صفحات الرأيمازن عزي

هل تجري معركة كوباني؟/ مازن عزي

 

 

هل تجري معركة كوباني؟ حقن بالمتخيل، يجعل من بضعة “انغماسيين” مهووسين بالموت، يهزمون جيوشاً عالية التسليح، بلا قتال ومعارك

يوثق مقطع مصور، بثّه تنظيم الدولة الإسلامية في “يوتيوب”، عملية السيطرة على هضبة مشتة نور “جبل الإذاعة” الاستراتيجية، المطلة على مدينة كوباني “عين العرب”. في الفيديو تظهر دبابة سوفياتية من عتاد الجيش السوري، يتحرك خلفها عشرة مسلحين من التنظيم، يرتدون ملابس سوداء طويلة، مطلقين لحاهم وبضع طلقات في الهواء. لا أحد أمامهم أو خلفهم. كأنهم يُصورون مشهداً في فيلم سينمائي. يظهر بعد ذلك مقاتل من داعش، يتكلم العربية والكردية، شارحاً عملية السيطرة على الهضبة، ويصفها بانتصار شديد الأهمية، سيسمح لـ”جحافل” الدولة الإسلامية من بعده، بالسيطرة على كوباني.

قبل حصار تلك المدينة الصغيرة المنسية، سقطت عشرات القرى الصغيرة في ريفها، بسرعة قياسية، أمام الهجوم “الكاسح” لداعش. وقبلها، استولى التنظيم على محافظات سورية: دير الزور والرقة، وأجزاء من الحسكة وريف حلب، بلا قتال مع جيش سوري منسحب أمامه، وكأنه يخلق الفراغ المناسب، الذي يمكن ملؤه بـ”الإرهاب”. كما سقطت الموصل ومعظم محافظات نينوى والأنبار وديالى، وانهار الجيش العراقي في لحظات. ثم تنادت دول العالم، لصياغة تحالف دولي يضم عشرات الدول العظمى، لوقف “تمدد” الدولة الإسلامية، بـ”القصف الجوي”.

في المقطع المصور، النادر، كما في القليل القليل غيره مما تسرب إلى مواقع التواصل الإجتماعي، يبدو الخلل فاضحاً. قلة من عناصر التنظيم، تغزو مناطق شبه فارغة من سكانها، وتسيطر عليها. عشرات طائرات “الدرونز” ومئات الطلعات الجوية للتحالف الدولي، لم تستطع إيقاف “أرتال” تنظيم الدولة، هذا إذا أسقطنا من الحساب، المقاومة الكردية “الشرسة”، والتحاق مقاتلين أكراد من العراق وتركيا، ومعظمهم من العسكريين المحترفين في صفوف “حزب العمال الكردستاني” التركي وقوات البشمركة العراقية، بقوات “وحدات حماية الشعب الكردي” – الذراع المسلح لحزب الإتحاد الديموقراطي الكردي وهو الحاكم الفعلي طيلة سنوات ثلاث لمناطق الأكراد في سوريا.

يقول جان بودريار في قراءته لـ11 أيلول/سبتمبر 2001: “في إثره، اهتز رهان التاريخ والقوة، لا بل اهتزت أيضاً شروط التحليل”. لكن، الآن، وبعد 13 عاماً على تدمير برجيّ التجارة العالمية، وانطلاقة الحرب على “الإرهاب”، هل يصح أن كل الخطب والتعليقات، ما زالت تتكشف عن قدر هائل من تصريف الإنفعال “حيال الفتنة التي ولدّها الحدث”؟ أما زالت تؤجج كل هذا العنف المبثوث في أرجاء العالم كله، و”المخيلة الإرهابية التي تسكننا جميعاً”؟ أم أن الواقع بات يتجاوز تلك اللحظة، حين تلاقى “حلم جماعي فانتازي” غربي، مع الكابوس الذي يشهده المشرق منذ أربعة أعوام. فالقوة المميتة لنظام القمع السوري، حين تلاقت مع تجاهل دولي لحجم الكارثة الإنسانية، دفعت بالثورة إلى خيار عنفي طائفي، تراكب فوقه قسرياً، مشروع تنظيم الدولة الإسلامية. ربما، بفعل ذلك “التكثيف المتراكم للعنف المشاع، تصويراً وبثاً، على مدار الساعة”، كما يصفه بودريار.

واقع جديد، مفرط في صوره وافتراضه، خيالي على مستوى الإلتقاء والشبكات (الإنترنت)، أشبه بـ”هلوسة جميلة للمواقع تلتهم الواقع”، حين نشهد في كل مكان “حقناً هائلاً ومتواصلاً للواقع بالصورة والمتخيل والافتراضي”. حقن بالمتخيل، يجعل من بضعة “انغماسيين” مهووسين بالموت، يهزمون جيوشاً عالية التسليح، بلا قتال ومعارك، وأقل من عشرين ألف مقاتل، يسيطرون على مساحات هائلة من الأرض والمقدرات، لتنفتح البلاد أمامهم.. كل هذا لا يحدث إلا في تلك اللحظة المخيفة: ما فوق الواقع. عشرة مقاتلين خلف دبابة، يسيطرون على كوباني، البلدة الاستراتيجية، ليفر منها مئات الآلاف، ويتداعى لقتالهم هوس عالمي مفرط في رعبه، ووعي “إثني” كردي يبحث عن عمقه في إقليم يتشظى. ذلك يحدث فقط حين تنعدم المسافة بين المجتمع “المشهدي” الذي يعيش رمزيته المشهدية، وبين الواقع. حين يلتحم الرمز بالواقع، تكفي راية سوداء لدولة الإسلام، حتى يبدأ إطلاق النار، بلا هوادة، على عدو، على الأقل، يكاد لا يظهر في مقاطع الفيديو المصورة، إلا كالشبح.

يقول بودريار في وصف “الإرهابيين” الثمانية عشر، الذين دمروا برجي التجارة: “إلى حد ما، هم الذين ارتكبوا الفعلة، لكننا نحن الذين أردناها”. وينكر ما حدث في سبتمر 2001، في إحالة رمزية لوقوعه، قبل ذلك، عبر حقن الواقع بالمتخيل. وعطفاً على ذلك، أين تقف حدود دولة الخلافة في واقعنا اليوم؟ وهؤلاء الذين يقاتلون تحت رايتها، ألم يتم استدعاؤهم من التاريخ، في تواطؤ مضمر بين الشرّ والخوف المضاد له؟ ذلك “الشر” الذي يواجه قوى مهيمنة، لا يمكن الحديث عن “الخير” في تسلطها. وأمام كل هذا الرعب المحتفى به “مشهدياً”، ومعارك الطيران ضد قاطعي الرؤوس بالسكاكين، ألا يجدر السؤال: ماذا يجري في كوباني الفارغة من سكانها؟

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى