مراجعات كتب

نقد أسس تطور الفكر الغربي الأوروبي : «الوضع البشري» للفيلسوفة الألمانية حنة أرندت: الإنسان بين العمل والأثر والفعل/ رامي أبو شهاب

 

 

فضلت الفيلسوفة الألمانية حنة أرندت «الوضع البشري» عنوانا للكتاب الذي أصدرته باللغة الإنكليزية سنة 1958، ليصدر عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود عام 2015 بترجمة هادية العرقي. وعلى ما يبدو، فإن العنوان كان فضفاضاً يكاد يطال كل شيء، فالكتاب عبارة عن محاضرات ألقتها الفيلسوفة الألمانية في جامعة برنستون في الولايات المتحدة الأمريكية، وتتمحور حول الإنسان، ولكن ضمن الحدود والكيانات التاريخية للفكر الغربي، وفعل التطور الذي بدأ مع حدود إدراك العالم، ومحاولة تخطيه، ونبذه من قبل الإنسان الذي يتوق إلى تجاوز ذاته، وعوالمه التي فرضت عليه بوصفه كائناً أرضياً فانياً، غير أن إنسان العصر الحديث تفوق على أسلافه، وكسر صدفته الأرضية حين استطاع أن يغزو الفضاء باحثاً عن تشكيل جديد لكيانه؛ رافضاً طبيعته البشرية، متوهماً أن بمقدوره أن يتخطى حدود الأشياء.

حنة أرندت الفيلسوفة الألمانية اليهودية الهاربة من جحيم النازية إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وجدت في هذا البلد فضاء جديداً، بدا حينها أكثر قدرة على تجسيد شكل من أشكال التحرر، والقدرة على التطرق للأفكار التي حلمت أرندت بتقديمها، شأنها في ذلك شأن كل المثقفين الباحثين عن فضاء للتعبير ضمن عالم حر، يتخلصون فيه من الرقابة الذاتية المتأتية من رقابة السلطات، والسياقات الموروثة، التي تحد من قدرات العقل، ما يعوق عملية التطور، كما في عالمنا العربي الخاضع بالمطلق لمنظومة نابذة لقيمة التفكير.

في كتاب أرندت يتبدى الطرح بوصفه تأملاً في مقولات فلسفية، أو مشاريع فلسفية شكّلت صيغة العالم الغربي كما نعرفه الآن، إنه نتاج الطرح الذي بدأ مع آدم سميث، وكارل ماركس، والكثير من المفكرين الذين أسهموا في تحديد صيغة الإنسان، وتموضعه في العالم. إن الشكل الجديد للإنسان الحديث يحيل إلى بنية حتمية من فعل التطور إلى ما لا يمكن التكهن به، أو لعله سوف يبدو مضاداً للصيغة البشرية، كما تقول حنة أرندت في كتابها، ولعل ما يشغل ذهن هذه الفيلسوفة رغبتها في كشف هشاشة هذه الصيغ الفكرية عبر مفردات ناقدة.

ثلاثية العمل والأثر والفعل

في الجزء الاستهلالي من الكتاب نقرأ اكتناه النموذج، حيث تتراجع اللغة بوصفها تمثيلا للوجود، في حين يتقدم الإنسان المتصل ببنية العمل بوصفه اختصارا للإنسان الحديث، ويتراجع النشاط الحياتي، ليمسي البشر مجموعة من الموظفين العاملين الذي يعتقدون أن الحياة لا يمكن أن تمضي بلا هذا النشاط، ولهذا تتوصل أرندت إلى ثلاث صيغ تميز بينها، وهي العمل والأثر والفعل.

تميز حنة أرندت بين هذه المفاهيم، إذ ترى في الأولى النشاط البشري بتكوينه البيولوجي المعرض للفناء، في حين أن الأثر، هو معني بالأثر الاصطناعي، أو فعل الانتماء للعالم، وأخيراً الفعل حيث يتجلى البشر عبر تكوينهم الجمعي من منطلق علاقتهم مع بعض بعضا؛ وبعبارة أخرى، إدراكهم لذاتهم بدون واسطة الأشياء، أو المادة. في حين يناقش الفصل الأول الحياة العملية للإنسان بوصفه شرطا للبقاء والاستمرار، أي البحث عن معنى الخلود في تكوين بشري يحكمه الفناء، ولهذا فإن مبدأ المكسب والإنجاز يسيطران على العقل البشري، ويأسرانه.

في الفصل الثاني، نقع على التمييز بين المجالين: العام والخاص، فالبشر يحكم وجودهم الوسيط، ونعني الوجود البشري عينه، وخارجه لا يكون هناك أي وجود، ومع ذلك فإن الاجتماع البشري، ليس من وجهة نظر أرندت فطرياً، إنما هو محكوم بحاجتنا للبقاء، والحياة، أي أنه ذرائعي، وهذا ما يدفع إلى تكوين مجالين: خاص ذاتي، وآخر عام سياسي.

اللغة وتلاشي الحدود بين العام والخاص

تبرز اللغة بوصفها وسيلة للحكم كما تناقش أرندت، ولكنها تتبع ذلك بتوضيح الهيمنة عبر تحليلها للنظم، كما سادت في العصر اليوناني القديم، وبذلك فهي تسعى إلى التمييز بين السياسي والاجتماعي، بيد أن العام طفق يطغى على الخاص في الأزمنة الحديثة، ما يفسر الرغبة في الثورة نتيجة تقدم المجال العام على الخاص، أو الثورة على السلطة، أو الدولة، وهذا يتقاطع مع مفاهيم المجال المشترك والملكية، ونتيجة لهذا تحقق التنافس بين المجالين، ما استدعى أسئلة حول الطبيعة الخيرة للبشر، أو تفوق الشر على ما عداه.

يناقش الفصل الثالث من الكتاب معطى العمل، ولكن مع تبصر ناقد لأفكار كارل ماركس، وذلك بعد أن تقرأ أرندت الفكر القديم الذي نبذ قيمة العمل بوصفه قدراً لا يتناسب مع سادة اليونان القديمة، في حين أن العصر الحديث على العكس من ذلك، فقد نظر إلى العمل على أنه محور وجود الإنسان، بل متقدما في التراتبية تبعاً لآدم سميث، وبذلك فقد خرج العمل من مجال الخفية إلى المجال العام، فالعمل بات يستهدف خلق فائض من المنجز، ما عزز الطابع الاستهلاكي للبشر، علاوة على تصدر الشيئية التي صبغت وجودنا الكلي في الأزمنة الحديثة، فالشيئية وأدواتها، تنفصل على اللغة، أو نشاط التفكير حسب تعبير أرندت، وهذا يفضي إلى أن الديمومة، قد تنحاز إلى الأشياء الملموسة، ولكنها تبقى مع ذلك الأقل استدامة، لا شك بأن نهج العمل، ونشاطاته من حيث الكمون والفعل يستهلكان النشاط البشري، الذي يتجسد بالعمل حسب التفكير الماركسي، وبذلك نقترب من مقولة جون لوك بأن العمل والاستهلاك يتبع أحدهما الآخر، مما يصل بنا إلى ظاهرة التملك التي تعني أن يندرج الإنسان، أو النشاط البشري في دائرة التملك والارتهان مما يضاعف الثروة، ومسار التكديس أيضاً.

العالم الاستدامة والفناء

ينهض الفصل الرابع على اكتناه مفهوم «الأثر»، الذي يتحدد بمعنى استدامة العالم، وهذا ينتج عن العمل، وما يتعالق به من الأثر، فما لا يستهلك مما نصنعه سيعود إلى الطبيعة، وهذا يعني قهر النسق الإنساني، وبوجه خاص حين تقوم الطبيعة بتحقيق الاستقرار، أو التوازن، أي أن العالم له موضوعية خاصة، تبرمج ذاتها في ظل انحرافات الإنسان الذي يبقى وجوده على هذه الأرض نسبياً، على الرغم من فعل التكرار الذي يقوم به الإنسان على هذه الأرض، وهو ما يمكن أن نطلق عليه مسار العمل، أو الصنع الذي يبقى في النهاية ضمن حلقة لا متناهية من العمل والتحطيم والتابعية، وبالتحديد النهج السلوكي الذي وصل إلى ذروته في تفعيل دور الآلة، فضلاً عن التقدم التكنولوجي الذي يعد حلقة من حلقات خروج الطبيعة عن مسارها، فكما هو معلوم، فإن الطبيعية تمارس مساراً طبيعيا، بحيث تعود كل الأشياء إلى أصولها ومنشئها، فالخشب سيعود إلى الأرض كي يتحول مرة أخرى إلى شجرة، في حين أن مسارات التدخل الإنساني ذات الأثر المخالف، ستنتج نوعاً من التشويه، كونها تخضع لمنطق التفكير البشري، وهو ما يمكن أن نطلق عليه سيطرة العالم النفعي، فكما تقول حنة ارندت « فإن كل الغايات ستكون ذات مدة أقصر، وستتحول إلى وسائل من أجل غايات أبعد». ولعل هذا التفكير تدين به للفيلسوف الألماني نيتشه، الذي شدد على «لا متناهية الوسائل والغايات»، وبذلك، فإن الإنسان ينساق إلى المكون الأداتي المسيطر المحكوم بمبدأ وهمي، والذي يتجلى بالنافع، وهو اختراع بشري بالمحصلة.

تخلص أرندت في هذا الفصل إلى مقولة واضحة، تتمثل بأن العالم يتجه إلى الاستمرار أو الديمومة، في حين أن الأثر البشري مصيره الفناء. ولعل الأشياء التي تحتمل قدراً من الأثر الفني، تعد الأكثر عرضة للاستمرار، وهذا يعلل غائياً، بأنها غير مرتبطة بالاستعمال من قبل المخلوقات الحية، ونموذجه على سبيل المثال الشعر، ومصدر مادته اللغة حيث تقول «الشعر الفن الأكثر إنسانية والأقل انتماء إلى العالم»… فالحياة في معناها غير البيولوجي ما هي إلا برهة من الزمن، يمتلكها الإنسان بين الولادة والموت كما تذكر الكاتبة.

المدينة وأنشطة السيطرة

يذهب الفصل الخامس للبحث في الإنسان، ولكن عبر مدخل تقدير معنى الاختلاف بوصفه علامة مائزة، إذ يتعالى الإنسان على باقي الكائنات الحية باللغة، «الفعل والكلام» وبدونهما لا يمكن للإنسان أن يوجد، فهو شرط الوجود البشري، ولهذا يلجأ إلى العلامات لاختزال هذا التحقق، وكي يتحقق التعاضد بين اللغوي والفعل بوصفهما وجوداً، لا بد من وجود الفاعل «الإنسان» الذي يقع في شبكة من العلاقات والقصص، حيث يخرج ذلك المتكلم الفاعل؛ شكلا من التأويل لحكاية تقودها خيوط علوية حسب التفسير الأفلاطوني. فحياة البشر ما هي إلا اختزال لوجودنا الجمعي الذي يكمل مشهد حضورنا على هذه الأرض، ولهذا فإن اليونانيين القدامى، آمنوا بمنطق المدينة التي تعني مبدأ مشتركاً يجمع البشر، وفي هذه الجزئية، تشرع أرندت في قراءة تاريخية تكون مفهوم الدولة، حسب المفهوم اليوناني القديم، فالمدينة أتت بوصفها ضامنة لأنشطتهم، ولهذا برز النشاط السياسي في حاضنة الدولة بتكوينها المادي والثقافي، والأهم وجود النظام الذي يحكمها، غير أن قوة الإمبراطوريات لا يتحدد بحجمها، بل بتنظيمها، فكثير من الدول الصغرى، أو مجموعات صغيرة منظمة، تمكنت من حكم كبرى البلدان، وهذا ينتج بفضل قوة العقل، لا قوة العضلات، إن هذه الجزئية معنية بتحليل آلية الحكم، ومكامن قوته، وضعفه في مسارات الوجود البشري، ونتيجة لهذا فإن أرندت سرعان ما تتوقف لتعيد صوغ «مفهوم العنف» الناشئ عن فقدان القدرة على الحكم والفعل، مما يولد الطغيان.

لا شك في أن طغيان قيم المنتج، ومفهوم العامل، ومبدأ المساواة في هذا المجال، أو الفضاء العام كما تنعته، أفضى إلى معنى تمثيل البشر بشكل جمعي ومطلق، وهذا برز من منطلق سياسي، ويتجلى في ظهور الحركات العمالية، والأحزاب، ما يقلل من فضاء المجال العام.

يُعنى الفصل السادس بتحليل ظاهرة الاغتراب في العصر الحديث، الذي انتزع حق التملك، فبرزت قوة الدولة القومية، أو التراب الوطني على حساب الامتلاك القديم الذي كان يقوم على وحدة العائلة، أو القبيلة حسب مفاهيمنا الشرقية، وبذلك فقد تقلص مفهوم المجال العام أمام المجال الخاص الذي تتحكم فيه الدولة.

وختاماً، يمضي الكتاب في باقي أجزائه إلى تتبع قيم التطور من خلال مفاهيم العلم الحديث، ومبادئ الشك الديكارتي، ودورهما في تحويل العالم، بعد أن بدأت المسافة تقصر بين الفلسفة والعلوم الحديثة، إذ تراجع دور الفيلسوف أمام العالم، وبذلك، فقد دخل العالم في طور جديد، وهذا يختصر بعبارة تراجع الإيمان، وتقدم مسار العلمنة لإنسان العصر الحديث كما تذهب حنة أرندت في كتابها الذي يمكن أن نستخلص منه الكثير لفهم تكويننا الثقافي، وإشكالياتنا المعاصرة، ولكن عبر منهج تأملي فلسفي.

٭ كاتب فلسطيني أردني

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى