صفحات العالم

مقالات تناولت الموقف الاميركي من الأزمة السورية

ردع أميركا عن التدخّل لصالحنا/ حازم صاغية

تعاني منطقة الشرق الأوسط اليوم بطء إدارة باراك أوباما وعجزها، بل جبنها. فقد بات مزاحاً سمجاً ذاك الكلام عن خطوط حمراء رُسمت لنظام بشّار الأسد. وها هي الجريمة الكيماويّة المروّعة في غوطة دمشق، التي حصدت بين ضحاياها نسبة معتبرة من الأطفال، تجعل المزاح السمج بالغ السواد والمرارة.

حتّى في مصر، تراوح إدارة أوباما بين سياسات وتصريحات متناقضة، فتذهب مرّة يميناً ومرّة يساراً، لكنّها في العموم تؤسّس لتعميق عجز الولايات المتّحدة عن التأثير في مصر وسياساتها. وكلّنا يعلم أنّ مصر هي أكبر بوّابات منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

لكنْ في معزل عن هذا المحضر الاتّهاميّ المُحقّ والصائب، يبقى من الضروريّ والمفيد أن نواجه دورنا كعرب في دفع الولايات المتّحدة إلى اتّخاذ مواقف تتفاوت بين الحيرة والعجز في أحسن الحالات، وبين الجبن وما قد يتبدّى تواطوءاً في أسوئها.

وهذا ليس للقول إنّ العرب هم المسؤولون الوحيدون عمّا آلت إليه العلاقات العربيّة – الأميركيّة. إلاّ أنّهم، مع هذا، مسؤولون بدرجة أو أخرى.

فإذا راجعنا أرشيف تلك العلاقات، وما قد تؤسّسه من خلفيّة تتحكّم بصانع القرار الأميركيّ كما بالرأي العامّ في الولايات المتّحدة، أمكننا التوقّف عند محطّات أربع كبرى:

-ففي 1956، وقفت الولايات المتّحدة إلى جانب مصر في حرب السويس التي عُرفت عربيّاً بالعدوان الثلاثيّ البريطانيّ – الفرنسيّ – الإسرائيليّ. وكان لموقف واشنطن وتهديداتها الاقتصاديّة أن اضطلعت بالدور الأكبر في ردّ العدوان عن مصر وانسحاب جيوشه وقوّاته المسلّحة. وجدير بالذكر أنّ رئيس الحكومة البريطانيّة يومذاك، أنتوني إيدن، أنهى حياته السياسيّة بسبب هذه النتيجة المذلّة التي آلت إليها حربه.

لكنّ النجم العربيّ الصاعد بسبب هذه الحرب، أي جمال عبد الناصر، لم يمتنع فحسب عن شكر الولايات المتّحدة، بل استند إلى زعامته الشعبيّة الناشئة لمطاردة كلّ أثر للنفوذ الغربيّ في المنطقة. هكذا تحوّل العراق والأردن وسوريّا ولبنان ساحات مواجهة مفتوحة بين النفوذين، واضطرّت الولايات المتّحدة للتدخّل العسكريّ المباشر في لبنان كي تحمي نظاماً صديقاً لها، بعدما فعلت بريطانيا الشيء نفسه في الأردن.

-وعلى امتداد الفترة الممتدّة من 1967 حتّى التحوّل الذي أقدمت عليه منظّمة التحرير الفلسطينيّة في التسعينات، نُظر إلى كلّ تدخّل أميركيّ في الشؤون العربيّة، لا سيّما الشأن الفلسطينيّ – الإسرائيليّ بوصفه مؤامرة أو عدواناً. حتّى جمال عبد الناصر، وهو الزعيم المعبود، أفقدته موافقته على مشروع وزير الخارجيّة الأميركيّ وليم روجرز في 1969 الكثير من شعبيّته، وبات يتعرّض للشتم والتعهير في تظاهرات بعض المدن العربيّة. أمّا خلفه أنور السادات الذي وقّع معاهدتي كامب ديفيد مع إسرائيل برعاية الولايات المتّحدة، فغدا الشيطان بعينه. وهي شيطنة شاركه إيّاها، ولو بنسبة أقلّ، الزعيم الفلسطينيّ ياسر عرفات حين انعطف نحو حلّ أراد لواشنطن أن ترعاه.

لقد كانت الحكمة العربيّة تقول: ما دام أنّ الولايات المتّحدة لن تسمح بهزيمة إسرائيل، فلتتركنا وجهاً لوجه مع إسرائيل ولترحل. وغنيّ عن القول إنّ هذه الحكمة قليلة الحكمة.

-وفي العراق شنّت الولايات المتّحدة حرب الـ2003 لإطاحة صدّام حسين ونظامه. ولأجل هذا الهدف قُدّمت تضحيات بشريّة واقتصاديّة هائلة، تمكّن معارضو صدّام بعدها من العودة إلى بلدهم وتأسيس أحزاب ومنابر سياسيّة. لا بل إنّ عائلات كان يُفنيها صدّام فرداً فرداً، كعائلتي الصدر والحكيم، تحوّل أفرادها حكّاماً للعراق الجديد.

مع هذا بدا من بالغ الصعوبة توجيه الشكر الصريح للولايات المتّحدة على فعلها هذا. وبدل تأسيس صداقة جديدة بين البلدين، قُدّم العراق على صحن من فضّة لإيران التي هي راهناً الخصم الأوّل للولايات المتّحدة على نطاق عالميّ.

-ومؤخّراً في ليبيا، كان لحلف الأطلسيّ وعلى رأسه الولايات المتّحدة دور أساسيّ في إسقاط معمّر القذّافي، ناهيك عن منعه من اقتراف الجرائم التي راح، هو وأنجاله، يتهدّدون بها الليبيّين. لكنْ ما إن انتصرت الثورة حتّى قُتل، بشكل مقزّز ووحشيّ، السفير الأميركيّ في مدينة بنغازي.

من هذه التجارب الأربع الكبرى يمكن لأيّ سينيكيّ أميركيّ أن يستنتج أن العرب لا يمكن جوهريّاً أن يغدوا أصدقاء للولايات المتّحدة. فلماذا إذاً تعب القلب؟ أمّا تحرير الكويت الذي أدّى إلى نتائج لا تنسجم مع هذه المعادلة، فلم ينعكس حالة جماهيريّة عريضة في المنطقة لأنّ الجماهير العريضة كانت، ببساطة، تتعاطف مع صدّام وغزوه!

الدور السعودي والخلاف مع واشنطن

عبد الرحمن الراشد

مقالات انهمرت في الإعلام الأميركي خلال الأيام القليلة الماضية تتجادل حول الدور السعودي في المنطقة، بعد أن كانت في السابق تستنتج أن دورها غائب خارج حدودها. هل نكأها الموقف السعودي الرسمي الصريح المؤيد للتغيير في مصر؟ أم أنها زيارة رئيس الاستخبارات السعودية إلى موسكو، وما شاع حول تطوير العلاقة مع روسيا؟ أم قبله، عندما جرى تغيير قيادة الثورة السورية في مطلع الشهر الماضي، وقيل إن ذلك جهز في المطبخ السعودي؟

طبعا، كل هذه الأحداث تقع في دائرة الجغرافيا السعودية، وليس كثيرا أن يكون لها تأثير، أو حضور، وهناك دول يدها طويلة في هذه الدائرة، من إيران غير العربية، إلى قطر الصغيرة، تفعل الشيء نفسه!

وليس كل ما كُتب يستحق النقاش. رأيان متناقضان بعض الشيء في الـ«نيويورك تايمز»؛ الأول لدينيس روس، والثاني لبروس رايدلي، وكلاهما يعرف المنطقة مثل راحة يده. دينيس، الذي عمل نائبا لوزيرة الخارجية وكذلك في الأمن القومي، يثير تساؤلا: «هل سياستنا تجعل السعودية حليفا استراتيجيا في المنطقة لأميركا أم حليفا خطيرا ضدها؟». ثم يضع الأزمة في إطارها بأن السعودية وجدت نفسها بسبب الغياب الأميركي مهدَدة شرقا وغربا. إيران نووية، ومصر إخوانية. فقد اعتلى السلطة «الإخوان المسلمون»، وهم تاريخيا حلفاء إيران. فور تسلمهم السلطة ديمقراطيا مدت السعودية يدها لحكومة الرئيس محمد مرسي، مهنئة، ودعمته بثلاثة مليارات دولار، واستقبلته في جدة بترحاب فاجأ «الإخوان» أنفسهم. لكن مرسي ما لبث أن اتجه إلى إيران، وفتح الباب لأحمدي نجاد، كأول رئيس إيراني يطأ القاهرة منذ ثورة الخميني!

في صراع المنطقة، تستطيع الولايات المتحدة تغيير تحالفاتها، كما فعلت في العراق، لكن دول المنطقة لا تملك هذا الترف. وبالنسبة للرياض أصبح الوضع مرعبا، فإيران خامنئي شرقها، ومصر الإخوانية الإيرانيو الهوى غربها، وعراق المالكي الإيراني شمالها. حصار ضد السعودية لم يسبق له مثيل في تاريخ المنطقة! كما أن إفشال الثورة الشعبية في سوريا يعني أيضا تمكين إيران من الهيمنة شبه الكاملة على خريطة المنطقة؛ العراق وسوريا ولبنان وغزة ومصر والسودان، أمر يستحيل أن تستسلم له السعودية مهما سبّب من توتر في علاقاتها مع الولايات المتحدة.

دينيس روس الذي يتفهم هذا الجانب، وفق تفسيري له، يعتقد أن الحل ليس في توسيع الخلاف مع الرياض، بل الاستفادة من أفضل ما عند السعوديين، وهو نفوذهم الهائل في المنطقة، والتأثير على العسكر في مصر إيجابيا، بالتحول ديمقراطيا.

أما بروس رايدلي، وهو مسؤول سابق في الاستخبارات الأميركية وسبق أن كلفه الرئيس باراك أوباما بمهام رئيسة، فقد كتب بإيجاز شديد أفضل توصيف للعلاقة المتطابقة المتناقضة التي سأكمل الحديث عنها في عمود الغد.

الشرق الأوسط

أسوأ استثمار أميركي في مستقبل العلاقات الأميركية – العربية/ راغدة درغام

أوقع الرئيس باراك أوباما الولايات المتحدة في أحضان الخضوع للتخويف والتهديد والتهادنية الخطية القائمة على الإرضاء وغض النظر عن التجاوزات. دخل أوباما الساحة السياسية نموذجاً للتجديد وللتغيير، وها هو اليوم يكرس الأساليب التقليدية في الحكم من الاعتماد على العمليات السرية للاستخبارات أساساً لسياسته الخارجية إلى انتهاك وعوده باحترام الحريات والسرية الشخصية على صعيد السياسات الداخلية. بدأ قائداً عالمياً وانتهى هارباً من مسؤولية القيادة. كان في ذهن الجيل الجديد في مختلف بقع العالم محرك الإيحاء والإيمان بالمبادئ، وبات اليوم موقع خيبة أمل بقيادة الولايات المتحدة عالمياً وبالأسطورة التي زرعها في مخيلة الشباب أين ما كان. بات فجأة وهو في أعلى مواقع السلطة في العالم مجرد رجل آخر من رجال السلطة في العالم الثالث حيث يأتي المرشح بأطنان الوعود ثم يختزل تطلعات الناس إلى واقعية أولويات السلطة. باراك حسين أوباما ليس اليوم الرجل الخارق الذي قبض على أنفاس الناس أين ما كان. إنه اليوم الرجل العادي الذي يتساءل الفرد أين ما كان مَن هو، وماذا وراء تخاذله، وماذا فعل بالعظمة الأميركية ولماذا قلّصها. إنما رأي العالم بالرئيس الأميركي له أيضاً مقدار من الأهمية لا سيما إذا كانت مواقف الرئيس الأميركي، في الانطباع العام، هروباً إلى الأمام تطرح سؤالاً أساسياً: من هو باراك حسين أوباما وماذا يريد؟

الرئيس السابق، جورج دبليو بوش كان واضحاً. كرهته، أحببته، وافقته، عارضته. كان الرجل واضحاً، قال ما يريد وأوضح من هو. دافع عن مواقفه. نفّذ وعوده. تمسك بتعهداته. كان رجلاً متماسكاً حتى في أخطائه. كان جورج دبليو بوش شفّافاً ولذلك كان تحت المجهر. دفع ثمن سياساته غالياً. إذ إنه بات الرئيس المكروه عند شعبه بسبب سياسات لم توافق عليها الأكثرية الأميركية. جورج دبليو بوش وضع استراتيجية بقاء ووضع استراتيجية خروج من العراق ومن أفغانستان وتركها لسلفه.

الرئيس باراك حسن أوباما يكتنف اليوم الغموض عمداً. دخل الرئاسة واضحاً عندما توجه في بدء ولايته الأولى إلى القاهرة واسطنبول، فارساً يمتطي حصاناً أبيض واثقاً من إعادة صنع تاريخ العلاقات بين الغرب والعالم الإسلامي. سريعاً ما باهته الواقع والواقعية وكشفت مدى طفوليته السياسية بالبعد من حنكة تجربة شيكاغو. وسريعاً ما تراجع عن وعوده. فكّك بأيديه ذلك العمود الفقري الذي اعتقده العالم خارقاً وواعداً. بات عادياً. وبات عرضة للتساؤل وللاتهام وللاستخفاف به وبالولايات المتحدة الأميركية.

قد تكون المسيرة التاريخية لباراك أوباما لدى الأميركيين اليوم سيرة إنقاذ أميركا من التورط في حروب الآخرين وسحب القوات الأميركية من العراق وأفغانستان وحماية المدن الأميركية من الإرهاب. لكن السيرة التاريخية لباراك أوباما هي أيضاً تقليص النفوذ الأميركي عالمياً وتراجع القيم الأميركية القائمة على رفض التفرج على انتهاكات فظيعة بما فيها التفرج على المجازر. فالولايات المتحدة الأميركية باتت في عصر باراك حسين أوباما في ظل التهادنية والإرضاء مع كل من الجمهورية الإسلامية في إيران و «الإخوان المسلمين» في مصر. وكلاهما علاقة استثمار في الأسوأ لكل من الولايات المتحدة ومنطقة الشرق الأوسط والعلاقة الأميركية – الإسلامية على السواء.

سيقال إن حذاقة إدارة أوباما تكمن في اعتمادها وتبنيها حرب الاستنزاف والإنهاك المتبادل في سورية حيث «القاعدة» و «حزب الله» واقعان في مستنقع انهاء الآخر. وسيقال إن لا سياسة أفضل للولايات المتحدة من سياسة الابتعاد عن ساحة الإنهاك المتبادل والاستنزاف لأن ذلك هو تماماً ما يقع في المصلحة الأميركية. وسيقال إن إيران وروسيا وربما الصين أيضاً تحفر لنفسها الفخ الذي سيُسقطها في سورية وإن سورية ستكون لإيران «فيتنامها» ولروسيا «أفغانستانها» الثانية. وسيقال ليس هناك سيناريو أفضل من الحرب السورية ساحة للتخلص من إرهاب سنّي وشيعي يمتد من «جبهة النصرة» إلى «حزب الله». فلماذا ليست هذه أفضل سياسة للمصلحة الأميركية العليا؟

الإجابة أخلاقية واستراتيجية على السواء. أخلاقياً، تبدو الولايات المتحدة الدولة العظمى الوحيدة في العالم، في حال إفلاس أخلاقي وهي توافق على مجازر أطفال ونساء في حرب «ملائمة» لها بدلاً من اتخاذ مواقف تكسب لها القيادة الأخلاقية الرافضة استخدام المدنيين أدوات في استراتيجية الإنهاك والاستنزاف. بكلام آخر، هذا استثمار مروّع ومهين للمستقبل الأميركي. هذه دولة عظمى وليست «جمهورية موز». إنها دولة قائدة قوامها القوة والقدرة على القيادة أخلاقياً وليس الجبن الأخلاقي والسياسي على السواء.

استراتيجياً، إن الرهان على الإنهاك المتبادل رهان عابر لأن مثل هذا الاستثمار سيفرّخ المزيد من العداء. وبالتالي إنها سياسة خاطئة تشتري الاستقرار والطمأنينة الموقتين، وليست استراتيجية قوامها التفكير البعيد المدى. إدارة أوباما تخطئ أضعافاً مضاعفة ليس فقط لأنها تتغاضى عن إفرازات التفريخ المعادي للولايات المتحدة نتيجة تشجيع المواجهة الإرهابية، وإنما لأنها أيضاً تتعاطى مع إيران وروسيا بسذاجة لها نكهة «الأوبامية».

روسيا اشتمت تلك النكهة ولذلك التقط الرئيس فلاديمير بوتين الفرصة المؤاتية ووظف الفرصة لمصلحته. فهو لا يزعم القيادة الأخلاقية ولا يخفي انحيازه للنظام في دمشق ولا يتظاهر بأنه يبالي برد الفعل الشعبي في المنطقة العربية. رهانه على ضعف الولايات المتحدة الأميركية في عهد أوباما – أميركا العجوز كما يقول وزير خارجيته سيرغي لافروف. وحسّه السياسي هو أن باراك أوباما يريد له أن يتعنّت وأن يشل مجلس الأمن وأن يعطّل أية جهود لوقف الحرب السورية بما يتطلب إيقافها – أي التدخل المباشر لحلف شمال الأطلسي لفرض حظر الطيران وإنشاء ممرات إنسانية وما إلى ذلك من إجراءات ضرورية لإيقاف تلك الحرب الدموية. فكلاهما في وفاق: إن تلك الحرب على حساب أكثر من مئة ألف ضحية من الشعب السوري تبعد الإرهاب عن المدن الأميركية والروسية. وهذا يرضيهما ويناسبهما.

أما مع إيران، فإنها سياسة التهادنية والإذعان والإرضاء بامتياز. باراك أوباما لا يريد أن يحارب إيران مهما كان – وهو في ذلك قد قرأ أن إسرائيل أيضاً في علاقة تهادنية بل علاقة تحالف مع إيران طالما أن العرب عدوهما المشترك. كلاهما يجد في المملكة العربية السعودية ومصر الدولتين العربيتين اللتين تشكلان التحدي لهما، بعدما تم تدجين العراق لمصلحة إيران وفي الوقت الذي تقع المعركة على سورية، وروسيا ليست بعيدة أبداً عن هذه المعادلة.

فلاديمير بوتين قال لأحد مستمعيه عن الرئيس السوري بشار الأسد مبرراً تمسكه به حتى النهاية «هذا الولد أتى بالعالم أجمع إليّ». وهذا صحيح. الصحيح أيضاً هو أن باراك أوباما سمح لبشار الأسد أن يكون أداة إقبال العالم على فلاديمير بوتين. باراك أوباما سنح الفرصة للصين لأن تتزمّت وتعزز علاقتها الاستراتيجية مع روسيا أين ما كان لدرجة أنها، وفق المصادر، تبعث طائرات بلا طيار لمساعدة روسيا في سورية. هذه غلطة استراتيجية تاريخية ارتكبها باراك أوباما فيما كان يلتهي بفكرة «التحول إلى الشرق» بعيداً من الشرق الأوسط لبناء علاقات جديدة مع الصين. لقد أضعف أوراقه شرقاً عندما أهدرها في الشرق الأوسط، بالذات عبر إعطاء الصين أوراقاً ثمينة في سورية.

وفي مصر أيضاً ارتكب باراك أوباما أخطاء سيذكرها له التاريخ عندما أقبل على تبني «الإخوان المسلمين» اعتقاداً منه أنهم الرد المعتدل على أمثال «القاعدة». ضرب بعرض الحائط التركيبة المصرية الشعبية وظن نفسه عبقرياً عندما حاول استيراد النموذج التركي إلى مصر. تبنى التهادنية خوفاً من الانتقام. وها هو اليوم أيضاً في صدد التهادنية الخائفة بدلاً من القراءة الضرورية للحدث المصري بكامل أبعاده.

فذلك النمط من التهديد بقطع المعونات الاقتصادية وتعليق المناورات العسكرية إنما هو شهادة على قصر النظر واستثمار خاطئ في العلاقة الفائقة الأهمية بين الولايات المتحدة ومصر، وبين الولايات المتحدة ودول مجلس التعاون الخليجي، وبالذات المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية.

فالأموال الأميركية لمصر بقيمة 1.3 بليون دولار ليست هبة بلا مرجع. اتفاقية كامب ديفيد للسلام بين مصر وإسرائيل هي المرجعية، أما التفاصيل فإنها عسكرية أساساً ذات مردود للطرفين. فكفى تظاهراً بأن إيقاف المعونات سيؤذي فقط الطرف المصري. إنه يؤذي الولايات المتحدة بمقدار ما يؤذي مصر إذ إن الفوائد متبادلة.

أما الغضب من الأموال السعودية والإماراتية والكويتية فإنه تحقير لمصر وللمنطقة العربية أجمع وهي تمر في مرحلة تصحيحية ليس فقط للداخل وإنما لعلاقاتها الخارجية. ومن الضروري جداً لإدارة أوباما أن تدرك أبعاد مواقفها التقليدية التي لا تأخذ في الحساب التغيير الذي طرأ على المنطقة العربية.

يحق لإدارة أوباما أن تختار الانسحاب من منطقة الشرق الأوسط، إنما لا يحق لها أن تترك المنطقة العربية، عمداً، في حالة انهيار تساهم في صنعها الولايات المتحدة الأميركية. فهذا أسوأ استثمار أميركي في مستقبل العلاقات الأميركية – العربية.

ما يحدث في سورية اليوم في ظل الحديث عن استخدام أسلحة كيماوية لربما يشكل أسوأ شهادة على التراجع الأخلاقي والاستراتيجي للولايات المتحدة الأميركية. فلقد تعهد الرئيس أوباما بـ «خطوط حمر» في 20 آب (أغسطس) 2012، ولقد قام باراك أوباما في 20 آب 2013 بمحو الخطوط الحمر عندما تراجع متقهقراً متمسكاً بأثواب روسيا والصين بمنع مجلس الأمن من الإصرار على التحقيق الفوري. ففي بيانه اعتبر المجزرة الكيماوية «مزاعم» بدلاً من الإصرار على استكشاف الحقائق. هكذا، أعطى ذخيرة إضافية لمجازر أخرى هروباً منه من استحقاقات لا يريد مواجهتها.

أن يفقد الرئيس باراك حسين أوباما الصدقية شيء، أما أن يتبنى سياسة الهروب إلى الأمام للولايات المتحدة الأميركية، فإنه أسوأ استثمار في مستقبل الولايات المتحدة ومنطقة الشرق الأوسط على السواء.

الحياة

أوباما متردّد أم محبط؟/ سميح صعب

كثيرة هي الأوصاف التي تطلق على الرئيس الاميركي باراك أوباما بسبب ما يراه البعض من تردد وحذر تتسم بهما سياسته حيال احداث الشرق الاوسط ولا سيما منه سوريا. ويذهب مؤيدو التدخل العسكري الخارجي في سوريا الى وصف أوباما بالرئيس المتردد أو العاجز عن اتخاذ القرار او المتخلي عن القيم الاميركية والاخلاقية في مواجهة المآسي الناجمة عن استمرار الحرب السورية.

الواقع أن التردد ليس سمة السياسة الاميركية حيال سوريا وحدها، ذلك ان واشنطن تكاد لا تفعل شيئا من اجل تخفيف الاحتقان في مصر، وارسال مساعد وزير الخارجية وليم بيرنز او تكليف السيناتورين جون ماكين وليندسي غراهام كان له مفعول عكسي بعد تصريحات ماكين النازية التي توقع فيها انزلاق مصر الى “حمام دم” قبل يومين فقط من فض السلطات المصرية بالقوة اعتصامي “الاخوان المسلمين” في ميداني رابعة العدوية والنهضة بالقاهرة وما تلا ذلك من “حرب شوارع” في عدد من المحافظات المصرية اعادت مصر الى حال الطوارئ، ولم تعد ترى مبرراً للاستمرار في سجن الرئيس سابقاً حسني مبارك.

ما يبدو تردداً اميركياً ربما كان تعبيراً عن احباط من سياسات ورهانات سابقة. فالدول، ولو كانت عظمى، تصاب احياناً بالاحباط شأنها في ذلك شأن الافراد. ففي سوريا راهنت واشنطن على سقوط سريع لنظام الرئيس بشار الاسد وعلى قيام معارضة ليبرالية مدنية متماسكة تشكل بديلاً من النظام، فإذا بالجماعات الجهادية هي التي تتقدم المعارضة السورية مما جعل رئيس هيئة الاركان الاميركية المشتركة الجنرال مارتن ديمبسي يكتب الى النائب اليوت اينغل في معرض شرح اسباب التردد الاميركي، ان أي تدخل عسكري في سوريا الآن لا يصب في مصلحة الولايات المتحدة. وفضلاً عن ذلك لم تعد الحرب في سوريا حرباً من اجل اسقاط نظام فحسب، وانما باتت في نواح كثيرة حرباً طائفية كما دلت احداث ريف اللاذقية وكما تدل المعارك التي يخوضها مقاتلون اكراد وآخرين من الجهاديين في محافظتي الحسكة والرقة، وتالياً لم تعد واشنطن ترى

وفق رسالة ديمبسي ان اسقاط الاسد سيوقف الحرب السورية.

وفي مصر، استثمرت واشنطن رصيدها في دعم “الاخوان المسلمين” باعتبار ان هذه الجماعة ستكون بمثابة نسخة عن النموذج التركي الذي ترتاح اليه الولايات المتحدة، أي اسلام سياسي معتدل يقف سداً منيعاً في وجه الاسلام المتطرف. بيد ان تجربة “الاخوان” في الحكم دفعت عشرات الملايين من المصريين الى الشوارع مطالبة باسقاطهم وفتحت شهية الجيش للعودة الى الامساك بالسلطة مجدداً.

المثالان السوري والمصري ربما كافيان لجعل أوباما يحجم عن تدخل اكثر فاعلية في قضايا الشرق الاوسط.

النهار

اوباما المتردد ام الحازم؟/ محمد ابرهيم

عندما قرر الرئيس الاميركي السابق جورج بوش غزو العراق عام 2003 قام بفبركة الوقائع حول الخطر الداهم لمخزون الرئيس العراقي السابق صدام حسين من اسلحة الدمار الشامل.

ولأن القرار السياسي للرئيس الاميركي الحالي باراك اوباما هو “عدم الانخراط”، بل الانسحاب حيث امكن، فإنه يعمل جاهدا على تقطيع اوصال الوقائع حيث تظهر.

ولأن الوقائع تمتاز بالعناد فإنها كما عذبت بوش عندما انطلق باحثا عن اسلحة صدام حسين المزعومة بعد الغزو،ها هي تعرّض اوباما لتعذيب مشابه وهو يهرب من المعطيات التي تتحدى يوميا سياسته الشرق الاوسطية.

اوباما “الباحث” مطوّلا عن تعريف لما جرى في مصر: هل تنطبق عليه مواصفات الانقلاب؟ اضاف سؤالا آخر الى ميدان ابحاثه المعمقة: هل جرى استخدام اسلحة كيميائية في غوطة دمشق؟ ومن استخدمها؟

ومثلما كان الحل في الشأن المصري نسيان السؤال، لاشك في ان المدى الزمني الذي يتطلبه الجواب في الحالة السورية كفيل بالوصول الى النتيجة نفسها. اما اذا شاء سوء حظه ان تفرض الوقائع نفسها، فإن تجربة اوباما السابقة مع التأكد من استخدام النظام السوري للسلاح الكيميائي، كانت مبدعة. فهو قرر تسليح المعارضة ، ثم نسي القرار في سياق البحث عن افضل الوسائل لتطبيقه، بما لايسيء للولايات المتحدة.

هناك من يميل الى تحميل شخصية اوباما المسؤولية عما يبدو واضحا من تردد السياسة الخارجية الاميركية في الشرق الاوسط. لذلك يجري التركيز حاليا على التهديد الذي اطلقه سابقا بخصوص الخط الاحمر الذي رسمه للنظام في سوريا في شأن استعمال الاسلحة الكيميائية، وفشله في الالتزام به.

لكن الامر يتجاوز ولاشك ما يمكن اعتباره الطابع “الاكاديمي” الشخصي في تعاطي اوباما مع الشؤون الدولية، الى انسجام سلوكه مع سياسته العامة التي كان صريحا في اعلانها عندما كان مرشحا للرئاسة. فهو وعد بإنهاء صورة الاميركي بصفته “شرطي العالم”، والتي كرّسها بوش. واعتبر ان المكان الوحيد الذي يبرر، اخلاقيا، التدخل الاميركي هو افغانستان. وحتى هذا تراجع عنه لاحقا امام اعتبار اخلاقي اسمى هو عدم التفريط بالدم الاميركي في نزاعات خارجية. وفي ذلك رجوع الى دروس تجربة فيتنام التي كان جورج بوش الأب قد اعتبر ان “عاصفة الصحراء” التي اثارها في مطلع تسعينات القرن الماضي ضد العراق، قد دفنتها.

حتى التتمة المنطقية للانسحاب الاميركي وهي تضخُّم مواقع القوى الاخرى المنافسة عالميا واقليميا فإنها لم تكن بعيدة عن الرؤية الاصلية لأوباما، والتي تُسمى اميركيا: السياسة الدولية المتعددة الطرف في مقابل الاستئثار الاميركي بقيادة العالم.

النهار

قوة الأسد ضعف أوباما/ طارق الحميد

لولا تخبط السياسات الأميركية في المنطقة، وآخرها في مصر، لما كان بشار الأسد سيجرؤ على مواصلة ارتكاب جرائمه، كمجزرة أمس البشعة في الغوطة الشرقية والتي أودت بحياة عدد مرعب من السوريين، معظمهم من الأطفال والنساء، والأعداد مرشحة للزيادة.

فهم الأسد جيدا من موقف إدارة أوباما بالأزمة المصرية أن بإمكانه الهروب للأمام، فموقف واشنطن من مصر يظهر أحد أمرين؛ فإما أن واشنطن تريد الهروب من استحقاقات الأزمة السورية بالملف المصري، أو أنها، أي واشنطن، لا تمتلك أصلا رؤية لكيفية التعامل مع ما يحدث، وعاجزة عن اتخاذ موقف استراتيجي حيال الانهيار الوشيك بالمنطقة، وهو الأمر الذي لا يتطلب الاعتماد على مراكز الدراسات واللوبيات بقدر ما أنه يتطلب حلفاء تتفنن واشنطن بخسارتهم! قيّم الأسد عجز واشنطن بعقلية زعيم مافيا، ورأى أن بمقدوره استغلال تباين المواقف تجاه مصر، عربيا وإقليميا ودوليا، بسبب التخبط الأميركي، وكما حذرنا في مقال «هل يستفيد الأسد مما يحدث بمصر؟» الاثنين الماضي، حيث قام بارتكاب جريمته البشعة يوم أمس.

ولا يهم استخدام الأسد للأسلحة الكيماوية من عدمه بمجزرة الغوطة، الأهم أن هناك جريمة بشعة ارتكبت بحق الأطفال والنساء، جريمة تذكرنا بعمق وحكمة الملك عبد الله بن عبد العزيز حين حذر المتدخلين بالشؤون المصرية في خطابه التاريخي بأنهم في ذلك «يؤيدون الإرهاب الذي يدّعون محاربته»، وهذا ما يحدث الآن فعليا في سوريا، وحدث بمصر! فمن يقوِّض الدولة المصرية دعما لجماعة فاشية هو داعم للإرهاب، خصوصا حين يتجاهل ثلاثين مليون مصري خرجوا ضد «الإخوان». ومن يتجاهل الثورة السورية السلمية ببدايتها، ورغم عنف الأسد، ويمعن بتجاهلها طوال عامين، وحتى بعد وقوع ما يزيد على المائة ألف قتيل، وتدخل إيران وحزب الله فهو دعم للإرهاب أيضا.

ما تتجاهله إدارة أوباما، وما لا تعيه، أن الدول ليست «تويتر» حيث الجدال والمناطحة والأكاذيب.. الدول تقوم على استتباب الأمن واحترام القوانين وعدم الإقصاء وحقن الدماء، وهذا ما لم يفعله «الإخوان»، وما انتهكه الأسد، بل إن القوانين الدولية تفرض ضرورة التحرك والتدخل حفاظا على السلم الأهلي في أي مكان، وما نراه بمصر وسوريا هو تهديد حقيقي للسلم الأهلي، وتعريض للدولة ككل للانهيار. والمدهش أن واشنطن تتعامل مع ما يحدث بمصر وكأنه انقلاب، وتصف أحداث سوريا بالحرب الأهلية، بينما في مصر تنظيم فاشي تغوَّل على الدولة فخرج عليه ثلاثون مليونا يكفل خروجهم في واشنطن إسقاط أوباما نفسه، والأغرب أن الغرب نفسه سعى للدفع بانقلاب على الأسد الذي يقتل شعبه بدعم من مرتزقة إيران الطائفيين، ثم يقال إن ما يحدث بسوريا هو حرب أهلية وليست ثورة! فهل هناك تخبط أكثر من هذا التخبط الأميركي؟

الحقيقة أنه لا غرابة في أن يواصل بشار الأسد ارتكاب جرائمه في حق سوريا والسوريين، فقوة الأسد تكمن في ضعف أوباما نفسه.

الشرق الأوسط

هل الفوضى العربية سيئة لأميركا؟/ روبرت كابلان

تجتاح الفوضى العالم العربي. الاعتقاد السائد هو أن هذه الفوضى سيّئة للولايات المتحدة، وأن الفوضى في أي مكان تسبّب تحدّياً وتهديداً للشعب الأميركي. لا شك في أن هذا صحيح على مستوى القيَم، لا سيما نظراً إلى ما يكشفه عن عالمنا.

كتبتُ عن هذا الموضوع في دورية “أتلانتيك مونثلي” عام 1994 مقالا بعنوان “الفوضى القادِمة” (The Coming Anarchy)، حيث توقّعت، من جملة أمور أخرى، تفشّي الفوضى في أماكن مثل سيراليون وساحل العاج اللذين انهارا بعد سنوات قليلة. لكن ماذا لو لم يكن ذلك صحيحاً في المنطق البارد لسياسة القوّة؟ ماذا لو لم تكن فوضى الشرق الأوسط سيّئة بقدر ما يُخيّل إلينا، من منظار المصالح الجيوسياسية للولايات المتحدة؟

لكن ألا ينمو الإرهابيون الإسلاميون العابرون للأوطان، على غرار تنظيم “القاعدة”، في المناطق ذات الحكم الضعيف؟ نعم، إلى حد ما. وينبثق الآن “دفقٌ كبير من التهديدات” من خلايا جديدة وأكثر استقلالاً تابعة لتنظيم “القاعدة” في الشرق الأوسط الذي يغرق في الفوضى، كما أعلن الخبراء والمسؤولون في واشنطن خلال الموجة الأخيرة من إغلاق السفارات الأميركية في المنطقة.

إلا أن هناك وجهاً آخر للقصّة. لا شك في أن الإسلاميين العابرين للأوطان موجودون في المناطق ذات الحكم الضعيف، وخير دليل على ذلك ليبيا بعد القذافي والهجوم على المجمّع الديبلوماسي الأميركي في بنغازي العام الماضي. لكن نموّهم مسألة مختلفة. فالنمو في مكان غير خاضع للحكم يعني امتلاك منطقة من السيطرة حيث لا تخشى التهديدات الأمنية، ويمكنك تالياً إقامة معسكرات تدريب ووضع خطط لشنّ هجمات متطوّرة على بلدان أخرى – كما فعل تنظيم “القاعدة” في أفغانستان منذ أواخر التسعينات حتى عام 2001. لكن يصعب القيام بذلك عندما تسود الفوضى في كل مكان.

في الواقع، لم تكن أفغانستان غارقة في الفوضى الكاملة في أواخر التسعينات. بل كانت مناطق شاسعة تخضع لحكم حركة “طالبان”، وكانت تؤوي رسمياً تنظيم “القاعدة”. كانت المناطق الخاضعة لسيطرة “طالبان” تشكّل دولة معادية أكثر منها دولة فوضوية. إذاً، وفي حين يزداد الآن احتمال قيام تنظيم “القاعدة” بشنّ هجمات أصغر نطاقاً بسبب تفشّي الفوضى – مجدداً، الدليل على ذلك هو ما حدث في بنغازي – على الأرجح أن هجوماً بحجم اعتداءات 11 أيلول يتطلّب أجواء أكثر استقراراً في أجزاء من بلدٍ يسود عدم الاستقرار في مناطقه الأخرى.

فلنأخذ اليمن على سبيل المثال. الواقع هو أن الجهاديين العابرين للأوطان الذين يستقرّون الآن في مختلف أنحاء الشرق الأوسط، يشكّلون بصورة أساسية تهديداً للحكومات القائمة التي تستضيفهم على أراضيها. لكن من وجهة النظر الأميركية، المصدر الأكبر للخطر الأمني الذي يهدّد توازن القوى الإقليمي ليس الدول الفوضوية بل دولة مستقرة وذات حكم قوي، ألا وهي إيران. فإيران قادرة الآن، وتحديداً لأنها ليست في حالة فوضى، على بناء إمكانات نووية من خلال شبكة واسعة ومتطوّرة من المنشآت التي يجد الأميركيون والإسرائيليون صعوبة في تفكيكها من دون خوض حرب. لو كانت إيران في حالة فوضى منذ سنوات، لما تمكّن برنامجها النووي من قطع كل هذه الأشواط!

نظراً إلى أن إيران متشدّدة وتخضع لحكم قوي، الأمن الإسرائيلي مهدّد في صميمه، ولو أن الفوضى في أماكن أخرى من الشرق الأوسط صبّت من نواحٍ عدّة في مصلحة إسرائيل التي هي للمناسبة حليفة الولايات المتحدة. لقد أعلن الجيش الإسرائيلي قبل وقت قصير، أنه بات بإمكان إسرائيل الآن التركيز أكثر على التهديدات غير التقليدية مثل تسلّل المقاتلين والهجمات السبرانية، بما أن الجيوش في مصر وسوريا، كما في دول عربية أخرى، لم تعد تشكّل تهديداً تقليدياً لأراضيها. وهكذا بفضل الفوضى في العالم العربي، لم تعد إسرائيل تواجه تهديداً استراتيجياً عند حدودها، بل تحوّل تهديداً تكتيكياً. لا يستطيع “حزب الله” و”حماس” إرسال دبّابات إلى المناطق السكنية الإسرائيلية، بخلاف الإمكانات التي كانت تتمتّع بها مصر وسوريا نظرياً، عندما كانتا دولتَين خاضعتَين لحكم قوي.

لكن ألا تُهدّد الفوضى الانتقال من الأوتوقراطيات غير الشرعية إلى الديموقراطيات الليبرالية؟ إنها حجّة أخلاقية، وليست جيوسياسية. وحتى من الناحية الأخلاقية، إنها حجّة ناقصة لأنها تفهم التاريخ بطريقة خاطئة. أولاً، أبلت الولايات المتحدة جيداً جداً مع ما يُعرَف بالأنظمة السلطوية غير الشرعية. فطوال عقود خلال الحرب الباردة، أفسحت السلطات الاستبدادية العربية، من بلاد المغرب إلى المشرق، في المجال أمام ممارسة تأثير أميركي قوي في المنطقة، كما أنها ساهمت في قيام أنظمة مستقرّة وقابلة للتوقّع، وفي حماية الخطوط البحرية الحيوية جداً بين الغرب والخليج الفارسي الغني بالمواد الهيدروكربونية، وأتاحت للولايات المتحدة القدرة على التوسّط للتوصّل إلى هدنات واتفاقات للفصل بين القوى، وحتى معاهدة سلام أو اثنتَين بين المتحاربين في المنطقة.

فضلاً عن ذلك، كانت السفارات الأميركية بأمان في ذلك الوقت! من يقول إن الأنظمة الديموقراطية – هذا إذا ظهرت – ستكون ملائمة للمصالح الجيوسياسية الأميركية بقدر الأنظمة السلطوية؟ فمثلما كانت هناك أنظمة استبدادية ليبرالية في الشرق الأوسط، يمكن أن تظهر ديموقراطيات غير ليبرالية. ومن الواضح أن الأنظمة الاستبدادية الليبرالية أفضل لأمن الشعب الأميركي ورفاهه الاقتصادي. أما في ما يتعلّق بالفوضى التي تهدّد المسيرة نحو الديموقراطية، فما الذي توقّعه دعاة التغيير الديموقراطي في الشرق الأوسط؟ يمكن القول بأن أوروبا استغرقت الجزء الأكبر من الألفية الماضية للانتقال من الأنظمة الاستبدادية المطلقة إلى ديموقراطيات مستقرّة وليبرالية. وتخلّل الانتقال كمٌّ هائل من الحروب والتمرّدات.

حاولت روسيا في التسعينات الانتقال بين ليلة وضحاها من الديكتاتورية الشيوعية إلى الديموقراطية الغربية الطراز، وكانت النتيجة أقرب إلى الفوضى الكاملة. وفي غضون ذلك، مرّت البلدان الآسيوية بحذر في سنوات طويلة من الحكم السلطوي الممزوج بإصلاحات موجّهة نحو السوق في إطار الانتقال البطيء إلى الديموقراطية. في أوروبا الوسطى والشرقية بعد الشيوعية، كان الانتقال أسرع، لكن السبب هو أنه كانت لتلك البلدان خلفيّة معيّنة في الممارسات الديموقراطية والثقافة البورجوازية قبل الحرب العالمية الثانية، وهو ما لا يتمتّع به عدد كبير من الدول العربية. علاوةً على ذلك، تميّزت أوروبا الوسطى والشرقية – لأسباب جغرافية وثقافية – بسهولة استيعابهما في منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) والاتحاد الأوروبي. باختصار، يجب أن نتوقّع درجة معيّنة من الفوضى في الشرق الأوسط في السنوات المقبلة.

أما المفهوم الذي يروّج له عدد كبير من المعلّقين، بأن الرئيس الأميركي باراك أوباما مسؤول بطريقة ما عن هذه الفوضى التي تنتشر أمام ناظرَيه، فلا يمكن أخذه على محمل الجد، لأنه ينطلق من الافتراض بأن لواشنطن تأثيراً أكبر بكثير من ذاك الذي تمارسه فعلياً على الأرض في مجتمعات إسلامية متباينة ومعقّدة وذات كثافة سكّانية عالية. فمثلما انهارت الكتلة الشرقية بسبب الضغوط الداخلية على وجه الخصوص، وليس بسبب القرارات التي اتّخذها الرئيس الأميركي آنذاك رونالد ريغان، تطوّرت الأحداث في العالم العربي بدفع داخلي إلى حد كبير، وليس بقرار اتّخذه أوباما. لا شك في أن ليبيا استثناء: فقد ساهم التدخّل الإنساني الأميركي هناك في انتشار الفوضى.

لكن ألم يكن بإمكان أوباما منع الفوضى في سوريا لو بادر باكراً إلى التدخّل هناك؟ ربما، مع أنه لا أحد سيعرف الجواب يوماً. إلا أنه قد يكون من السذاجة القول بأنه لو حصل تدخّل عسكري بقيادة الولايات المتحدة في سوريا عام 2011، لكان ذلك أدّى إلى تصويب المسار السياسي في البلاد في غضون أسابيع قليلة. (مع العلم بأن الرأي العام الأميركي لم يكن ليصبر أكثر من أسابع قليلة). المفارقة هي أن المؤرّخين قد يثنون على أوباما في السنوات المقبلة للسبب عينه الذي يتعرّض الآن للانتقاد من أجله: عدم التدخّل في سوريا.

لا شك في أن الفوضى السورية تؤدّي إلى زعزعة الاستقرار في لبنان والعراق. لكن، ومنذ سنوات، لم يعد لبنان ولا العراق دولة بكل معنى الكلمة. من جهة أخرى، صحيح أن الفوضى السورية تتسبّب بمخاطر لإسرائيل، حليفة الولايات المتحدة، إلا أنها تتيح لها بعض الفرص أيضاً. وقد تؤدّي الفوضى السورية إلى إيقاع إيران، عدوّة الولايات المتحدة، في مأزق مع تعرّض خطوط إمداداتها للخطر مقارنة بما كانت تحظى به في العراق. بعبارة أخرى، وإذا لم يتداعَ النظام في الأردن، من المستبعد تماماً أن تؤدّي الفوضى في سوريا، في الظرف الراهن، إلى تقويض المصالح الأميركية الأساسية (باستثناء انتشار الخلايا الجديدة والمستقلة ذاتياً التابعة لتنظيم “القاعدة”). وإذا بقيت قناة السويس مفتوحة والحدود الجنوبية لإسرائيل آمنة إلى درجة مقبولة، يمكن قول الشيء نفسه عن مصر.

أما السعودية وباقي الدول في شبه الجزيرة العربية الغنية بالمواد الهيدروكربونية – ما عدا البحرين – فلا تزال مستقرّة. قد تبلغ الفوضى في الشرق الأوسط مستوى يمارس تأثيراً واضحاً على المصالح الأميركية؛ ويمكن أن تصل تداعياتها أيضاً إلى الأسواق المالية العالمية. لكن في الوقت الحالي، يطرح انهيار الأنظمة السلطوية في مزيد من البلدان في المنطقة تحدّياً أمنياً على الولايات المتحدة سوف يستمرّ لسنوات.

محلل في مؤسسة ستراتفور الاميركية للدراسات الاستراتيجية

ترجمة نسرين ناضر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى