صفحات الرأي

ما المشكلة مع الحرية؟/ حازم صاغية

من يتابع كتابات وتعليقات معظم المناهضين للضربة الأميركيّة لنظام الأسد يلاحظ موقفاً عصبيّاً متكرّراً يجمع بينها كلها: إنه السخرية من طلب الحرية، وأحياناً الإعلان الصريح عن العداء لتلك الحرية.

فمثلاً، لا تظهر أصوات في تلك البيئة تعد سامعيها بالحرية إذا ما شاركوها التصدي للولايات المتحدة، أو تعتذر لهم عن موقف نظام الأسد من الحرية، وعلى رغم ذلك تطالبهم بدعمه ضد طرف أجنبي يتهدد الوطن كله.

هذا التركيب بين موقفين أو بين دعوتين غير وارد البتة في تلك البيئة، علماً بأن الحرية، التي سبق أن رفعتها الثقافة الليبرالية إلى موقع الصدارة والغاية بذاتها، لا يمكن أن تكون ذاك الأمر التافه أو السخيف القابل للاستغناء عنه.

في المقابل، فإن ما هو وارد في البيئة الممانعة هذه هو وضع الحرية في موضع الضد من وطنية لا ينطق باسمها إلا حاكم مستبد يريد أن يمضي في استبداده غير هيّاب!

وهذا السجال، في ما نعلم، ليس جديداً في التجارب السياسية والفكرية العربية. ففي مطالع القرن العشرين، مثلاً، رمزَ «أستاذ الجيل» أحمد لطفي السيد إلى مدرسة تعطي الأولوية لمكافحة الاستبداد كما تعتبر أن الاستعمار والتخلف نتيجتان من نتائج الاستبداد ذاته، كما رمز الثنائيّ مصطفى كامل ومحمد فريد، قائدا «الحزب الوطني»، إلى مدرسة تعطي الأولوية لمكافحة الاستعمار الأوروبي، ولو بالتعاون مع الاستبداد العثماني يومذاك. وفي مصر أيضاً، وفي أوائل الخمسينيات، كان شعار «تسقط الحرية» أحد أبرز شعارات مؤيدي جمال عبدالناصر في مواجهة محمد نجيب. والمعروف أن الأول، الذي صار بعد سنوات قليلة «رائد القومية العربية ومكافحة الاستعمار»، إنما كان ينوي إبقاء الحياة السياسية في قبضة الجيش، تمهيداً لإقامة ديكتاتورية عسكرية، وذلك بالضد على رغبة نجيب في إعادة الجيش إلى ثكناته واستعادة الحياة السياسية والحزبية في مصر.

لكنْ لماذا هذا الإصرار على «وطنية» تناوئ الحرية، واعتبار الأخيرة، من ثم، لزوم ما لا يلزم؟ ولماذا كانت الأطراف الأكثر «وطنية» و«عداء للاستعمار»، في التجارب العربية الحديثة، لاسيما حزب «البعث» في العراق وسوريا، هي دائماً الأطراف الأكثر تمسكاً بالقمع وتهميش الحرية بوصفه النهج المعمول به في حكم شعوبها؟

لا شك أن عناصر كثيرة ومتعددة المستويات تفسر ذلك، لكن أولها وأهمها أن القوى «الوطنية» المزعومة ليست وطنية في حقيقة الأمر، بقدر ما هي استبدادية تتذرع بالوطنية. والمقصود بهذا أن القوى تلك إنما تقيم حكمها ضد الشعب وضد رغباته، وهي، أولاً وأساساً، «ضد» طرف أجنبي، علماً بأنها على أتم الاستعداد، وبصورة دائمة، لعقد المساومات غير البريئة مع ذاك الطرف الأجنبي نفسه. وغني عن القول إن حرية الشعب وقراره خطر مؤكد على هذه الوطنية السلبية التي لا رقابة عليها وعلى سلوكها من قبل الشعب.

والحق أن الأنظمة العسكرية والاستبدادية هي التي تولت تغيير معنى الوطنية من كونه استجابة لمصالح الوطن وأبنائه (على ما كان الحال مع حزب «الوفد» المصري في النصف الأول من القرن العشرين) إلى كونه مناهضة لطرف غريب ما (ضد الاستعمار أو الإمبريالية). وفي هذا التحويل الذي أجرته الأحزاب والقوى الراديكالية بعد الحرب العالمية الثانية، يكمن التشوّه الذي نعانيه حالياً وما ينجر عنه من استخفاف شائع بالحرية وإرادة الشعوب.

ولسوء الحظ فإن هذا التعريف المخاتل للوطنية هو الذي انتصر انتصاراً مبرماً في مصر وسوريا والعراق بعد الانقلابات العسكرية المتوالية في الخمسينيات والستينيات، حيث أطيحت الفئات الاجتماعية التي ارتبطت بالتقليد السياسي الناشئ.

وما هو أتعس من ذلك أن أغلب الذين يطالبون الشعوب بتناسي الحرية هم ليسوا من أبناء تلك الشعوب. فإبان الحرب الأميركية في العراق عام 2003، كانت أغلبية ساحقة من العراقيين تؤيد الحرب لإطاحة صدام حسين وحكمه، فيما كانت أغلبية معارضي الحرب من غير العراقيين. والشيء نفسه إنما تكرر في ليبيا لدى إطاحة قوات «الناتو» حكم القذافي في 2012. ذاك أن أغلبية الليبيين وقفت مع هذه الإطاحة، ولو تمت على يد «الشيطان»، بينما كانت الاحتجاجات عليها تتوالى من غير الليبيين. وكذلك الأمر في سوريا اليوم، حيث تقول بالفم الملآن أغلبية السوريين إنها تؤيد أي عمل يقضي على النظام القائم، مقابل اعتراض غير السوريين، من عرب وغربيين، على ذلك.

وهكذا يبدو هناك نوع من تقسيم العمل: فأبناء البلدان المعنية يكتشفون باللحم الحي أية معاناة يكابدونها من جراء الاستبداد والحرمان من الحرية، بينما ينحاز الآخرون إلى التصوّر الإيديولوجي (الذي بات قديماً) والذي يضع الحرية في مواجهة الوطنية الزائفة والاستبدادية. وبالطبع يدلل هؤلاء الأخيرون، ومن غير انقطاع، على أن الوفاء للرواية الإيديولوجية هو بديلهم عن الاكتراث بحياة البشر وآلامهم. وبفعلهم هذا فإنهم يتكشّفون عن ساديين قساة حيال شعوب ليست شعوبهم.

والحال أن طالب الحرية هو وحده الوطني، الذي يعرف أن الوطنية من دون حرية إنما ترقى إلى وصفة لتمكين الحكم المستبد ولإفقار الشعب والوطن في الوقت ذاته. وهذا فضلاً عن كون طالب الحرية إياه هو الذي يريد أن يواجه حياته بنفسه وبمسؤوليته عنها.

وهل نحن، في آخر المطاف، بحاجة إلى تقديم الأدلة العديدة التي تنتشر ما بين عراق صدام وليبيا القذافي وسوريا أسرة الأسد؟

الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى