صفحات الثقافة

مكتبة بابل.. موقع افتراضي يحاكي تصوّر بورخيس للانهائية الكون/ أمجد ناصر

 

 

قبل الكلمات كانت الرسوم. وقد كانت قليلة قلة ما يراه الإنسان ويهمّه أمره في تلك الفترة من عمائه المعرفي. كانت رسومات الكهوف أول كتاب إنساني على الأغلب. ثم تحولت رسوماً ممنهجة تدل على أشياء أكثر ترابطاً. صارت رموزاً مرسومة لما نود أن نقوله لغيرنا، بل لما نريد أن نكتبه ولم نعرف حينها كيف، إلا بالتصوير. فالقول لم يعد كافيا لإنسان يبحث عن معناه في العالم. كان لا بد من الكلمة للتفكير في العالم. رحلة طويلة قطعها الإنسان مع همِّ المعرفة وفضولها القاتل، أحياناً، حتى وصل إلى الحرف، ومن الحرف إلى الأبجدية، ومن الأبجدية إلى الكتاب، ومن الكتاب إلى المكتبة. عندما وصل الإنسان إلى الأبجدية صار ممكنا للكلمات أن تكون لا نهائية. من بضعة وعشرين حرفاً صار ممكناً كتابة ملايين القصائد والرسائل والروايات والكتب العملية والحكايات والأسفار واليوميات وكل ما يخطر على بال القلم أن يصنعه. كان ذلك زمن القلم والحبر والورق. لكنَّ هذا صار في عهدة الماضي، أو يكاد مع دخولنا الزمن الرقمي. المهم هو أن البشر صنعوا مما هو متناه (الحروف)، غير المتناهي (الكلمات).

ليس هناك كاتب فكَّر في الكون كمكتبة مثل الأرجنتيني جورجي لويس بورخيس. لا أحد اعتبر الكلمات لا نهائية مثله. ولا أحد اخترع مبرراً لعمر بن الخطاب، الذي ينسب إليه حريق مكتبة الإسكندرية من دون دليل، بالقول:

“في القرن الأول للهجرة،

أنا عمر الذي أخضع الفرس

وفرض الإسلام على امتداد الأرض

آمر جنودي بأن يحرقوا هذه المكتبة الغزيرة

التي لن تندثر

والحمد لله الذي لا تأخذه سنة ولا نوم

والصلاة على رسوله محمد”.

لن أجادل، هنا، من أحرق مكتبة الإسكندرية، فهذا جدل طويل عريض استغرق قروناً، وسأكتفي بما يهمُّ هذه السطور. هناك ملاحظتان حول نهاية قصيدة بورخيس ذات العنوان “الإسكندرية، 641 ميلادية”: الأولى، أنه ينهي القصيدة، التي تتقمص عمر بن الخطاب، بما ينتهي به الخطاب الإسلامي عادة: الحمدلة والصلاة على النبي. وهذه، شذرة من مئات الشذرات العربية، التي ترد في أعماله، أو التي تقوم عليها، بالكامل، بعض قصصه وقصائده. ولا يُستبعد أن تكون فكرة اللانهائي، عنده، مأخوذة من “ألف ليلة وليلة”، حيث يشير الألف إلى ما هو لا نهائي، كما يشير توليد الحكايات، واحدة من داخل الأخرى، إلى الاستمرارية والتكاثر.

الثانية، أن المكتبة، لو أُحرقت، لن تفنى، فكتاب واحد، كما يقول بورخيس، يمكن أن يكون أصل كل الكتب، ومن كتاب واحد تنبع كل الكتب. فما دامت الأحرف موجودة وقادرة على إنتاج كلمات ومعان فلا نهاية لما يسفر عنها. لذلك رأى بورخيس الكون على شكل مكتبة، بل رأى أن هذه المكتبة واسعة بسعة الكون، مركزها في قاعة ما ومحيطها تصعب معرفة مداه، بل تستحيل.

مكتبة بابل

عندما كتب بورخيس قصته الشهيرة “مكتبة بابل”، في منتصف أربعينيات القرن الماضي، لم يكن بالوسع تخيل، مجرد تخيل، وجود مكتبة تقرأ في واشنطن وطوكيو في الوقت نفسه. كانت هناك مكتبات على امتداد العالم، غير أنها منفصلة. سيحتاج العالم إلى نحو أربعين عاماً من ذلك التاريخ ليكون على موعد مع حدث سيغير وجهه كما كان يعرفه الناس قبل ذلك: الإنترنت. قبله بالطبع الكومبيوتر. مع هذه القفزة في التواصل بين البشر، الأفكار، الكلمات، الصور، الأصوات، صارت المعرفة، بصرف النظر عن مضمونها، غير قابلة للحصر. صار تكاثرها بغير حساب. كم عدد الذين يكتبون اليوم بفضل وجود الإنترنت، ووسائل التواصل الاجتماعي؟ وبفضل هذه الشبكة التي لا تني تتسع وتتعقد وتتفرع صار لدينا مكتبة كونية. هناك مواد مكتوبة بكل لغات العالم تقريباً. هذا غير المواد السمعية والبصرية.

مكتبة في أي وقت

فتحت شبكة الإنترنت باباً للمعرفة، وتبادل الأفكار، وانسياب الكلمات والصور والأصوات، بوسع العالم. هناك مشاريع عديدة تربط الكتب، المؤلفات، المكتبات بعضها ببعض، منها ما هو جامعي مثل مشروع جامعة كارنيجي ميلون الذي يتصدى لرقمنة نحو مليون ونصف مليون كتاب. لم ينس المشرف على هذا المشروع راج ريدي، أستاذ علوم الكومبيوتر في الجامعة المذكورة، أن يقول إن هذا المشروع يقربنا من فكرة المكتبة الكونية التي يجد فيها أي شخص، في كل وقت، في أي لغة، الكتب المنشورة.

والمكتبة – الكون التي لا تغلق أبوابها في أي وقت، يوفره لنا محرك بحث واحد مثل “غوغل” الذي نستطيع، من خلاله، أن نستفسر عن أي شيء، في أي وقت، وبلغات عديدة. يعتمد الأمر الأخير على نشاط تلك اللغات وقدرتها على الإنتاج ووضع هذا الإنتاج في الفضاء السيبري. وبما أن الإنترنت نتاج المتروبول الغربي، الناطق بالإنجليزية تحديدا، فإن اللغة الإنجليزية تهيمن على مواد الشبكة.

ولعل آخر من يؤمنون برؤية بورخيس للكون كمكتبة، هو الكاتب والمبرمج الاميركي جوناثان بيسل الذي أنشأ موقعاً يحمل اسم القصة ويطمح إلى أن يحاكي مكتبة بورخيس ذات القاعات المسدَّسة، بحيث تتسع للتصور اللانهائي للكلمات الذي تحدث عنه بورخيس. وهذا الموقع تفاعلي، يسمح للقراء بالإضافة. ويبدو أنه كلما مضى بيسل في مكتبته الافتراضية القائمة على حسابات رياضية، كلما بدا له اتساعها المهول. يقول: إذا نقر مستخدم الموقع من خلال الكتب بمعدل واحد في الثانية الواحدة، فإن الأمر يستغرق حوالى 104668 سنة لاستنفاد المكتبة! ولكن للأرض نهاية كما يقدّر علماء الفلك بسبب قربها من الشمس وتحول الأخيرة، في نهاية حياتها، إلى كوكب أحمر، وبالتالي تبخر الماء تماماً من الأرض وتحولها إلى صحراء.

هذا يعني، في قفلة غير سارة، بل مناقضة لتصور بورخيس بلانهائية الكلمات، أن الكلمات على هذه الأرض ليست بلا نهاية. لكن هذه النهاية بعيدة جداً اليوم، وربما وجد بشر الأرض، قبل أن تحل النهاية على كوكبهم، حياة في مكان آخر من هذا الكون اللانهائي.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى