صفحات الناس

الطريق إلى دمشق/ محمد دريوس

 

 

لا علاقة حقيقية لي مع دمشق، لا أجرؤ على القول أني أكرهها، لكنها بالتأكيد ليست مدينتي المفضلة للعيش، أعتقد أنها مدينة قبيحة بمآذنها العديدة، بكومبارسييها وممثليها الذين يظنون أن العالم شاشة عرض لا أكثر، بكتابها وشعرائها الذين ما أن ينشر أحدهم كتابا حتى يبدأ بشحذ سيفه استعدادا لغزو العالم، بخلوّ شوارعها أيام الجمع، بانتشار محال الطعام في كل زاوية منها، كأن أهلها لا يفعلون شيئا إلا الذهاب الى الجامع والأكل، مدينة طواحين، لا طواحين هوائية كما يمكن أن تظن، على شاكلة القرى الهولندية مثلا أو طواحين نفسية كما نعرف من رواية سرفانتس، لا… طواحين أشبه بما تنتجه شركة فيليبس، طواحين تحيل الأشخاص غير المستعدين نثارا مرميا على أرصفتها، والأشخاص غير المستعدين هم ببساطة فقراء المدن الأخرى والحالمون فيها، دمشق عاهرة نفيسة تكتب لها القصائد وتحضر الورود والشوكولا وهي لا تفعل إلا أن تعد بوصال لن يأتي أبدا، لكنه يتراءى وتستطيع أن تشمه حتى.

ربما هذه العلاقة الملتبسة جاءت من غور نفسي بعيد بداخلي، أنا ابن مدينة صغيرة، قرية متورمة لا أكثر، سهلة الاستيعاب والهضم، أعرف كيف يفكر أبناؤها فلهم سمات متشابهة بتشابه أمكنة عيشهم، مدينة لا يحصل فيها شيء إلا الأشياء الاعتيادية، مدينة أستطيع وصفها بأنها غير مبدعة، ذلك أن مبدعيها يغادرون ما أن يستطيعون الى ذلك سبيلا، جرائمها وقصص الحب فيها غير متجددة، اللعنة … حتى أنه لا جرائم اغتصاب أو سطو مسلح في مدينة اللاذقية !!!

اللاذقية الأساسية ـ غير الأحياء الجديدة فيها ـ مقسمة لكانتونات طائفية منذ زمن بعيد، لا يحتاج الأمر لحرب كي نعرف هذا، لا يجرؤ مثلا ابن دمسرخو على التجول في حي الرمل الفلسطيني وبالعكس أيضا، وعندما يكتشف أبناء الحي المغاير غريبا يتجول في شوارعهم هذا يعني أن الحفل قد بدأ ولا أحد يعلم كيف سينتهي…

أما دمشق فهي مدينة بلا ملامح، لا سمات تطغى عليها، لا تستطيع استنطاقها، لا شيء فيها سوري، حتى أني لا أعلم ماذا تعني أن تكون سوريا فيها، مدينة بلا بشر حقيقيين، بلا بيوت حقيقية، بيوتها صنعها إعلام البعث، وهي إما بيوت اصطلح على تسميتها /عربية/ أي بيوت مغلقة ومتحجرة ومصمتة لا مكان لزائر فيها وإما شقق سوفياتية متشابهة كما يشبه الكلب كلبا كأنك في كولخوز، مدينة بنت سمعتها على أكتاف غربائها ودمهم ودموعهم، لذا عندما عشت فيها اخترت حيا أشبه بمدينتي، اخترت حي فقرائها وغربائها، عشت في مخيم التضامن، حيث الأحياء أيضا مقسمة طائفيا ومناطقيا، ترى حي الدروز، حي المرشدين وحي المسيحيين، حي علويي الساحل، حي نازحي الجولان/ سنة، حي نازحي الجولان/ علويين…، قطع جغرافية متشابهة نفسيا ومعيشيا، تعرف طائفة الشخص بل وتوجهاته السياسية حتى من الحي الذي يعيش فيه، من نوعية أكله، من قائمة مشترياته في البقالية.

عشت في دمشق فترات متقطعة ولم أعرف فيها دمشقيا تقريبا، كأنها خالية منهم، حتى أن الدمشقي الوحيد الذي عرفته ونمت في بيته، الطبيب الشاعر ابن رئيس وزراء سابق، اكتشفت لاحقا أن وده المشوب بالحذر نحوي كان يغطي خوفا عميقا باعتباري قادماً من مدينة ساحلية يستطيع أبناؤها رفس باب القصر الجمهوري بأقدامهم صارخين بالرئيس: نحتاج جرّة غاز فورا!!!!

قرابة الأربع سنوات من الثورة/ الحرب الأهلية/ الأزمة/ الأحداث/ الموت/ الألم/ القبح/ الجرم/ السوري، لم أخرج فيها من مدينتي أبدا، لأسباب لا أستطيع القول إنها ليست من اختياري، لكنه الضيق بالدرجة الأولى، الضيق والخوف مما آلت اليه الأمور في هذا الوطن، أربع سنوات كانت نافذتنا الوحيدة فيها على ما يجري في المدن الأخرى هو افتراضنا عما يجري، كنا نظن أن ما يحصل في درعا وحمص وريف دمشق هو ما نعتقد أنه يحصل بناء على فكرتنا عن هذه المدن، بناء على محبتنا أو كراهيتنا المسبقة، معرفتنا بالحقائق أقرب لظننا عن الحقائق، لا أحد يعلم ما يجري حقا هناك، حتى أن الصور التي ترد عن محن البشر في مدن الحرب لا نصدقها إلا بقدر ظنوننا المسبقة، واختلطت علينا الصور المتواترة على الشاشات مع صورنا التي نعرفها، فكانت النتيجة ضياع الحقيقة وربما للأبد.

زيارة دمشق

قررت أخيرا أن أزور دمشق، لا مكان لفضولي في هذا القرار، إنما فتاة فقط، أعني أنها ساهمت في جعلي اتخذ هذا القرار شبه الانتحاري، ذلك أنها وعدت بتخفيف وطأة الجفاف وانقطاع كل شيء في دمشق، الكهرباء والماء والغاز وووو الأصدقاء أيضا.

عادت رحلات السفر الى دمشق عبر شركتين لا غير وآخر الرحلات بعد منتصف النهار بقليل، ليضمن المسافرون وصولا بعد غياب الشمس مباشرة، ذلك أن سيطرة الجيش على الطرق تنتهي بغياب الشمس، كان مقعدي قرب الممرّ، نظرت بحسد إلى جاري الجالس قرب النافذة، تأملت البثرات المزروعة على خده وأنفه، لم يطل الأمر حتى صعد المرافق برفقة أحد العناصر العسكرية وطلبوا منه مرافقتهم إلى أسفل، بعد خمس دقائق عاد المرافق وسأل عن حقيبة الراكب وأخذها، سألت: ما رح يرجع؟؟ أجاب بحركة من يده تعني أن لا أحد سيعلم عنه شيئا بعد الآن، سعدت في قرارة نفسي لبرهة وأخذت مكانه قرب النافذة، ثم شعرت بالأسف والسوء من رغباتي الدنيئة بل للحظة ظننت أني ساهمت في اعتقاله ذلك أني تمنيت للحظة أن يحصل له شيء يجعلني أحتل مكانه.

الطريق بين اللاذقية وحمص يكاد يكون اعتياديا لولا العدد الهائل من الحواجز العسكرية التي ـ للمفاجأة ـ أكثر بكثير من تلك الموجودة بين حمص ودمشق، أي في المناطق التي تحتاجها أكثر، كأن لهذه الحواجز دورا آخر، محليا، يتعلق بالقاطنين المحليين الذين قد – أقول قد – يرغبون بالقيام بما قام به أقرانهم في محافظات أخرى، بدت تحويلة حمص ثم بدأ الألم، خفيفا، بسيطا، تظنه تمرينا على ما سيأتي، ذلك أن الدمار الخفيف الذي يبدو على بضعة بيوت متناثرة هنا وهناك لا يعتد به، بروفة صغيرة عما سأراه على استراد حرستا،

حرستا، المدينة الصغيرة، مدينة شركات السيارات والمكاتب العقارية، مدينة الطغم المالية المتحالفة قسريا مع العسكر، مدينة الأموال والنخاسة، مدينة بيع الفتيات القاصرات لأثرياء الخليج والذهاب دوريا لأداء العمرة، مدينة لحم الجمال والتراويح والصلاة على النبي، على الأرض، البيوت المتهدمة، النائمة كجثث تحنو على جثث أخرى، جدران مثقبة بالرصاص وفجوات قذائف الدبابات، نوافذ أخرى لساكنين رحلوا بطرق عديدة، غرف فارغة من كل شيء، من أثاثها وسكانها، أفرغتها الحرب من ناسها وأفرغ السكان الجدد الغرف من معالمها، كتل فقط من اسمنت وحجارة لا أدري لماذا تحول لونها الى رمادي رغم المطر الشديد الذي هطل مؤخرا، الواجهات الزجاجية التي كان يفخر بها استراد حرستا، واجهات شركات السيارات الجديدة التي انجبها التواطؤ بين انفتاح على العمليات التجارية في تركيا وقطر والمال المغسول في بنوك الأخوة/ الأعداء، استحالت كلها دمارا ثلاثي الأبعاد كما استحالت تلك الأخوّة المزعومة، تآمرا وخططا سرية ودفعا لإرهاب عابر للحدود، كان النظام نفسه من فتح له المقدمات المطلوبة لينمو ويستفحل.

«بزنس» الارهاب والمقاومة

توقف الباص في مكان مرتجل كموقف، واخبرنا المرافق على عجل أن الرحلة قد انتهت ويتوجب علينا النزول هنا وبالتأكيد استخدم تلك العبارة التي – لمرة أولى – أحسست بأنها جديرة بالقول: الحمد لله ع السلامة، ذلك أنه بفضل الرب وحده فعلا وصلنا بسلام، اوقفت تكسي وقلت له المكان الذي أرغب بالوصول إليه، قال: خمسمية ..وافقت فأنا لا أعلم مقدار المسافة التي سنسير، صعدت، أدار المحرك، ثم سار بعد ثلاث دقائق بالضبط قال لي هذه هي الساحة التي تقصدها، قلت له: خمسمية كتير!!! أجاب: هيك اتفقنا، قلت: نعم لكن لا تستحق، حتى لو اتفقنا، ما بتخجل تاخد هيك مبلغ ع هالمسافة القصيرة، غمغم بكلام يشبه أن الحرب والأولاد وأمهم وأمه والوطن والرئيس والحرس الجمهوري والجحيم والله إلى آخره مع كميات كافية من القرآن والأئمة ..

سرت في الطريق، وللتو طالعتني الحواجز، كبيرة وصغيرة، بذات مرقطة في كل مكان، اللون العسكري طغى على كل ما عداه في دمشق، كل شيء يشي بالعسكرة، أظن أن الخبز تغير لونه حتى الى هذا اللون المستمد من تمويه ما، دمشق مدينة حربية بأكملها، لا في مناطقها العسكرية التقليدية، إنما في كل شبر منها، على زجاج السيارات الأمامي والخلفي، نوافذ البيوت المغلقة، واجهات المحال التجارية، الشرفات التي تخفي أكثر مما يقول اسمها، الجدران المطلية بخطوط سوداء لمحي كتابات قديمة، كل شيء كان مغطى بهذا الرداء المرقط الذي أصبح يثير القرف إلى جانب الذعر.

وصلت إلى مكان خيانتي الصغيرة المفترضة، وأنا أتوقع ما سيلي رحلتي تلك، علمت ذلك، من أول منظر بيت مهدم رأيته في دمشق، من أول حاجز أوقفني وسألني ما الذي أفعله هاهنا، أنا المدني والساحلي أيضا، في حي دمشقي عريق، بذلت جهدا لأجعل رحلتي تلك تستحق تعبها، كان حبا رديئا، مثل غناء النشيد الوطني في المدارس الابتدائية، إكراهيا وبلا معنى، مثل كل شيء فعلناه في سوريا هذه، كان حبا إجباريا، أجبرنا على فعله طوال خمسين سنة سابقة وظننا أنه حقيقي، وتفاجأنا بعكس ذلك ومتنا قبل أن نعرف كيف يكون الحب وكيف يكون الوطن.

من يدي، من فراغ يدي

ومن الفراغ الذي تصنعه يدي

رأيت الطريق إلى دمشق، مفروشا باللحم الحي.

(كاتب سوري)

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى