صفحات سورية

هي شآم أحب بلاد العرب إلى قلبي

 


محمود جلبوط

عتب العديد من أصدقائي في سوريا علي أني قد تحدثت وكتبت العديد من المقالات والبيانات في الانتفاضة المصرية بينما أقللت عندما انطلقت شقيقتها السورية , ويلاحظون أني حتى بما كتبت كنت حذرا وحظرا , هذا صحيح , وللأسف أن ظروف عملي لا توفر لي الكثير من الوقت للإسهاب: أولا في الإكثار في تناول ما يجري , وثانيا في شرح الأسباب والفوارق بين الانتفاضتين , هذا إلى جانب أني أعترف بأن الحديث أو الكتابة في الشؤون السورية يثير دائما في داخلي الكثير من الشجون الشخصية تثير دائما عجب إخوتي وأفراد عائلتي وكثيرا من أبناء تابعيتي الفلسطينية على اعتبار أنها تتناقض من وجهة نظرهم مع واقع ما سببته سوريا لي من آلام على المستوى الشخصي نفسيا وجسديا , فهم بكل بساطة يحمّلون شآم حبيبتي ما ألمّ بي من فشل تجربة زواجي السابقة وما تعرضت له على أيد سلطاتها الأمنية ويكررون علي أسألتهم الثقيلة : أليست هي التي سرقت منك أجمل سنوات العمر وكانت سببا فيما تعانيه من مشاكل صحية مزمنة؟ ألم تخرب حياتك العائلية السابقة وسرقت منك فلذات أكبادك؟

يطلب مني إخوتي وأفراد عائلتي بسبب ما جرّه الماضي من مآس شخصية ( ولا أتصور أني الشخص الوحيد الذي يطلب منه عائلته ذلك!!) ألا أتناول الشأن السياسي السوري الداخلي بالنقد في كتاباتي لألا أسبب لي ولهم إحراجات أمنية , فيكفي ما طالني وطالهم , هم يحمّلون ما حصدته من نشاطي السياسي في أطرها الحزبية والسياسية جرائر ما أعانيه شخصيا وجرائر قلة اللقاء والحياة معي , فهم كما يدعون لم يعاشروني بما يكفي بل لا يكاد أولادهم يعرفوني من طول ما قضيت في السجون و المنافى .

يعجز أحبائي أفراد عائلتي عن إدراك ما فعل بي هوى بلاد الفل والورد الجوري والياسمين وغناج الليل والبحر , بل لا أشك لحظة بأنهم يحملون بين جوارحهم نحوها نفس مشاعري وأكثر ولكنه الحب لي والخوف علي .

أليست شآم مسقط رأسنا ومرتع طفولتنا ومراهقتنا؟ أليس فيها انتصبت قامتنا عندما بلغنا من العمر سنتنا الأولى وعلى أرضها كانت خطوتنا الأولى؟ أليست هي ذاكرتنا الجغرافية والجمعية والشخصية؟ ولا أجد ضيرا من ذلك مادامت لا تؤثر على ولائنا لفلسطين بلاد الأجداد والجزء العزيز على على قلبنا من هذا الوطن العربي الكبير.

لقد تهجأت وطنيتي الأولى تحت سماء شآمي الحبيبة , وعندما انخرطت في العمل الفدائي صبيا زرت أكثر معسكرات الفدائيين للتدريب على القتال المنتشرة على أراضيها هي : في حمورية وعين الصاحب ومعلولة وحوران , هذا قبل أن أنخرط في أحد أحزابها لأكمل مسيرتي السياسية ونشاطي في الشأن العام وممارسة هويتي الوطنية . تعلمت في مدارسها , وحملت شهادتي الجامعية من جامعاتها ومعاهدها , عملت في مطاعمها وملاهيها ومعاملها ومشافيها ومصفاة بنياسها وساهمت في بناء الكثير من شوارعها ومنازلها ومشاريعها . سحت في أغلب مدنها وتطهرت في مياه بحرها المالحة وسبحت في أنهارها , كونت صداقات تتسع رقعتها الجغرافية وتداولت شرب القهوة والشاي والمتة وتبادلت أنخاب العرق البلدي مع رفاقي وأصدقائي في أغلب قراها ومدنها الساحلية والداخلية والشمالية والجنوبية حتى بات لي في كل محافظة من محافظاتها عشيقة , أنجبت ثلاث بنيات ساحرات من زوجة ساحلية سابقة , وانتثر في أركان وجدران العديد من زنازين ومهاجع مراكز توقيفها ومعتقلاتها سنوات من عمري عديدة كانت الأعز والأغلى , هناك الكثير والكثير مما يدفعني دفعا لأن أهيم بها .

رحم الله والدي كان قد غضب مني حرجا عندما رفضت أن أمر من تحت صورة حائطية ضخمة قد علّقها على مدخل منزل العائلة للرئيس السوري السابق المرحوم حافظ الأسد ليلة الإفراج عني من المعتقل ليمتص سخط عناصر الأمن الذين كانوا يراقبون احتفاء الناس بي واحتفالهم بالإفراج عني في شارع منزلنا قلت له : اعذرني يا أبي لا أستطيع أن أمر من تحت صورة من أهدر سنوات شبابي في معتقلاته . مات والدي عاتبا أني أحببت شآمي أكثر من بلدي فلسطين , قال لي مرارا : أرجوك يا بني لا تلوّع قلبي عليك ما نحن إلا ضيوفا على هذه البلاد وكتّر الله خيرهم أن استقبلونا بعد تشردنا من بلادنا إثر حرب النكبة , عندما لجأنا إلى أراضيهم ساعدونا وسمحوا لنا بالسكن والتعليم والعمل وصرنا سواسية مع معهم , كان ينزعج مني كثيرا عندما كنت أجيبه أني ما شعرت يوما كعربي نحوها ولا نحو سواها من البلاد العربية الأخرى سوى أنها بلدي وأني مواطن لي كامل الحقوق عليها وفيها كما علي واجبات نحوها وأنا ألبيه من خلال سعيي أن تكون أكثر قوة ومناعة وأن تنتشر في جوانبها الحرية لتصبح أكثر جمالا , ولا أشعر يا أبي أني ضيفا لا فيها ولا في أي من بلاد العرب الأخرى . يذكرني هذا الحديث كيف كان الجلادون يخصوني بسبب تابعيتي الفلسطينية بدولاب زيادة أو حفلة تعذيب زيادة عما كنت أشترك به مع أقراني من رفاقي الآخرين(يحضرني هنا مقطع لقصيدة من قصائد مظفر النواب عندما يقول واصفا عناصر الأمن الدولية : يعلّمون كلابهم أن تشتم رائحة العربي من غير العربي والفلسطيني من غير الفلسطيني) , عندما كان يدور نقاشا بيني وبين المحققين في مراكز التحقيق كانوا يعبرون عن غضبهم مني كيف سمحت لنفسي أن أتدخل في شؤونهم الداخلية , ويذكرني هذا الحديث أيضا بصديقي العزيز الشامي الأصيل أبو الفهد عندما قرر وقت ما كان ملاحقا من الأجهزة الأمنية السورية التطوع بالعمل الفدائي ليقاتل من أجل لبنان وفلسطين مرسلا لي مع أهلي أثناء زيارتهم لي في المعتقل تحيته وقوله أنه تطوع في العمل الفدائي ليعمد بدمه صداقتنا وعروبتنا المشتركة كما عمدتها أنا سابقا والآن في المعتقلات السورية , فألف رحمة لوالدي وألف تحية لإخوتي وأفراد عائلتي ولأصدقائي ولأبو الفهد في هذه الأوقات العصيبة التي تمر على سوريا التي على أرضها ولدت وعشقت وتعلمت وعملت وذقت حلوها ومرّها وأتمنى أن يحضن جثتي حين أموت ترابها .

إن ما يجري اليوم في شآمي يثقل عليّ الأيام في نومي وأخاف إن وطئ قلمي صفحتها الحاضرة أن أثقل على أحباء يسكنون بين جوانحها .

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى