حمّود حمّودصفحات الرأي

“هولوكوست المشرق” أو الهروب إلى زيغمونت باومان/ حمّود حمّود

 

 

كتب مرة المستشرق الألماني مارتن هارتمان، في نهايات القرن التاسع عشر، رسالة وجهها إلى إيغناس غولدتسيهر: «الشرق، كما هو الآن، يمثّل القوة العسكرية الاحتياطية الأخطر بالنسبة الى العناصر المتخلّفة في أوروبا وجميع من يرغب هنا في بلداننا في العودة إلى العصور الوسطى بـ «أشرافها» و «عبيدها»… لاستعباد الناس. الشرق، بحالته الآن، مخزَنٌ لا ينضب من النفوس الخادمة والجلادين المتدربين».

ليس من الصعب الآن، على رغم كل التحولات التاريخية التي مرت بالمشرق على مدار أكثر من قرن، القول أنّ الحال التي صوّر بها هارتمان الشرق وعلاقته بجلادي أوروبا ما زالت تنطق بها حالُ التحالفات غير المعلنة بين مخازن الهولوكوست المشرقية، لكن ما قبل الحداثية، وبين اللاعقلانيين الأوروبيين، لكن ما بعد الحداثيين. ما سنحاول قوله في هذه العجالة، إنّ الأمر يتعدى حالة بعض التحالفات العسكرية بين أطراف غربية قيادية ومخازنها البشرية في الشرق. فهناك، بالفعل، أغطية فكرية غربية واسعة ما زالت تحاول بكل ما تملك، شرعنة الوجود الإسلاموي لا من خلال أسلحتها الفكرية الغربية (الما بعد حداثية في معظم الأحيان) فحسب، بل أيضاً من خلال أسلحة الإسلاميين أنفسهم. وبالطبع، هذا لا يمكن أنْ يتم إنْ لم تكن هناك سلفاً أرضيات فكرية يمكن أنْ تتزاوج بها هذه الأطراف. لهذا، لا يمكن أنْ نفاجأ باحتفاء كثير من الأصوات الأصولية والإسلامية بكثير من التيارات الغربية، لا على أسس عقلانية وحداثية (هذا فضلاً عن إنكار الطرفين أصلاً الحداثة واستحقاقاتها السياسية)، بل على أسس من الهيامات العدمية التي تشكل ملعب الإسلاميين.

وليس مستغرباً أنّ الخيط الواصل بينهم لم يكن ليجمعهم لولا التأسيس على بنية مقدس واحدة: الهروب من الحداثة إلى ما قبل الحداثة. أحد الأمثلة على هذا، هو ردة الفعل الإسلامية والعربية على كتاب زيغمونت باومان «الحداثة والهولوكوست».

فأنْ يُحتفى اليوم، مشرقياً وإسلامياً، بعملٍ يصرّ صاحبه على أنّ الهولوكوست الغربي الألماني لم يكن سوى لسان الحداثة الغربية نفسها، لا على أنه خروج على النص الحداثي، لهو أمرٌ، إنْ سُيِّق تاريخياً، يدل مرةً أخرى على التزاوج الطبيعي بين الأصوليات المشرقية وعدمياتها وبين أصوات غربية «ما بعدية» بنسخها الفائضة جداً. والحال، أنّه إذا كنّا مشرقياً قد أسكنّا أنفسنا وفق صورة إنكار الهولوكوست الألماني، فهناك اليوم شكلٌ آخر للإنكار، وذلك وفق «لغة أصولية متقدمة» على سالفتها التي كانت تكتفي ببروباغندا إنكارية هيجانية للهولوكوست.

وفي الواقع، فإنه حينما تعترف أصوات فكرية إسلامية بما حدث ضد اليهود، فذلك في الحقيقة ليس مجرد اعترافٍ بحقٍ ما لليهود بمقدار ما يشكل استمرارية كبرى في الإنكار على الغرب نفسه وعلى حداثته، إضافة إلى أنّ الذهنية التي تأسست على إنكار ما جرى لليهود لم تراوح مرابطها الفكرية والأصولية.

ليست النقطة في هذا الاعتراف الإسلامي (ونقصد أصواتاً إسلامية واسعة)، تصحيح صورة العلاقة باليهود (وإلا لو كان الأمر كذلك لرأينا استحقاقات كبرى «يجب» أنْ تستتبع هذا الاعتراف)، بل هي مجرد فرقعات تحاكي عمقاً مشرقياً في عدائه الغرب، وبالتالي الحداثة. فأنْ يوصي مفكر إسلامي شهير بكتاب باومان حالَ صدوره، وأنْ يترجم الى العربية (طبعاً بغرض ضدي يحاكي ضدية هولوكوستية مشرقية)، وأنْ يُحتفى به الآن، وأنْ يوصينا كتاب متعددون بالاستفادة منه في تفسير الداعشية إلخ… لهي أمثلة أخرى على ذلك الالتقاء الطبيعي، ولا نقول البيولوجي، بين «حُجاج غربيين» يعشقون الحجّ إلى أساطير الشرق والطلاسم، وبين «حُجاج شرقيين» إسلاميين يمقتون بعمقهم أصلاً المسيحية واليهودية ولا يصورون الحداثة الغربية إلا على أنها غطاء لهاتين الديانتين.

ربما من المفيد هنا، تذكر مثال على هذا النمط من التقاء الحجاج: السياق الذي كتب به هارتمان رسالته يقارب سياق التقاء صوتين، أحدهما شرقي إسلاموي كمحمد إقبال، والآخر غربي اشتهر بكونه نبي الإلحاد الغربي، أي نيتشه. لكن في الواقع، لم يكن التقاء إقبال (وهو أحد الأعمدة للحركات الإسلامية الهندية والمصرية) وإعجابه الكبير بنيتشه إلا لأنّ هذا الأخير تلوّنت يداه بلون أحمر من دم المسيحية وبنى تماثيل بيته وفقاً لأسس الإسلام، كما عبر إقبال في أحد كتبه. ليس في هذا عجب! لأنّ نيتشه تلطخت يداه بدماء المسيحية، فهذا ما شكل سبباً كبيراً، من بين أسباب أخرى، لكي يُعجب به أصوليّ، على رغم أنف كل الإلحاد النيتشوي!

الأمر، للأسف، تعدى الاحتفاء بعمل باومان إلى دعوة كثر لتبنيه بغيةَ تفسير المثال الهولوكوستي الداعشي. والحال، أنّ عدم الدقة التاريخية هنا تقع أصلاً في عمل باومان نفسه (لا يمكن لمقال هنا أنْ يجيب عنها)، هذا فضلاً عن أنه لا يمكن مطالبة شعوبٍ مشرقية بأنْ تُدين الحداثة وهي لم تخبرها أصلاً. من هنا ضرورة فهم هذا العمل ضمن «سياقه الفكري» الواسع، الذي خرج منه قبل أنْ نكيل له المدائح على الطريقة العربية فقط لأنه حاكى غريزة الطعن بالغرب، وهي الغريزة الهيجانية التي ما زالت مسيطرة على عمق الشارع المشرقي. ليس من الدقيق على الإطلاق ذاك الربط الواضح بين الداعشية المشرقية والنتائج غير التاريخية التي توصل إليها باومان.

ومن دون شك، لا نقصد بالسياق الفكري هنا التيار اليهودي الذي خرج من ألمانيا قبل الحرب العالمية الثانية وأثناءها، وشكل شبه فضاء فكري في إدانة ألمانيا النازية والقومية. المسألة هنا أبعد من مثل هذه النظرة: ما نقصده بالضبط، ذلك الفضاء الما بعدي الذي تأسس من أصوات ثقافية غربية وغيرها، وقامت ثيماته الأساسية على النزعة الضدية لفضاء الحداثة والغرب، الأمر الذي شكل، وما زال، إغراءً للأصوات الأصولية المشرقية. وهذا فضاء كان أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين، في ألمانيا تحديداً، ما شكل في الواقع الخلفية الفكرية الكبرى لما سيأتي بعد: الهولوكوست.

تفسير الهولوكوست المشرقي بالاستناد الى باومان، يعني الاستمرار بذهنية الهولوكوست الأصولية، يعني الاستمرار بالإنكار على الحداثة من غير تذوّق طعمها، يعني الاستمرار في العلاقة المتوترة مع الغرب، وبالتالي المراوحة بملاعب الدم المشرقية من خلال أبطالها الإسلامويين ومن يغطّيها فكرياً، سواء كانوا حجاجاً شرقيين أم حجاجاً غربيين إلى الشرق.

* كاتب سوري

الحياة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى