صفحات الناس

مقالات تناولت الأزمة السورية اقتصاديا

الكارثة السورية: 103 مليارات دولار خـــسائر منذ بداية الأزمة

يوماً بعد يوم تتّضح ملامح الكارثة الإنسانية والاقتصادية التي أفرزتها الحرب التي تعيشها سوريا منذ أكثر من عامين ونصف عام، فالبيانات والمؤشرات الإحصائية الصادرة حديثاً تؤكد أن استمرار الوضع على ما هو عليه اليوم لأشهر أخرى يعني أن سوريا دخلت في المجهول كدولة ومؤسسات ومجتمع

زياد غصن

دمشق | خلصت دراسة بحثية مستقلة، صدرت نتائجها أخيراً، إلى أنّ إجمالي الخسائر الاقتصادية للأزمة السورية بلغت منذ بداية عام 2011 لغاية الربع الثاني من العام الحالي ما يقرب من 103.1 مليارات دولار، مشكّلة بذلك نسبة وقدرها 174% من الناتج المحلي الإجمالي للعام 2010، وهو ما يعني أنّ الأزمة تتسبب بخسارة اقتصادية لسوريا بمتوسط شهري قدره 3.8 مليارات دولار.

أكبر مجموعة لاجئة في التاريخ

الدراسة التي حملت عنوان «حرب على التنمية»، وأعدها «المركز السوري لبحوث السياسات» لمصلحة وكالة «الأونروا» والبرنامج الإنمائي للأمم المتحدة، أكدت أن أوضاع مؤشرات التنمية البشرية شهدت تدهوراً خطيراً جداً، إذ يُعدّ اللاجئون من سوريا الآن هم أسرع مجموعة لاجئين نمواً في العالم، وإذا ما استمرت على الوتيرة الحالية فإن اللاجئين السوريين سيصبحون في نهاية العام الحالي أكبر مجموعة لاجئة في التاريخ المعاصر. وتكشف البيانات أنه بحلول النصف الأول من العام الحالي، تراجع عدد سكّان سوريا بأكثر من 8%، بينما غادر 36.9 % من السكان أماكن سكنهم الطبيعي، حيث خرج 1.73 مليون لاجئ ليستضيف لبنان العدد الأكبر منهم، الذي ازداد من 31.5% من إجمالي عدد اللاجئين في الربع الأول للعام الحالي، إلى 33.8 % خلال الربع الثاني. وتوضح بيانات التقرير أن 1.37 مليون سوري فضلوا الهجرة طوعاً، بينما اضطر 4.8 ملايين مواطن إلى النزوح الداخلي.

4.4 ملايين مواطن تحت خط الفقر

في ملف الفقر والبطالة، تقدر الدراسة عدد السوريين الذين دخلوا دائرة الفقر بفعل تداعيات الأزمة منذ بدايتها بنحو 7.9 ملايين مواطن، منهم 4.4 ملايين مواطن، أصبحوا تحت خط الفقر، بينما خسر ما يقرب من 2.33 مليون مواطن مصدر رزقهم ووظائفهم، وهو ما أسهم في ارتفاع نسبة البطالة لتصل إلى 48.6%، وتهديد معيشة ما يقرب من 10 ملايين مواطن.

وتمتد المأساة لتنسف ما حققته سوريا خلال العقود السابقة من نجاحات تنموية على المستوين التعليمي والصحي. فالقطاع التعليمي يعاني أزمة وصفتها الدراسة بـ«الصامتة»، إذ إن معدل التسرب المدرسي وصل إلى 49%، وهو ما يعني أن نصف أطفال المدارس باتوا لا يحصلون على التعليم النظامي، كما أن القطاع الصحي يشهد هو الآخر انهياراً كبيراً، فقد تراجعت مثلاً نسبة الأطباء إلى السكّان من طبيب واحد لكل 661 مواطناً عام 2010، إلى طبيب واحد لكل 4041 مواطناً بحلول شهر حزيران الماضي، وتوقفت نحو 90% من الصناعة الدوائية المحلية عن الإنتاج، لذلك يُتوقع أن تكون فئة النساء هي الأكثر تعرضاً للخطر نتيجة الولادات التي لا تخضع لإشراف طبي وغياب قدرة الحصول على خدمات ما قبل الولادة وما بعدها، بينما يواجه الأطفال معدلات تلقيح منخفضة، وتقهقراً في الحالة الغذائية، وتنامياً في أعداد الأمراض المعدية وحالات الاسهال.

لكن تبقى خسارة الحياة البشرية ـــ كما تضيف الدراسة ـــ أكثر جوانب النزاع المسلح فظاعة، فقد ازدادت الوفيات المرتبطة بالنزاع بنسبة 67% في النصف الأول من عام 2013، لتصل إلى زهاء 100 ألف حالة وفاة خلال فترة النزاع، كما يقدر أن ما يقرب من 400 ألف شخص تعرضوا للإصابة أو التشويه، وتالياً فإن أكثر من 2% من السكان قتلوا، أو أصيبوا، أو جرحوا.

اختلال الميزان التجاري

اقتصادياً، بلغ الحجم الإجمالي للخسارة في الناتج المحلي لغاية الربع الثاني من العام الجاري نحو 47.9 مليار دولار، منها 8.2 مليارات دولار فقدت خلال الربع الأول من عام 2013، و9.7 مليارات دولار خلال الربع الثاني، وليكون بذلك معدل النمو في الناتج المحلي سالباً بنسبة 34.3% للربع الأول من العام الحالي، و39.6% للربع الثاني.

وشهدت استثمارات القطاع الخاص تدهوراً هائلاً، وصلت نسبته إلى 23.3 % في الربع الأول من عام 2013، و12.8% خلال الربع الثاني وذلك مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الاستثمار العام الذي تراجع بنسبة تصل إلى 23 % خلال الربع الأول من العام الحالي، و30 % خلال الربع الثاني. علاوة على ذلك ـــ تقول الدراسة ـــ أعادت الحكومة تحويل موارد كبيرة من الاستثمار إلى الاستهلاك الجاري، إضافة إلى الإنفاق العسكري.

كذلك تعاني البلاد عجزاً متنامياً في التجارة، فصافي الصادرات سجل رقماً سلبياً هو 144 مليار ليرة سورية عام 2012 (نحو مليار دولار بسعر صرف الليرة الحالي)، ورقماً سلبياً آخر هو 29 مليار ليرة في الربع الأول من العام الحالي، ورقماً سلبياً إضافياً قدره 17 مليار ليرة في الربع الثاني. وبررت الدراسة هذا العجز بالهبوط الحاد في صادرات النفط والصناعة، مما حرم الاقتصاد مصادر رئيسية للعملة الصعبة، كما أن غياب القدرة التصديرية، فضلاً عن الطلب الهائل على استيراد السلع (كالغذاء والدواء)، فرضا تحدياً خطيراً بالنسبة إلى الاستدامة الاقتصادية، وهو حال لا يمكن قلبه رأساً على عقب دون تعافي الإنتاج المحلي.

ومن بين أخطر النتائج التي توصل إليها الباحثون الخمسة، الذين أشرفوا على إعداد هذه الدراسة، أنّه مع انهيار الاقتصاد المنظم، شهدت سوريا تنامياً في الاقتصاد غير المنظم، والنشاطات الريعية السريعة الربح، إضافة إلى ظهور اقتصاد العنف الذي سيرخي بظلاله على تنظيم النشاط الاقتصادي، والإصلاح، ورأس المال الخاص، والتنمية في مرحلة ما بعد الأزمة.

يذكر أن هذه الدراسة هي الثانية التي يعدها أخيراً المركز السوري لبحوث السياسات (مستقل) بالتعاون مع وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينين (الأونروا) والبرنامج الإنمائي للأمم المتحدة، وذلك سعياً نحو تقديم تحليل دقيق لـ«الأسس الجوهرية للتخريب والتدهور الاقتصاديين اللذين جلبتهما الحرب الصامتة على التنمية البشرية والاقتصادية»، ولتشكيل «أداة تحليلية تتيح لمختلف الجهات أن تطلع بوضوح على المخاطر الحالية والتخريب الذي طاول الاقتصاد من أجل صياغة السياسات والبرامج، التي يمكن أن تخفف من وقع الأحداث ضمن الظروف الحالية، مع توفير منظور مستقبلي شامل لإعادة التأهيل، وإعادة الإعمار، والتنمية مستقبلاً».

الأخبار

الأزمة السورية: فقر أكثر… ثراء أكثر/زياد غصن

مع إعلان حزب البعث، إثر انقلابه عام 1963، تأميم جميع وسائل الإنتاج الخاصة لتغدو ملكاً للدولة، حزمت البورجوازية الوطنية آنذاك حقائبها وثرواتها المقدرة بنحو 800 مليون ليرة وتوجهت للعمل والاستثمار في دول عربية وأجنبية كثيرة، لا تزال بصماتها موجودة فيها إلى يومنا هذا.

وإذا كانت التحولات والتطورات السياسية والاقتصادية التي شهدتها البلاد خلال العقود التالية لانقلاب البعث قد مهدت الطريق لنشوء طبقة رأسمالية بورجوازية جديدة، فإن جزءاً كبيراً من الفضل في ذلك يعود إلى مكون الفساد الذي استشرى في بنية الدولة وثنايا المجتمع، بدءاً من منتصف الثمانينيات في القرن الماضي، متحالفاً مع بعض مراكز القرار في الدولة والسلطة.

اليوم، بعد عامين ونصف عام على الأزمة الحالية وتداعياتها السلبية على الداخل السوري، يمكن القول إن السيناريو السابق يكرر نفسه مع بعض التباينات في الأسباب والظروف والنتائج. ففي الوقت الذي كانت فيه يوميات الأزمة تسجل دخول مزيد من السوريين دائرة الفقر بحديه الأدنى والأعلى وخروج كثير من المستثمرين بأموالهم وشهرة منشآتهم من البلاد والاستقرار في دول مجاورة وإقليمية، كانت بالمقابل تبشر بولادة أسماء جديدة ومغمورة في عالم الثراء والغنى المفاجئ من جهة، وتزيد من ثروات الكثيرين ممن أتقنوا تطبيق سياسة «كيف تؤكل الكتف» من جهة ثانية.

الفقر: أرقام مخيفة

أدى فقدان آلاف العائلات السورية لمصدر رزقها الخاص وممتلكاتها، وارتفاع معدلي البطالة والتضخم لمستويات قياسية غير مسبوقة قدّرت لغاية شهر نيسان الماضي بنحو 48% للأول، وما بين 112 – 300% للثاني، إلى زيادة انتشار مساحة الفقر أفقياً وعمودياً في المجتمع السوري، بنسب تتباين الدراسات غير الرسمية في تقديرها، بين المركز السوري لبحوث السياسات الذي يؤكد أن هناك 6.7 ملايين مواطن سوري دخلوا دائرة الفقر لغاية الربع الأول من العام الحالي بينهم 3.1 ملايين صنفوا في دائرة الفقر الشديد، وبين الأمم المتحدة التي أعلنت أخيراً (عبر الاسكوا) أنّ عدد السوريين اليوم ممن هم دون خط الفقر الأعلى يصل إلى 18 مليون شخص بنسبة تصل إلى 78% من إجمالي عدد السكان، منهم 8 ملايين تحت خط الفقر الأدنى، مشكلين بذلك نسبة خطيرة تقدر بنحو 34% من إجمالي عدد السكان في سوريا.

وأياً تكن التقديرات الصحيحة، فإن توسع مظلة الفقر لم يعد مرتبطاً فقط باستمرار الأزمة والأعمال القتالية، بل بالواقع الاقتصادي والاجتماعي الجديد الذي أفرزته الأحداث خلال الأشهر الماضية، والذي يبدو أنه سيظل مؤثراً لفترة زمنية ليست بالقصيرة حتى وإن انتهت الأزمة، وهذا الواقع تتبدى مظاهره بعدة حقائق من أبرزها:

ـــ المتغيرات الديموغرافية الهائلة التي تشكلت مع نزوح ما يزيد على خمسة ملايين شخص عن منازلهم ومدنهم إلى مناطق داخلية أكثر أماناً، وما تحمله تلك المتغيرات من انعكاسات سلبية خطيرة تطاول أنماط السلوك والعادات والأعمال، ولا سيّما أن كثيراً من السوريين مضى على نزوحهم ما يقرب من عامين، وليس هناك ما يشير إلى عودتهم قريباً في ظل التوقعات الإحصائية التي تتحدث عن تضرر أو تدمير ما يصل إلى مليون منزل.

ـــ اضطرار آلاف السوريين إلى النزوح لدول الجوار وإقامتهم فيها وسط ظروف إنسانية واقتصادية واجتماعية صعبة نجمت عن تراخي المجتمع الدولي في التعاطي مع احتياجاتهم الضرورية بجدية ومسؤولية، وهو للأسف أمر سيكون له تبعاته السلبية على المدى البعيد، سواء عاد هؤلاء قريباً إلى ديارهم ومنازلهم، أو تأخروا إلى حين انتهاء الأزمة.

ـــ التراجع الحاد في مستويات الدخل الفردي نتيجة توقف عجلة الإنتاج المحلية وتضرر المنشآت الاقتصادية والخدمية على اختلاف مستوياتها وملكيتها، وصعوبة استعادة الاقتصاد السوري لنشاطه السابق إلا بعد مضي عدة سنوات على انتهاء الأزمة لا تقل مدتها عند أشد المتفائلين عن خمس إلى عشر سنوات، وهو ما يعني استمرار معدل الفقر في الارتفاع، ولو بنسب أقل من السابق، ومحافظته على وضعه الراهن عند بدء تحسن النشاط الاقتصادي العام.

ـــ اندثار الطبقة الوسطى تماماً، فالشريحة الأكبر من هذه الطبقة انزلقت نحو الأسفل لتنضم إلى دائرة الفقر بفعل فقدان أفرادها لأعمالهم وتآكل أو خسارة مدخراتهم المالية، فيما استغلت شريحة قليلة من الطبقة الوسطى الأوضاع الحالية لتحسين مردودها المادي وأنشطتها الاقتصادية وتنتقل إلى مصاف الطبقة الغنية.

ـــ الأضرار الكبيرة والطويلة الأمد التي سببتها الإجراءات الاقتصادية والاجتماعية العشوائية المتخذة خلال سنوات الأزمة، من قبيل طرق معالجة عجز الموازنة وهدر الثروات الاقتصادية والتستر على الفساد الكبير والاكتفاء بملاحقة جوانب صغيرة ومحدودة من الفساد الصغير المستشري في مؤسسات الدولة… وغيرها.

لذلك، إن الاقتصاديين السوريين يؤمنون بأن مرحلة ما بعد الأزمة ستكون الأصعب بالنظر إلى حجم التحديات والأعمال المطلوب تنفيذها لترميم ما أصاب المجتمع السوري من أضرار جسيمة، بعضها قد يحتاج إلى سنوات كثيرة لإصلاحها ومعالجتها، فضياع ما يقرب من ثلاثة عقود من التنمية – كما يؤكد المركز السوري لبحوث السياسات بالتعاون مع منظمة الأونرا – لا يعني أنه يمكن استرجاعها في ثلاثة عقود أيضاً!

مصائب قوم… فوائد

على المقلب الآخر، كانت نقمة الأزمة ومآسيها تتحول إلى مصدر لـ«النعمة» ومزيد من الثروة لدى الكثيرين، سواء بشكل مشروع أو غير مشروع، ممن تعاونوا مع الدولة والحكومة السورية في المجالات الاقتصادية والاجتماعية أو عملوا وتحركوا باسم «الثورة»، ولا سيما في المناطق التي تسيطر عليها مجموعات المعارضة المسلحة باختلاف تسمياتها وأهدافها ومبادئها. فتوسع رقعة الحيز الجغرافي للأعمال القتالية، بدءاً من النصف الثاني للعام الماضي، وما رافقه من استهداف ممنهج للقطاعات الاقتصادية والخدمية قدرت أضراره رسمياً بما يزيد على 17 مليار دولار، فضلاً عن توقف شبه تام لعجلة الإنتاج المحلي، كل ذلك دفع البلاد إلى الاعتماد على الاستيراد لتأمين احتياجات السكان الضرورية، وهذا كان معناه بطبيعة الحال التالي:

ـــ ارتفاع قيمة المشتريات والصفقات الحكومية بشكل كبير، وما يشكله ذلك من حدوث حالات تلاعب وسرقات بفعل التحالف القائم بين بعض التجار والمستوردين وبين شخصيات حكومية فاسدة سخرت سلطتها ومهامها لخدمة مصالحها الشخصية والمادية. وتكفي الإشارة هنا إلى أن بيانات المصرف التجاري السوري تؤكد أن قيمة القروض التي منحها المصرف لمؤسسات حكومية عامة لتمويل مستورداتها بلغت خلال عام واحد فقط نحو 119 مليار ليرة، وإذا افترضنا أن جميع هذه الصفقات حصلت بعيداً عن أي شبهة فساد وبشكل قانوني فإن أرباح المستوردين منها لا تقل عن 20 مليار ليرة فقط!

ـــ زيادة حجم أعمال التجار والمستوردين الرئيسين أو من يسمون «أمراء الاستيراد»، واستغلال بعضهم ضعف مؤسسات الدولة المعنية أو غض الحكومة الطرف عنهم للتلاعب بمواصفات وأسعار السلع المستوردة والتحكم بتدفقها إلى السوق المحلية واحتكارها بما يخدم زيادة أرباحهم. وهذا ما خلص إليه مصرف سورية المركزي أخيراً عندما أكد أن العديد من المستوردين الذين استفادوا من تمويل المصرف لمستورداتهم بالسعر الرسمي للدولار قاموا بتسعير منتجاتهم عند طرحها في الأسواق المحلية بأسعار مضاعفة.

ـــ دخول شريحة جديدة من الأشخاص ميدان التجارة والاستيراد ولمعانهم خلال فترة قصيرة جداً؛ إذ يتداول الشارع السوري حالياً أسماء شخصيات ترتبط بعلاقات قرابة مع مسؤولين حكوميين أو مقربة منهم، وتعتبر هذه الشخصيات اليوم من أهم التجار المستوردين للسلع والمواد الغذائية وغير الغذائية.

وفيما كان مواطنون عاديون يكسبون شهرياً بضعة آلاف من الليرات جراء حصولهم شهرياً على ألف دولار ولاحقاً على خمسمئة دولار من مؤسسات الصرافة النظامية بالسعر الرسمي ومن ثم يبيعونها في السوق السوداء، كان تجار هذه السوق يجمعون ثروات هائلة جراء عمليات المضاربة التي يديرونها ضد الليرة وإشرافهم على تهريب أموال عدد من السوريين إلى الخارج، ويقدر مصرفي سوري قيمة المبالغ التي صرفها المصرف المركزي على قراره بيع المواطنين سنوياً مبلغ 10 آلاف دولار للأغراض غير التجارية بنحو مليار دولار، ذهب معظمها إلى خزائن المضاربين في السوق السوداء. وهو مبلغ يتقاطع مع أعلنه أخيراً وزير الاقتصاد السابق الدكتور نضال الشعار من أن الحكومة كانت قد خصصت نحو 700 مليون دولار لتثبيت سعر صرف الليرة خلال عام 2013.

ويوضح مصدر مصرفي بارز أنّ المصرف المركزي بتشجيعه قبل الأزمة سياسة الاستهلاك سبب انهيار أرقام القطع الأجنبي في الجهاز المصرفي بنحو 400 مليار ليرة (8 مليارات دولار على أساس سعر صرف قدره 50 ليرة) وبدلاً من النظر ملياً في الكوارث التي تلي مثل هذه الوقائع استمر المركزي في تشجيع منظومة الاستهلاك وترافق ذلك بموضوعين أساسيين:

ــ سياسات إقراض توسعية من مختلف المصارف (والخاصة منها تحديداً) بما لا يقل عن مئات المليارات، والغريب أن السياسة النقدية أو الضريبية لم توضح طوال تلك الفترة أولوياتها، فكان الفلتان الاقتصادي سيد الموقف.

ـــ إصرار المصرف المركزي (رغم غياب الإمكانات) على أنه قادر على التحكم بسوق القطع، فزاد من طيف المواد الممولة بالقطع الأجنبي، وزاد النزف مع قرارات إلغاء تعهد التصدير وفك ارتباط الاستيراد بالتصدير، وغيرها من الإجراءات التي أتاحت للمواطن السوري أن يشتري 10 آلاف دولار، ولو لم يكن بحاجة إليها.

ويضيف المصرفي الذي فضّل عدم ذكر اسمه: بالعودة إلى سنوات الأزمة الحالية، يمكننا أن نتوقع المزيد من النزف في احتياطي القطع الأجنبي، فقد سببت تلك السياسات تسميناً غير مسبوق لحيتان المال ذوي العلاقات والنفوذ الذين استفادوا من كل جوانب الأزمة، وبغض النظر عن الصفقات المعتادة وكواليسها في ظل نسب تضخم غير مسبوقة وفي ظل حجج مرتبطة بالعقوبات والحصار، ما جعل الأرقام مضاعفة في الآونة الأخيرة، ولا بد لنا من التذكير هنا بأن الأجواء التضخمية تجعل التحوط عبر العملة الأجنبية (وعلى رأسها الدولار) من أهم الأنشطة، ويكون التحوط أكبر بالنسبة إلى هذه الشريحة عندما يكون على حساب الآخرين، فهم اللاعبون الحقيقيون في سوق القطع، وهم الذين يعلمون (لكونهم المستشارين واللاعبين بشكل مباشر أو غير مباشر في مزادات المركزي) كيف ومتى يجب التدخل في السوق، وعندما نعلم أن التقلبات في الأسبوع الواحد كانت تراوح بين 10-30% أحياناً يمكننا أن نتخيل التضخم الهائل في ثرواتهم.

في كنف «الثورة»

وكما هو حال جميع الحروب، ثمة أنشطة كثيرة غير مشروعة تزدهر مع توسع دائرة المعارك والقتل، تبدأ بعمليات السرقة والنهب للممتلكات العامة والخاصة ولا تقف عند عمليات التهريب والمتاجرة بالأرواح والعباد والخطف طلباً للفدية.

في سوريا لم يكن الوضع ليشذ عن ذلك، لا بل إنه شكل حالة متقدمة على ما سبقه من نزاعات وحروب داخلية. فقد استغل كثيرون ممن حملوا السلاح في مواجهة النظام سيطرتهم على بعض المناطق لسرقة ونهب المنشآت العامة والخاصة والمنازل والمحال التجارية وتكوين ثروات تباين حجمها تبعاً لطبيعة المسروقات وقدرتهم على تسويقها. ولعل ما جناه بعض قادة المجموعات المسلحة من مبالغ ضخمة جراء عمليات سرقة وتهريب معامل ومنشآت حلب الصناعية (قدر قيمتها رئيس اتحاد غرف الصناعة السورية بما لا يقل عن 200 مليار ليرة) وسرقة النفط من بعض الآبار في المنطقة الشرقية وبيعه في تركيا (تقدر مؤسسة النفط الحكومية قيمته بنحو 1.1 مليار دولار حتى الآن) يكشف حجم ما يمكن أن نسميه «اقتصاديات السرقة والنهب» في سورية خلال العامين السابقين، وحتى أعمال السرقة التي تعرضت لها منازل النازحين والمهجرين وممتلكاتهم، فهي وإن كانت ضئيلة القيمة بحوادثها الفردية، إلا أنها بالمجمل تشكل رقماً مخيفاً بالنظر إلى عدد المنازل التي اضطر أصحابها إلى تركها وعدم تمكنهم من نقل محتوياتها من الأثاث والأدوات المنزلية.

ومع تراجع سلطة الدولة على المناطق الحدودية خلال الأشهر السابقة نشطت بشكل واسع وكبير عمليات التهريب من سوريا وإلىها، فإلى جانب السلاح والأموال والمواد الغذائية واللوجستية، التي تجد طريقها عبر سماسرة محليين وإقليميين إلى جماعات المعارضة المسلحة وتتباين التقديرات حول حجم هذه الظاهرة لكن قيمتها بمليارات الدولارات تبعاً لتقديرات إقليمية وغربية، عادت عمليات تهريب المواد المخدرة والعملات المزورة لتحتل واجهة التجارة غير المشروعة على الحدود، وخاصة مع تركيا ولبنان، ويتبدى حجم هذه التجارة من خلال التقديرات الرسمية التي أشارت إلى إدخال بعض الجهات الإقليمية ما لا يقل عن مليار دولار مزيفة إلى الشمال السوري لضرب سوق القطع الأجنبي في البلاد إضافة إلى حديث رئيس محكمة الجنايات الأولى بدمشق عن أن 20% من الدعاوى المنظورة أمامه تتعلق بتجارة المخدرات وتعاطيها و10% لدعاوى سرقة السيارات وتزييف العملة، فكيف سيكون الحال إذاً في المناطق المشهورة بأنها إحدى نوافذ تهريب السلع والمواد وتغيب عنها اليوم سلطة الدولة ويتحكم بمعابرها الحدودية مجموعة من المطلوبين والمهربين واللصوص!

* اعلامي سوري

قراءة في الاقتصاد السياسي والاجتماعي: أزمة الجفاف في إقليم الجزيرة السوري / وجيهة مهنا *

بدأت، منذ منتصف العقد الماضي، التغيرات المناخية الكونية ترخي بظلالها الثقيلة على البيئة المحلية السورية. حلَّ الجفاف في عموم البلاد، لكن إقليم الجزيرة كان ضحيته المباشرة، حين ترافقت موجات الجفاف الأسوأ في تاريخ المنطقة مع انهيار المخزون الاحتياطي من المياه الجوفية في أحواض الأنهار الرئيسية. وهذا الانهيار ما كان ليحدث لولا التوسع بغير ضوابط في حفر الآبار لمرافقة التمدّد الشره في خطط الزراعة المروية. كما تجاهلت السياسات الليبرالية للحكومة السورية الوقائع. في مطلع العام 2008، وبالتزامن مع تحرير الحكومة أسعار بعض المشتقات الزراعية ورفع سعر المحروقات، انهارت الزراعة في إقليم الجزيرة. ووفقاً لما ذكرته الأمم المتحدة فقد تعرّضت 60 في المئة من الأراضي السورية و1.3 مليون شخص، معظمهم في إقليم الجزيرة، إلى أضرار بسبب الجفاف. وطبقاً للاتحاد الدولي للصليب الأحمر والأمم المتحدة، فإن ما يزيد عن 800 ألف شخص فقدوا موارد رزقهم بالكامل. الجفاف بين العامين 2006-2009 طرد مئات آلاف البشر من مناطق استقرارهم في موجات هجرة صبّت في ريفي حلب ودمشق. هذه المُستَقَرّات الجديدة للنازحين كانت مناطق مُستَبعَدَة سلفاً من خطط التنمية الحكومية والدعم، وتُمثِلُ الحدائق الخلفية المُهمَلة لمدن عملاقة. وهي مكتظة بأهلها والنازحين إليها ومحرومة من أبسط مقومات التنمية البشرية والاقتصادية. وقد أصبحت بعد عامين فقط مركزاً رئيسياً للثورة السورية.

الهبوط الى الجحيم

مع بداية التحول الحكومي نحو بدعة «اقتصاد السوق الاجتماعي»، وتَخفُفِ الدولة من دورها التنموي، لم يَعُد إقليم الجزيرة يُمثِلُ الحجر الأساس في فرضية الأمن الغذائي والاقتصادي المستدام، رُغمَ أنه يَشغُلُ ما يقارب 40 في المئة من مساحة سوريا، ويتألف إدارياً من ثلاث محافظات: الرقة ودير الزور والحسكة، ويضُمُ 4 ملايين نسمة. يتمتع الإقليم بطبيعة جغرافية سهليّة، تمتد على رقعة واسعة من «حوض الفرات» وسهول حلب، ويشكل كامل مساحة «حوض الخابور» و«حوض دجلة» المائيين في سورية. وتُقدَّرُ المساحة القابلة للزراعة فيه بنسبة 43 في المئة من مساحته الكلية، ما يمثل أكثر من ثُلُثِ المساحة القابلة للزراعة البعل في سورية، وأكثر من نصف مساحة زراعتها المَروية. تعتبر الزراعة المروية المعتمدة على مياه الأنهار والآبار العماد الرئيسي للإنتاج الزراعي في إقليم الجزيرة، وهي بالعموم زراعة موسمية. القمح والقطن هما المنتجان الرئيسيان للمنطقة، التي ساهمت بين العامين 2003-2007 في إنتاج 57 في المئة من مجمل محصول القمح السوري، وما يقارب 73 في المئة من انتاج القطن. تصل نسبة الماشية في الإقليم إلى 37 في المئة من اجمالي القطعان في سورية، وينتج 34 في المئة من الصوف، و21 في المئة من الحليب. المنطقة أيضاً هي المنتج الرئيس للنفط والغاز.

اتجه منحى الهطولات المطرية والموارد المائية الناجمة عنها نحو التناقص مع استمرار ظاهرة الجفاف. يظهر ذلك في اتساع مساحة الصحراء السورية بنسبة 6.4 في المئة عن مساحتها للعام 1970 (تعريف الصحراء بأنها الأرض التي تقل نسبة الهطولات المطرية فيها عن 200 ميلمتر سنوياً). كما ازدادت مساحة المنطقة الهامشية الواقعة في المجال المطري 200-250 ميليمتر سنوياً بنسبة 51 في المئة عما كانت عليه للعام 1970. انخفضت نسبة الهطولات المطرية في الأعوام الأخيرة إلى النصف تقريباً، وهو مؤشر خطير بالنسبة لتأمين مياه الشرب للسكان. وكان لهذا التدني أثر كبير على الواردات المائية المتجددة، الجوفية والسطحية، مما انعكس على الإنتاج الزراعي بشكل حاد، وتأثرت كذلك الزراعات المروية. وتدنت حصة الفرد من الماء إلى 454 متراً مكعباً في السنة في «حوض الخابور» وأصبحت دون حد الفقر المائي الافتراضي المقدر بـ1000 متر مكعب للفرد سنوياً. وأصبح تواتر موجات الجفاف أكثر حدوثاً، ويضم مناطق لم تصلها من قبل، وخصوصاً في الموسم 2007-2008 حيث شمل الجفاف كافة مناطق زراعة الحبوب التي يقل معدل أمطارها عن 600 ملم/سنة. وأما جفاف موسم 2008-2009 فشمل مناطق جديدة.

جفاف نهر الخابور

نتيجة حفر الآبار، نَضُبت مياه نهر الخابور اعتباراً من العام 2001 ، حيث توقف التدفق الحر لمياه ينابيعه للمرة الأولى منذ آلاف السنين. يصبّ في الخابور عدد كبير من الروافد تغطي معظم مساحة محافظة الحسكة، ثم يتدفق النهر جنوباً ليرفدَ بدوره نهر الفرات. تبلغ المساحة الإجمالية لحوض نهر الخابور ما يقارب 20 ألف كيلومتر مربع ضمن الأراضي السورية، وتمثل هذه المساحة الأراضي الزراعية المروية من مائه أو عبر الآبار المتغذية من مياهه الجوفية. ورغم انعدام جريان الماء في مجاري نهر الخابور، استمر حفر الآبار على حوضه. ففي العام 2006 بلغ عدد الآبار الكلية المحفورة في حوض الخابور 2391 بئراً تروي ما يقارب 45 الف هكتار، بعد أن كان عددها 232 بئراً العام 1984 تروي 2400 هكتار. وقد ظل مشروع «ري الخابور» بسدوده الثلاثة فارغة من دون ماء لكونه يعتمد في ملئها على مياه الينابيع التي جفت، مما تسبب في حرمان سكان البلدات والقرى على طول مجراه من مياه الشرب والري. ينطبق ذلك على مجرى نهر البليخ في محافظة الرقة. وقد وصلت نسبة المتوافر من المياه للري في الأعوام الماضية إلى ما يكفي فقط لري 34 في المئة من المساحات المخطط لها. وظهر العجز في معظم الأحواض المائية منذ بداية التسعينيات، وبلغ ما يقرب من 4 مليارات متر مكعب للعام 2001-2002 و5.5 مليار متر مكعب للعام 2007-2008 . تسبب هذا العجز بانخفاض حاد في مناسيب المياه الجوفية مما أدى إلى زيادة تكاليف الضخ وبالتالي تكاليف الإنتاج الزراعي.

تضافر الطبيعة وسياسات النظام

يشكل سكان الريف 47 في المئة من التعداد السكاني في سورية، وتعمل 20 في المئة من العائلات الريفية في تربية المواشي التي تعتبر المصدر الرئيس للدخل في الأسر الريفية الفقيرة في مناطق البادية الشمالية والشرقية. كان للجفاف تأثير قاس على الحيوانات ومعيشة المربين، وتسببت عمليات بيع الحيوانات الواسعة في العام 2008-2009 إلى انخفاض سعرها بمقدار 60 في المئة. تزامن ذلك مع رفع الدعم الحكومي عن المواد العلفية وتحرير أسعارها لترتفع إلى حدود 200-300 في المئة في فترة شهدت ارتفاع أسعاره عالمياً. وعلى الرغم من الكارثة البيئة التي كابدتها هذه المنطقة (مما يثير أهمية أن تندرج سوريا في جهود مناهضة التغييرات المناخية، فهذه الأخيرة منظومة تتأثر بفعل الإنسان)، فقد تقاطعت هذه الكارثة مع أخرى من صنع النظام القائم، الذي اختار تحرير الأسعار ورفع الدعم في هذا الوقت بالذات، من ضمن وجهة اللبرلة التي اعتمدها بشكل مفتوح منذ 2005. ومع انعدام المراعي الطبيعية، وتضاعف سعر المياه، ارتفعت نسبة نفوق الماشية الفتية إلى 45 في المئة. خسر مربو الماشية، نتيجة الضرر الكبير الذي لحق بمحصول الشعير وانعدام المراعي، حوالي 70 في المئة من ماشيتهم. وخسر ما يقرب من 60 ألف من صغار المربين الذين يملكون أقلّ من مئة رأس من الماشية كل مواشيهم. وموجات الجفاف الأولى أدت إلى انخفاض انتاج القمح في المناطق البعلية في العام 2008 بنسبة 82 في المئة عن العام 2007 وخسارة موسم الشعير بالكامل، وذلك حسب تقديرات منظمة الأغذية والزراعة الدولية «الفاو» وبرنامج الغذاء العالمي. كما انخفض إنتاج القمح الإجمالي، بما في ذلك في المناطق المروية بنسبة 47 في المئة والشعير بنسبة 67 في المئة. ارتفعت أسعار الحبوب والسلع الغذائية الرئيسية نتيجة قلة الإنتاج وارتفاع الأسعار العالمية، وتدهورت الموارد المالية لسكان المناطق المتأثرة بالجفاف، مما اضطر الكثير منهم إلى بيع ممتلكاتهم وحيواناتهم بأسعار منخفضة لشراء احتياجاتهم الغذائية بأسعار مرتفعة. إن عدم وصول المساحات المزروعة بعلاً إلى مرحلة الحصاد بصورة كاملة، وخاصة في المنطقة الشمالية الشرقية، أدت إلى انحدار ما يقارب 150 ألف أسرة (1.3 مليون إنسان تقريباً) إلى مرحلة الفقر الحدّي، أي بدون مخزون غذائي. كما تسبب انعدام الحصاد في خسارة البذار. في العام الثاني من الجفاف 2008-2009 تأثرت أكثر من 100 ألف أسرة (682 ألف نسمة) بشدة من الجفاف.

الإجراءات الحكومية

تميّزت الإجراءات الحكومية بقصر النظر في توقع الجفاف وفي معالجة آثاره الاقتصادية والاجتماعية. فاتخذت الحكومة اجراءات آنية مثل تقديم حصص علفية مدعومة للأغنام، وحصص غذائية مجانية لبعض الأسر الأشد فقراً. كما تم رفع سعر شراء الدولة للقمح من 17.5 إلى 20 ليرة للكيلوغرام، وإعادة جدولة ديون المزارعين المستحقة للمصارف الزراعية. أما المراسيم والقوانين المتعلقة بمنح القروض المدعومة للتحول إلى الزراعة المروية الرشيدة (القانون 91 لعام 2005) فقد ظلت أشبه بالأحاجي المعقدة التي تتطلب جملة من الكفالات وضمانات للقروض.

لم تقم السلطة السورية بأي معالجة جدية للأزمة في إقليم الجزيرة، بل استمرت في سياسات التحرير الاقتصادي (اللبرلة) السحرية السائرة بها منذ منتصف العقد الأخير: فسحت المجال أمام التسويق الحر لبعض المحاصيل الاستراتيجية كالشعير والذرة الصفراء، وقامت بتحرير عملية استيراد وتداول المُدخلات الزراعية كافة بما فيها الأسمدة ومواد المكافحة الحشرية والمواد العلفية، مما تسبب في رفع أسعارها أضعافاً عدة بالتزامن مع أزمة الجفاف الكبرى. وفي نيسان/ابريل 2008 تم رفع سعر ليتر المازوت من 8 إلى 25 ليرة سورية، أي أكثر من ثلاثة أضعاف دفعة واحدة، وذلك في وقت السقاية للزراعات المروية، مما تسبب في رفع حاد لتكاليف ضخ المياه من الآبار المعتمدة على مضخات الديزل. أدى ذلك إلى توقف فلاحين كثيرين عن متابعة خدمة محصولي القمح والقطن.

الكارثة في واحد من مظاهرها

بلغ عدد سكان محافظة الحسكة 1.329 مليون نسمة حسب احصاء العام 2004، وقد تحولت من محافظة جاذبة للسكان بمعدل نمو سكاني 2.46 في المئة بين العامين 2000-2006 إلى منطقة طاردة لهم اعتباراً من العام 2007. وصلت نسبة المهاجرين بسبب الجفاف من هذه المحافظة وحدها للعام 2007 إلى 30 في المئة من مجموع السكان. وقاربت في نهاية العام 2008 حدود الـ 40 في المئة. ويذكر بأن 24 مدرسة في الحسكة أغلقت أو دمجت مع غيرها بحلول العام 2008. تعتبر الهجرة الموسمية للعمل أمراً عادياً للأسر الفقيرة في محافظات المنطقة الشمالية الشرقية. ولكن، ومع موجات الجفاف المتلاحقة، فقد حدث تحوّل في طبيعة هذه الهجرة. قليلة هي الدراسات الخاصة بمناطق نزوح الهاربين من الجفاف والتصحر، إلا أن ريفي حلب ودمشق كانا مركزَي الاستقطاب للنازحين الجدد، ما شكل حالات ضغط كبيرة على مناطق كانت تعتبر بالأصل شديدة الفقر ومهمشة وضعيفة الخدمات. وظهرت على أثرها أزمات تتعلق بازدياد الطلب على الغذاء والماء، وازدادت أيضاً نسب التسرب من المدارس للقادمين الجدد، ولوحظ ارتفاع معدل السرقة والجرائم.

قد تصلح مجمل هذه اللوحة لتفسير سياقات لاحقة، وبالأخص ما يتعلق منها بانفجار الغضب الشعبي بعد ذلك بسنوات قليلة، واتخاذه مظاهر تدميرية ـ ذاتية ـ تشبه الخراب العنيف والسريع اللاحق بحياة هؤلاء الناس!

* أستاذة الاقتصاد السياسي من سوريا

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى