صفحات الثقافة

والشعراء يتبعهم.. الفسابكة

 

روجيه عوطة

مما لا شك فيه أن الحضور الإفتراضي في “الفايسبوك” هو حضور شعري. إذ يستقيم في حدود التواصل بين الصور، وترتيب العلاقات بينها. كما يتألف هذا الحضور من تمثلات عناصره المكبوتة في الواقع، بحيث يتفلت المكان من إحداثياته الضرورية، حتى يصبح لا-مكان، والتفلت نفسه، ينسحب على الزمن، المختصر في لحظة خاطفة ومؤثرة على السواء. فتظهر شعرية “الفايسبوك” في التأليف الصوري أولاً، وفي  التركيب اللا-مكاني ثانياً، وفي الافتراض الزمني ثالثاً. وهذه النواحي الثلاث تميز القصيدة الحديثة، التي تنحو إلى التأليف الاستعاراتي  أكثر من التعيين الموسيقي، وإلى الانفتاح الدلالي أكثر من التقييد اللغوي، وإلى الوقت المفترض أكثر من التأبيد الزمني.

وقد يكون التقاطع بين الشعر، من جهة قصيدته، و”الفايسبوك”، من جهة الحضور داخله، تلاقياً تاريخياً أيضاً. فالطرفان ناتجان عن انفجارين حداثويين، الأول لغوي، على إثره، تبدل قاموس النصوص الشعرية ومعانيه، والثاني، تكنولوجي، أطاح بأدوات التواصل التقليدي، وابتكر تقنيات افتراضية جديدة، أتاحت الاتصال والتفاعل بالصورة والصوت. ومثلما كانت القصيدة الحديثة، واحدة من منجزات الإنفجار اللغوي، كان “الفايسبوك” واحد من ولائد الإنفجار التكنولوجي. بالتالي، من الممكن القول أن تصنيع الماكينة الافتراضية قد بدأ تاريخياً في الفضاء الشعري، قبل أن يكتمل في الفضاء التقني. والاكتمال هنا، لا يعني الإتمام، بل استكمال الناقص، والمفترض على الدوام، فالشعر يبقى ناقصاً مهما بلغت دلالاته، و”الفايسبوك” يظل عالماً مفترضاً، رغم واقعيته التفاعلية.

استعارة مضاعفة

إلا أن التشابه بين الإثنين، يتكشف بوضوح في حال دخول المرء إلى “الفايسبوك”، وكتابة الشعر في فضائه. فيتلاقى الإفتراض بالإبداع في ذات واحدةٍ، تستخدم المكان “الفايسبوكي” كدفتر لعباراتها الشعرية. بالتالي، يحصل “الصديق” على هوية ابداعية، يتفاعل مع الآخرين انطلاقاً منها. إذ يتواصل المستخدم مع “أصدقائه” بوصفه  شاعراً، يكتب قصيدته في خانة “الستاتوس”، منتظراً الـ”إعجاب” بها، والـ”تعليق” عليها. من هنا، تتبلور الذات الشعرية عبر التفاعل مع الغير-القارئ، الذي سرعان ما تُختصر قراءته بآليات الموقع الأزرق.

نتيجة التشابك بين الابداع والافتراض، تظهر الكتابة الشعرية على “فايسبوك” كما لو أنها استعارة مضاعفة، تتراكم الصور في فضائها، قبل أن تزيلها القراءة بـ”اللايك” و”التعليق”. وقد تكون هذه الإزالة هي الفعل الفايسبوكي الأخير، الذي يسبقه التواصل  بين المستخدم-الشاعر والأصدقاء-القراء، والتمرن على كتابة القصائد.

تقترن القصيدة “الفايسبوكية”  في أغلب الأحيان بالآليات الإفتراضية في “كتاب الوجه”، وتفقد ذات شاعرها، لتصبح غيرية، ومقيدة بـ”لايكات” الآخر وتعليقاته. إذ سرعان ما يمحى الفارق بين ابداع الشعر وافتراضه. ورغم ذلك، تختلف الكتابة الشعرية في الموقع الأزرق بين مستخدم وآخر، بحيث يحدد كل “ًصديق” مساره الشعري، وتغيراته الحاصلة قبل انتهاء المفعول الشعري في “الفايسبوك”، وابتداء المفعول “الفايسبوكي” في القصيدة. لذا، من الضروري الوقوف عند تجارب شعرية مختلفة في الفضاء الأزرق، وإلقاء الضوء على مواقع “الأصدقاء-الشعراء” في ماكينة الصور والاستعارات.

تبلور متواصل

بالنسبة للـ”الصديقة-الشاعرة” مريم شريف، فقد ساعدها “الفايسبوك” على انتشار قصائدها على جدرانه، إذ عرَف الآخرين على تجربتها، كما أتاح لها أن تبلور  ذاتها الشعرية باستمرار، خصوصاً أنه “عالم متطلب، ويصر على التواجد اليومي”. فهي لم تكن تكتب القصائد يومياً لولا “الفايسبوك”، و”حالة الرضى التي يحققها لي التفاعل مع الأصدقاء والقراء” في فضائه.

غير أن شريف لا تكتب من أجل النشر على “الفايسبوك”، بل أنها تدون قصائدها على الأوراق قبل أن تختار بعضها لتنشرها في “بوستات”، كما تستطيع أن تقدر عدد “اللايكات” التي قد تحصل عليها كل قصيدة، وذلك بحسب نوع النص الشعري ومضمونه.

ورغم ذلك، تحذف الشاعرة بعض بوستاتها، أو بالأحرى قصائدها، ” ليس لقلة اللايكات  كما أحبّ أن أعتقد، بل لعدم ملاءمتها لهذا العالم السريع او لتناقضها أحياناً مع الوضع العام، خصوصاً أن لا أحد في هذا العالم يستطيع أن يدير ظهره أو  ينفض يديه  مما يحدث في سوريا مثلاً”.

كتاب من ضوء

لا يميز “الصديق-الشاعر” غسان حلبي بين “البوست” والقصيدة، فهو يكتب للتفاعل مع الآخر المجهول على “الفايسبوك”. إذ لم يعمد إلى إضافة الكثير من أصدقائه الواقعيين كي يحافظ على المواجهة الحقيقة مع الغير-القارئ. فلائحة أصدقائه ” تضمّ عدداً وفيراً من المثّقفين والكتّاب في العالم العربي، والعديد منهم يتفاعل ويشارك. فوجودهم ومشاركتهم يضفي بالتأكيد على هذا الفضاء شعوراً بالمسؤوليّة”.

بالنسبة له، “الفايسبوك” كتاب من ضوء، ينشر داخله القصائد، التي تُحفظ ولا تنمحي. فالذاكرة الشعرية محفوظة في الموقع الأزرق، حيث يبدو حلبي كما لو أنه “في ظل الأشجار” أكثر من كونه ظاهراً على العيان، فتتألف ذاته الشعرية بعيداً من الواقع، وبالقرب من المجهول.

ذاتية مكتفية بـ”لايكها”

يرسخ “الفايسبوك” ذاتية “الصديق-الشاعر” داوود بهجت سعيد، وذلك لسببين:”ثقتي بما أكتب، وعدد المتابعين لي في حسابي الأزرق”. تتعلق الكتابة، بالنسبة لسعيد، بالظروف اليومية، إذ يمزج في قصيدته قضايا متنوعة، من أجل محاكاة الكثير من أصدقائه وحالاتهم. كما أنه قد يعمد إلى حذف بعض قصائده بسبب عدم حصولها على “لايكات” كافية، فـ”من المفترض أن ينال البوست إعجاب ما لا يقل عن عشرة أشخاص أي ما يعادل نسبة 1% من الأصدقاء المتواجدين على حسابي الشخصي”.

لا يفصل سعيد بين كتابته الشعرية وعلاقته بـ”الفايسبوك”، إذ يستخدم بمختلف وظائفه، الكتابية وغير الكتابية، كالنشر وعرض الصور، وكسب الأصدقاء، ومتابعة الشخصيات المميزة، وللإطلاع على المصادر الثقافية والمعرفية إلخ. وفي كل تلك الاستخدامات، يكتب سعيد نصه “الفايسبوكي”، الذي مهما تنوع شكله ومضمونه، يظل محافظاً على شعريته الزرقاء.

صالون التعويض

ينشر “الصديق-الشاعر” عادل المتني محاولاته الهذيانية على “الفايسبوك”، متبادلاً الخبرة الكتابية مع أصدقائه الشعراء والهواة. وهذا لا يعني أن خصوصيته الشعرية غائبة، بل أنه يتعامل مع شعره الأزرق بذاتية عفويةٍ، على ضوئها، يقيّم قصيدته المنشورة، وليس بالاستناد إلى عدد “اللايكات”.

والأخيرة، بالنسبة له، ترتبط بالدبلوماسية الاجتماعية على “الفايسبوك”، ولا تُعتبر مقياسا لتقييم القصيدة، لذا، لم يعمد يوماً على حذف “بوست” شعري بسبب عدم حصوله على الاعجاب الكافي. يجد المتني أن الموقع الأزرق “صالون ثقافي, وبهذا المعنى يكون التواصل الاجتماعي الالكتروني نوعا من التعويض البديل عن انفراط عقد المجتمع”.

فراغ “البوست”

أما “الصديق-الشاعر” محمد سعيد، فقد عمد إلى حزف القصائد التي بقيّت بلا “لايك”، خصوصاً أن القصائد “الفايسبوكية”، بالنسبة له، “وليدة اللحظة التي تُكتب فيها، وبعد حالة الاستفزاز التي يولدها الفراغ الموجود في خانة البوست”.

لا ينشر سعيد قصائده ورقياً، وذلك لأن كلفة الطباعة والنشر غالية، ولأن “المطبوعات الأدبية تحكمها المزاجية حينا والشللية حينا آخر لذلك أنا سعيد حاليا بالنشر على الفايسبوك”. لقد  كان موقع الأزرق “بالنسبة لواحدٍ مثلي يعيش في الريف الحلبي بعيداً عن صخب المدن وضجيجها الثقافي، كان بمثابة نافذة أطل منها على العالم، ومن خلال هذه الإطلالة تمكنت من التواصل مع الكثيرين من الشعراء الذين أحبهم وتعرفت على تجارب الكثير من الأصدقاء”.

سوريالية العام

في الخلاصة، تتألف القصيدة “الفايسبوكية” نتيجة التفاعل بين ذات المستخدم-الشاعر والغير-القارئ، و غالباً ما تتحكم بها المعايير الإفتراضية، ماحيةً الفارق بين الخاص الابداعي والعام الافتراضي. فالشعر على الموقع الأزرق يبدو كأن الجميع يشارك في كتابته، إذ يشبه إلى حد بعيد المفهوم السوريالي للشعر، الذي مهد له الشاعر الفرنسي لوتريامون. بمعنى آخر، بإمكان كل شخص أن يصبح شاعراً عندما ينتشل من أعماقه كل تلك الصور المتكدسة والصرخات المكتومة، ويعالجها لغوياً مع الآخرين. هؤلاء الذين، على “الفايسبوك”، يسرعون في التفاعل الإفتراضي مع نص “صديقهم” الشعري، كأنهم يكتبونه من جديد، أو بالأحرى يكتبونه وحدهم، كما لو أن الشعر “الفايسبوكي” يدونه الجميع، ولا يؤلفه أحد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى