محمد تركي الربيعومراجعات كتب

نمو الحياة الدينية في نجد وظهور دعوة بن عبد الوهاب/ محمد تركي الربيعو

 

 

في فترة الستينيات والسبعينيات من القرن الفائت، أخذ نظام الحكم في المملكة العربية السعودية يتبنى أيديولوجية «التنمية الوطنية» على اعتبارها الدعامة الثانية لشرعيته إلى جانب الرمزية الإسلامية.

وقد بدا هذا التحول على المستوى التعليمي، من خلال قيام الدولة بتشجيع ابتعاث السعوديين إلى الخارج، كي يتمكنوا لاحقاً من المساهمة في التنمية الوطنية، والحلول محل الخبرات الأجنبية والعربية كمسؤولين وأساتذة في عدد من التخصصات التقنية والمعرفية. فعلى مستوى تخصصات العلوم الإنسانية أُرسِل عدد لا بأس به من الطلبة السعوديين لإكمال دراساتهم العلمية في التاريخ والعلوم الاجتماعية في عدد من الجامعات الغربية.

بداية كان التوجه السعودي نحو بريطانيا، إذ نال جيل من المؤرخين من أمثال عبد العزيز الخويطر وعبد الرحمن الأنصاري درجات دكتوراه من هناك. وفي ما بعد أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية هي الوجهة المفضلة لغالبية الطلبة السعوديين. ولم يعكس هذا التغيير الأهمية المتزايدة للعلاقات السعودية الأمريكية وحسب، بل عكس أيضاً وعياً متزايداً بالتحول الذي أخذت تشهده الجامعات الأمريكية حيال الاهتمام بالتاريخ الديني والاجتماعي والاقتصادي، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، عندما أدركت الولايات المتحدة الأمريكية ضرورة تشكيل معرفة أوسع عن منطقة الشرق الأوسط، وهو ما دعا جامعات أمريكية عديدة مثل جامعة برنستن وهارفارد وكاليفورنيا في لوس انجليس إلى تأسيس مراكز جديدة للدراسات الشرق أوسطية.

وضمن هذه المراكز والأقسام الجديدة، أخذ بعض الطلبة السعوديين يتأثرون بمقاربات ورؤى جديدة حول كتابة التاريخ الجديد، وحول ما هو مكتوب أيضاً عن الإسلام والتاريخ الاجتماعي والاقتصادي لمنطقة الشرق الأوسط. وهو ما أثمر لاحقاً من خلال محاولة هؤلاء الطلبة تجاوز بعض السرديات النمطية حول تشكيل الدولة السعودية، وعلاقة هذا التشكل بالدعوة الوهابية، لصالح تطوير نقاشات سياقية لهذا التشكل وللظروف المحيطة بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، الذي عادة ما يظهر في السرديات الرسمية كشخصية دينية ظهرت في فترة الجاهلية التي عرفتها نجد قبل قدومه. وكان من بين هؤلاء الطلاب المتأثرين بهذا المناخ الفكري الجديد المؤرخ السعودي عويضة بن متيريك الجهني، الذي درس اللغة الإنكليزية في جامعة الملك سعود، بعد ذلك توجه إلى التاريخ الاجتماعي، وحصل على منحة لإكمال الدراسات العليا في جامعة واشنطن. وفي الجامعة تأثر الجهني – كما يرى المؤرخ الألماني يورك ديترمان في كتابه «كتابة التاريخ في المملكة العربية السعودية»- بمقالين عن الجزيرة العربية في القرن الثامن عشر للمؤرخ الأمريكي جون فول.

في المقالة الأولى، حاول فول التخلي عن الدراسات السابقة التي أظهرت بشكل أساسي كيف أثّر الوهابيون في حركات دعوية أخرى، وبدلاً من ذلك درس الخلفية التي نمت منها الدعوة الوهابية. كما تطرق لحلقات العلماء التي أثّرت في ابن عبد الوهاب خلال دراساته في المدينة. أما في مقالته الثانية، فأكد فول أن القرن الثامن عشر في التاريخ الإسلامي لم يكن «عصرا مظلما» من «الجهل والركود الفكري»، بل كان «فترة تطورات كبيرة في السمات الأساسية للتقليد الإسلامي». وقد جعلت هاتان المقالتان الجهني يتوجه إلى إعادة قراءة تاريخ نجد قبل الوهابية، لكن ليس فقط من خلال الاعتماد على المصادر الغربية، بل من خلال العودة إلى المصادر المحلية، التي كتبها بعض العلماء النجديين في القرنين السابع عشر والثامن عشر. إذ قام عدد من علماء نجد خلال تلك الفترة بتسجيل عدد من الأحداث المهمة التي وقعت في بلدهم. وقد كتبت أولى تلك التدوينات من قبل القاضي وعالم الدين أحمد بن محمد بن بسام (ت 1630)، وجاء الشيخ عثمان بن منصور ليتطرق لاحقاً لعدد من الأحداث التي جرت في القرن الثامن عشر. كذلك نظر الجهني إلى كتابات الشيخ محمد بن عبد الوهاب واتباعه بوصفها مصادر مساعدة جداً على دراسة نجد قبل ظهور دعوتهم. ففي خطاباتهم الشخصية والرسائل والفتاوى والأجوبة (الرد على حجج خصومه) تعامل هؤلاء مع المشكلات الدينية والاجتماعية التي حاولوا جاهدين حلها. إضافة إلى ما سبق ذكره، كان أحد أهم مصادره في هذه الأطروحة كتابا كان قد كتبه عبد الله بن محمد البسام (1851-1927) – وهو عالم وتاجر نجدي- بعنوان «تحفة المشتاق في تاريخ نجد والحجاز والعراق». وقد وصل هذا النص للجهني – وفقاً لمقابلة أجراها المؤرخ الألماني ديترمان مع المؤلف- بعد رحلة عالمية. فقد نسخ معلم فلسطيني المخطوطة في بلدة عنيزة عام 1956 بعد استعارتها من القاضي عبد الله بن عبد الرحمن البسام. بعد ذلك حصل أستاذ في جامعة حيفا على هذه النسخة، ومن هناك شق النص طريقه إلى كندا وأخيراً إلى جيري باكراك المؤرخ الاجتماعي والاقتصادي الذي كان يشرف على أطروحة الجهني في جامعة واشنطن.

وقد قدمت روايات ابن حميد وعائلة البسام النجدية قبل الوهابية إلى الجهني مادة لتفسير سياقي للدعوة الوهابية، من خلال النظر إلى هذه الحركة بوصفها نتاجا طبيعيا لنمو التعليم الديني، الذي شهدته نجد في القرنين السادس والسابع عشر. وبالتالي جاءت هذه الخلاصة لتقلب سردية «الجاهلية» رأسا ًعلى عقب. مع ذلك، وبعد عودته من الولايات المتحدة، تخوف الجهني من نشر أطروحته لعقدين من الزمن، لكن في عام 1999 قامت دار الملك عبد العزيز بإدراج أطروحته في مخططها لنشر الأطروحات السعودية. لكن مما يلاحظ على طبعة الكتاب التي صدرت في عام 2006، أن كلمة «وهابي» استبدلت بكلمة «سلفي» بحيث غدا العنوان «نجد قبل حركة الإصلاح السلفية». كما أن الدارة بقيت متخوفة من أي إشكاليات قد تأتي حول ما هو مطروح في هذه الرسالة، ولعل ما يؤكد هذا الجانب ربما هو الاقتصار على نشر العمل باللغة الإنكليزية. وهو ما أدى إلى بقاء هذه الأطروحة بعيدة عن متناول معظم القراء والباحثين. لكن مما يجدر ذكره هنا، أن أطروحة الجهني لم تكن الأطروحة الأولى التي لم تحظ بالقبول والتشجيع، إذ سبقته في ذلك أطروحة المؤرخ الراحل عبد الله العسكر حول «تاريخ اليمامة» التي صدرت قبل سنوات قليلة عن دار نشر غير رسمية (جداول للنشر)، وأيضاً أطروحة عالم الاجتماع السعودي خالد الدخيل «الوهابية بين الشرك وتصدع القبيلة» التي لاقت بعد سنوات طويلة من كتابتها فرصة النشر، ولكن من خلال دار نشر سعودية أخرى (الشبكة العربية للأبحاث والنشر).

ولعل هذا الاهتمام من قبل المؤسسات الثقافية غير الرسمية بهذه الأطروحات المهمَّشة حول تاريخ المملكة، هو ما أفسح المجال لأن تقوم دار جسور للنشر (مؤسسة غير رسمية في بيروت) بإعادة نشر أطروحة الجهني من جديد تحت عنوان «نجد قبل الوهابية: الظروف الاجتماعية والسياسة والدينية إبان القرون الثلاثة التي سبقت الحركة الوهابية». وبالعودة إلى متن الأطروحة، وكما أشرنا في المقدمة، فإن فكرة الكتاب تقوم على رفض الروايات النمطية التي تقول بأن ظهور الدعوة الوهابية مجرد صدفة محضة، وأن ابن عبد الوهاب قد قدم لإعادة احياء الوعي الديني داخل منطقة نجد ولاحقاً المملكة. إذ يرى الجهني، بدلاً من ذلك، أنه مع بداية القرن السادس عشر، أخذت منطقة نجد تشهد ازدياداً ملحوظاً في عدد العلماء وفي التعليم الديني، ويعزو الجهني هذا الأمر لنجاح علماء نجد في الاتصال بأبرز العلماء من المذهب الحنبلي في الشام ومصر، كما أنه من بين خمسة عشر عالماً ممن ذُكِروا في تراجم النجديين في ذلك القرن، سافر خمسة منهم إلى دمشق أو القاهرة أو كلتيهما؛ للدراسة مع كبار علماء المذهب الحنبلي في ذلك الوقت وهم كالتالي: حسن بن علي بن بسام من أشيقر (ت 1539)، وأحمد بن عطوة من العيينة (ت1541)، وزامل بن سلطان بن مقرن، وأحمد بن أبي حميدان وابن عمه محمد بن أبي حميدان (ولد 1514). في ما بعد، عاد هؤلاء العلماء إلى نجد بوصفهم فقهاء حصلوا على المعرفة عن طريق الاتصال الشخصي والقريب مع أعلى مراجع علمية في المذهب الذي يتبعونه. كما استقر أحدهم (أحمد بن عطوة) في دمشق بوصفه مؤلفاً ومعلماً في دمشق. وقد تجمع عدد كبير من طلاب العلم حول هؤلاء المعلمين الخمسة، بسبب صلتهم بأكبر الفقهاء الحنابلة في الشام والقاهرة في ذلك الوقت. غير أن الطلاب النجديين استمروا في السفر إلى الخارج للدراسة خلال القرن السابع عشر. لكن ما يلاحظ في هذا السياق، أن النسبة المئوية من العلماء الذين درسوا خارج نجد خلال ذلك القرن، كان قد قلت مقارنةً بالقرن السادس عشر. ويفسر الجهني هذا الأمر بأنه نتيجة لغياب العلماء الحنابلة المشهوريين في هاتين الدولتين، خلال تلك الفترة. لكن بعد ذلك بقرن (الثامن عشر)، يلاحظ المؤلف، أن عدد العلماء النجديين شهد زيادة كبيرة، وكان عدد هؤلاء العلماء الذي تناولتهم التراجم ضعف علماء القرن السابق. كما غدت نجد، بعد الشام ومصر، مركزاً مهماً لدراسات المذهب الحنبلي طيلة القرنين الحادي عشر والثاني عشر الهجريين/السابع عشر والثامن عشر الميلاديين. بالإضافة لذلك، فإن العلماء النجديين دائماً ما كانوا تواقين للحصول على أعمال علماء الحنابلة من الشام ومصر، عبر التجار والمسافرين الذين كانوا يترددون على الشام والعراق والحجاز.

ويبدو أن نمو التعليم الديني، والزيادة في عدد العلماء في نجد قد ربطتهما علاقة وثيقة مع النمو العام. إذ أسهم العدد الكبير من السكان وتنوع الأنشطة الاقتصادية في هذه المجتمعات شبه الحضرية، في جعل سعة التعليم والبحث الفكري ممكناً. ويرى الجهني أنه في ظل هذا النمو، والحاجة إلى تنظيم الحياة اليومية التي كانت تتطور في منطقة نجد، فقد اتجهت أغلبية علماء نجد إلى دراسة الفقه الحنبلي، بينما نظروا إلى باقي العلوم مثل الحديث الشريف أو التفسير أو التوحيد بوصفها اهتمامات لا حاجة لها في مجتمعهم. وفي ظل مثل هذا النمو في التعليم الديني، وفي سياق توسع دور الحقل الديني داخل نجد، يتوصل الجهني إلى أن ظهور محمد بن عبد الوهاب لم يأت بوصفه حدثاً بالصدفة، بل جاء نتاجا وتتويجا لنمو التعليم الديني في مركزين رئيسيين في نجد، وهما أشيقر والعيينة، وبالتالي فإن القول بأن فترة ما قبل عبد الوهاب كانت فترة جهل هي مقولة غير صحيحة. من هنا فإن النمو الديني الذي شهدته نجد خلال القرون التي سبقت الدعوة الوهابية يدعونا إلى ضرورة إعادة النظر ببدايات تشكل حركة ابن عبد الوهاب، باعتبارها ليست حركة إحيائية فحسب، بل بوصفها حركة اجتماعية/دينية ظهرت لتقديم حلول للتطلعات والمشكلات الجديدة التي بدأت تنشأ نتيجة نمو المجتمع النجدي مع منتصف القرن الثامن عشر.

٭ كاتب سوري

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى