صفحات سوريةغازي دحمان

مشروع عربي لإنقاذ ما تبقّى/ غازي دحمان

 

 

تتفاعل في قلب المشهد العربي ديناميات التفتّت والانهيار، فيما تتعرّض غالبية بلدانه لاختراقات وضغوط من جوارها الإقليمي، ويخلق تمازج هذه العناصر وضعية مربكة، وغير مسبوقة، منذ تاريخ تأسيس الدولة العربية بعد الاستقلال، بما يجعل من هذه المرحلة التي تعبرها الأمة العربية مرحلة مصيرية بامتياز، تتطلّب استجابة موازية من النخب السياسية، بهدف التقليل من التداعيات السلبية على العالم العربي.

أمام هذه الحالة، تتحرك في الفضاء العربي مبادرتان، إحداهما: تأسيس تكتل إقليمي لمواجهة إيران، تقوده السعودية وتركيا، بهدف تحقيق توازن استراتيجي مع القوى الإيرانية المنفلتة، ويبدو أن الخيار العربي يسير بهذا الاتجاه، بسبب ضيق الخيارات والوقت أمام العرب، بعد أن فرضت إيران تحدياً وجودياً، وشكلت خطراً أمنياً داهماً. والثاني إنشاء قوات عربية مشتركة لمحاربة التنظيمات الإرهابية تقوده مصر، لا يبدو أن له حظوظاً كبيرة من الدعم العربي. ما يعني أن مصر، بثقلها السكاني والسياسي، وحاجة العرب لها في هذه اللحظة، ستكون خارج حساباتهم الأمنية. ويشكل الطرحان انعكاساً لتقدير كل طرف للمخاطر التي يتعرض لها، ورؤيته الحلول المناسبة لها.

غير أن الوقائع تقول إن الأزمة أكبر بكثير من التشخيص العربي لها، وهي تتعلّق بدرجة كبيرة بتراجع القدرة العربية مقابل صعود القوى الإقليمية وانتصاب مشاريعها بقوة في هذه المرحلة بالتزامن مع متغيّرات دولية، أو بتعبير أدق، إعادة تموضع للقوى الكبرى لمواقعها ومصالحها، في وقت يبدو فيه أن حجم التحديات أكبر من قدرة تحالف آني على مواجهتها وحلحلتها، وخاصة أن عملاً من هذا النوع سوف ينتج عنه جعل الحلف المقابل حلفاً مشروعاً، بالإضافة إلى حقيقة أن أي طرف خارجي سيكون مشاركاً في مثل هذا التحالف سوف تكون لديه اشتراطاته ومصالحه التي يسعى إلى تحقيقها والتي لن تكون إلا من رصيد العرب، كما أن ضمان استمرار هذا النوع من التحالفات غير مضمون.

إضافة إلى ما سبق، فإن تغطية أي تحالف لن تشمل سوى بعض المناطق التي للطرف الخارجي مصالح حيوية فيها، فيما التداعيات الأمنية تشمل مساحة واسعة من العالم العربي، وتكاد كلها تكون مترابطة بقضيتي صعود القوى الإقليمية والضعف العربي. فمن منابع النيل، حيث الخطر الإثيوبي يهدد شريان حياة المصريين والسودانيين، إلى فلسطين، التي تكاد تنتهي إلى قضية حواكير وسناسل، “سور البستان”، فضلاً عن الأوضاع المتشرذمة في ليبيا، والتي باتت عين الحلف الأطلسي مصوبة عليها، وصولاً إلى اليمن، الذي يقف على عتبة التفكك، من دون نسيان العراق وسورية ولبنان الذين يتهددهم الخطر الإمبراطوري الفارسي ويقترب من إنجاز السيطرة عليهم.

في المقابل، لا يعدو ما تفعله الأنظمة العربية من تحوّطات أمنية وخطط في مواجهة هذه التحوّلات المتسارعة أكثر من محاولات ضعيفة لتأجيل وصول الخطر القادم. وفي ظل انتصاب المشاريع القومية وتراكبها مع عملية إعادة الموضعة الدولية، فإن الخطر لن يستثني أي دولة مهما بدت بعيدة الآن عن احتمالاته ونُذُرِه. في المرحلة القادمة ستحتاج أوروبا إلى هامش حيوي يصد عنها شعوب الجنوب العربية والأفريقية ويجعلها قادرة على ضبط عمليات الهجرة ومحاربة الإرهاب. إيران والأكراد وتركيا صاروا منخرطين في عملية تحصيل ما أمكن من الحصص، وإسرائيل قريباً، وبحجة الخطر الإيراني، ستعمل على قضم أجزاء من سورية أو القفز على الأردن. كل الخرائط التي جرى الحديث عنها وكل التصورات التي جرى وضعها لتفتيت العالم العربي ستجد طريقها إلى التنفيذ، والجمهور العربي سيتعاطى معها وكأنها شيء طبيعي على مدار زمني يمتد بين 10 إلى 25 عاماً، في ظل حالة الضياع التي باتت تعيشها المجتمعات العربية وبحثها عن خلاصها الفردي بأي وسيلة ممكنة.

هذه الوضعية تستدعي رفع درجة الإنذار في العالم العربي والبدء في صياغة بدائل منطقية لمواجهة التحدي، وقد يكون من المبالغة مطالبة العرب بإنجاز وحدة عربية فورية، ولكنهم لن يعجزوا عن صياغة شكل من أشكال الاتحاد الإقليمي، وخاصة أن هذا النمط من أشكال التعاون الإقليمية يلاقي قبولاً عالمياً ويجري تطبيقه في أكثر من مكان.

لم يعد الأمر يحتمل الكثير من التردد والانتظار والتسويف، فكل المشاريع تنهض في الإقليم وتنتصب، وكلها تنظر للمجال العربي على أنه فرصة أو فراغ لا بد من اقتطاع أجزاء منه كشرط لاكتمال عناصر إنجاز مشاريع الأقاليم، والجغرافيا السياسية تعاد صياغتها، وعندما نصل إلى هذه المرحلة لن تكون مهمة مصائر الشعوب الموجودة فيها. إذاً، نحن أمام حروب طويلة سوف تتناسل. ما نشهده ليس سوى مرحلة الإعلان والتأسيس. وبناءً عليه، لا بد أن يكون للعرب مشروعهم العسكري والسياسي والاقتصادي بما فيه النووي والعملة الموحدة. قد تخسر كل الممالك والجمهوريات بعض الخسائر نتيجة انخراطها في مشروع عربي، لكنها ستربح الأمان والمستقبل.

كم هو قاس أن يؤول حكم مصر في هذه اللحظة التاريخية الفارقة إلى من يأسر حلمها ويحتجز طموحاتها ويقيّد إبداعها. أين مصر؟ وأن تنتهي سورية إلى حكم مهووس يتعامل مع تاريخها وشعبها بسياسة الأرض المحروقة ويتحوّل لجندي صغير في جيش خامنئي الطامح لإمبراطورية على جثة العرب؟

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى