لظاهرة ما بعد الحداثة؛ وجهد في توسيع نطاق هذا التخطيط المقارن مع الحداثة، فرسم موشوراً عريضاً من الأسماء والتيارات والأساليب… لكي يتجنّب، أغلب الظنّ، تلك المهمة العسيرة، المتمثلة في اقتراح تعريف متماسك على أيّ نحو، يصف حركة عجيبة، طارئة لكنها لا توحي بالجديد ولا بالحديث، مربكة، متشرذمة العناصر، وغائمة الملامح عموماً.

والنزاهة التاريخية تقتضي التذكير، هنا، بأن الفرنسي جان ـ فرانسوا ليوتار، الذي يتفق الكثيرون على اعتباره فيلسوف ما بعد الحداثة الأوّل، كان قد اعتمد على أعمال حسن في إقامة معظم دليله الثقافي. والكثيرون، قبل حسن وبعده، بذلوا محاولات مماثلة لا تقلّ نزاهة ومشقة وحيرة، ولكنها لم تخرج في الجوهر عن المعيار الذي طرحه حسن في صدر مقالته تلك؛ على هيئة تساؤل، أقرب إلى علامة تعجّب: «هل في وسعنا حقاً أن نتصوّر ظاهرة، تعمّ المجتمعات الغربية إجمالاً وآدابها خصوصاً، فتحتاج إلى ما يميّزها عن الحداثة، وتحتاج إلى تسمية؟».

وفي عمل صدر سنة 1995 بعنوان «إشاعات التغيير: مقالات خمسة عقود»، كان أقرب إلى السيرة الفكرية ـ الذاتية، عالج حسن إشكالية التنظير النقدي، متكئاً على الروائي الأمريكي هنري جيمس، الذي اعتبر أن النظرية الأدبية ُتجابَه أولاً بتهمة السخف، ثم تُقبَل بعدئذ؛ إما لأنها صحيحة أو لأنها باتت واضحة، وأخيراً تصبح شديدة الأهمية إلى حدّ أن خصومها القدماء ينسبون إلى أنفسهم فضل اكتشافها أوّلاً. ويعلّق حسن: «ما البدائل عن النظرية المعاصرة، والإيديولوجيا، وخطاب ما بعد الحداثة، بكلّ استفزازاتها وموارباتها؟ لا شيء، كما أعتقد، وليس في المدى الأعرض على الأقل».

اعتراف بالغ الدلالة، يبقى جوهر دلالته أنه أتى من أحد الآباء المؤسسين لمصطلح شاقّ عسير، يواصل حضوره في المشهد الإبداعي كما في النقد التنظيري والتطبيقي؛ ليس دون بحث، لا يقلّ مشقة وعسراً، عن تلك البراءة المفقودة؛ وليس دون المزيد من… ترسانة النظرية، بمدافعها الثقيلة!

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى