صفحات الثقافةعزيز تبسي

وامعتصماه.. وماذا عن الآخرين؟: عزيز تبسي

لا نعلم علم اليقين كيف وصل النداء إلى الخليفة، أي خليفة الله على المسكونة، المشغول بخموره وجواريه وغلمانه، وإحصاء حنطة الفلاحين وعناقيد عنبهم وحفنات زيتونهم وخوابي زيتهم، وأنفاس الجوعى والمظلومين وأبناء السبيل. وصل على أية حال. وما من دليل على أن المرأة المظلومة قد لفظته بعربية ناصعة، في مكان ليس للعرب فيه ناس وأرض: وامعتصماه!!

رغم ذلك لبّاه، بأسرع مما يعد له خَدمه عصائر الفاكهة، المبتردة بكسور ثلج الجبال التي تُحمل لقصره من شمال خلافته. وتقدم خلفه جيشه العرمرم. ومن غير المفيد الآن، ونحن نسترد الواقعة، أن نسأل ترى هل بقيت المرأة تنتظر وصول النجدة، متكورة على نفسها، منزوية على قارعة الطريق، مهدودة بنزيف كرامتها الذبيحة، وهل أرسل الفاتح من يطمئن عليها بعد انتهاء المعركة وجلاء نتائجها، وما كان اسمها الأليف الدافئ المختفي خلف هذا الاسم الشائع: امرأة.

حافظت هذه الرواية على فرادتها وغرابتها في آن. ورغم شدة الظلم والاضطهاد والتهميش، وامتدادهم عبر الزمن الطويل للاستبداد الآسيوي، عجز الاحتمال التاريخي وما يتبعه من اندفاع عاطفي مثقل بالحماسة والخيال، عن تكرارها.

لم تتوقف هتافات ونداءات الجماعات المتروكة على الهوامش ومنعطفاتها تحفز النخوة والشهامة، واستمرت، كأنها إصرار مؤكد على الاحتماء بقوة السلطة كممثل افتراضي للعامة ولقيمها العمومية، واستنخاء متواصل وتنضيد بهيّ لدثار العدالة المخنوقة في أقبيتها، المبددة في أرباضها.

ليبقى السؤال مطروحاً على المؤرخ المخادع والسلالات المنبثقة عنه: ترى لماذا يلتفت الخليفة إلى صرخة امرأة مظلومة تبعد عنه آلاف الأميال، ولا يسمع صرخات الظلم تحت نوافذ قصره وأطراف حديقته؟ لا يمكن إحالة القضية إلى أنماط من اختيارية الحواس وتفضيلاتها، ولا إلى تراجع كفاءة جواسيسه وعيونه وعسسه، ربما لعجز الحقيقة العزلاء عن حماية نفسها من سلطة مسلحة، والاندفاع لتسطير مدوناتها وسرديتها الخاصة.

***

ما إن تنبلج أنوار الفجر، حتى تخرج السيدة إلى شرفة بيتها، تسقي نباتاتها بماء رقيق، تتيقن من ثبات البراعم على أعناق أغصانها، تثبت كرسيها وتجلس جامعة كفيها فوق ثوبها الطويل الداكن. لا أفق لتنظر إليه وتستشرف الآتي من بعيد وتترقب عبوره شوارع الآمال وجاداتهم، مشفوعاً بأحمال من الأمنيات الدهرية المتراكمة. العمارات المتلاصقة تغلق عليها الممكنات وتتركها أسيرة لغتها المتقشفة، تأخذ نفساً عميقاً كأنها خارجة لتوها من حوض مائي عميق. مقتنعة بميراث ثقيل من الرغبات، بأنه يكفي لفظ الاسم ليحضر حامله كله، أو بعضه، أنفاسه، ابتسامته، ظله الأليف متحفزاً للتجول، هانئاً في دسكرة الروح.

– يا حسان!!

أي، أين أنت يا حسان، ولما لا تلبي النداء في الحال وتعود، لتقف تحت الشرفة بطولك الفارع ووجهك الناضح بقطرات تعبه، أو تقرع جبينك بصدر الباب، لنهرع إليك حفاة وبألبستنا الخفيفة وشعورنا المرسلة. حينها نخمن أن كفيك مثقلتان بأكياس محشوة بالخبز والخضار والفاكهة، نقترب منك لنجردك إياها، وهي فرصة لاستنشاق رائحة عرقك، ورؤية خيوط أملاحه على قميصك.

– يا حسان!!

أي، أننا بلا معيل في غيابك، الصداقات التي تركتها بعدك تذوب كالملح، والأهل يعظون بضرورة الكف عن هذه «البهدلة»، ويعنون بذلك الجلوس الطويل في الشرفة وإرسال كلام الأشواق بصوت عال.

حسان لا يعود والمرأة في مكانها، لا تكف عن النداء باسمه، تتذكر لون القميص الزيتوني الذي ارتداه على عجل، وتسريحة شعره المسبلة بماء شفيف رفعه بباطن راحته، وعبارته الأخيرة «لن أتأخر، وإن تأخرت قليلاً، لا ينشغل بالكنّ، سأعود».

غاب منذ زمن بعيد سعاة البريد، الذين كانوا يتجولون فوق دراجاتهم الهوائية، محدقين في أعماق حقائبهم الجلدية لاستخراج فهرست الألم والفرح والمباغتات، يعبرون الشارع بعجالة، ويستدلون على أصحاب الرسائل من عمال البقالات والجزارين، قبل أن يصعدوا أدراج العمارات، ليعطوها رسالة مغفلة اسم المرسل، تنبئها بما حدث وأغُلق عليه بكثيب رمل، وغراس نباتات رعوية في فلوات البادية.

ثقيلة أنفاس نراجيل الحياة، تنفخ الصدور بدخان كثيف، بأمل أن يسمح خروجه المتدفق من الأنف أو من الفم ذاته… لكن لا دخان يخرج منها، محبوس في تكور اللحم الوردي، كأنه إيذان دهري بقابلية تحول الأبدان إلى مناطيد، ترفع أصحابها إلى علٍ، وتتركهم خلسة يتهاوون، كطيور ممزقة بطلقات الصيادين القساة.

حسان لن يعود. لا بإرادة الامتناع عن تلبية نداءات أمه الرابضة دهراً على الشرفة، ولا بتأثير قوة عمياء صمّت أذنيه، ولا لاندثار أشواقه، التي طالما ارتجت كزلزلة، ربما لأنه ما من أحد يوقظه من نومته الطويلة المتعبة، مثخناً بأحافير لا تندمل جروحها، عاجزاً عن الخروج من حفرة، ثقيلة أحجارها، رطب ترابها، عميق جوفها..

لكنه الصباح المكرور مرة أخرى ودائماً. يرتفع صوت أقل شيخوخة، وقبل غسل وريقات النباتات المنزلية المركونة على أطراف الشرفة، وقبل تفقد سرب الحمام، والجلوس على الكرسي، صعد النداء مستعجلاً مشفوعاً بأمل مؤنس.

– يا يوسف!!

أي، أين أنت يا يوسف، هديل سرب حمامك، جدارياتك تستنبط المعنى في حركية الثورة وترثي قتلاها المحمولين فوق المحفات، ياقة القميص المنتظرة بيأس حجب الأعناق الطويلة، تفلت سلسلة الحديد عن تقييد قبضتي الجبل…

– يا يوسف!!

***

لتدخل يوماً امتحان الانتظار!!

كأن تخطئ بك الظنون وتقف على بوابة محطة قطار مهجورة، وهي سانحة لتذكر التاريخ وصليل دواليب عرباته، تجازف بسحج الحديد على الحديد، أو تنتظر الرد العاجل على رسالة بشفاعة تحررية، كان أجدادك قد وضعوها في قارورة ورموها في البحر قبل قرون، أو تتهيأ لخروج الأبطال الشعبيين من الكتب أو المصابيح النحاسية ليسألوك عن أوجاعك، قبل أن يحنوا قاماتهم العالية ويطلبوا الإذن لاستعجال تلبية مطالبك السهلة، برفع سقف غرفة التوقيف وإزالة أسوارها نهائياً، لتتمكن أخيراً من الوقوف بقامتك الفارعة، والتجول في جغرافيا الأشواق.

أو تنتظر أهلك أمام بوابات أسياخ الحديد الصلب، يعبرون خطوط طول البلاد، لتقول لهم ما يجب أن يقولوه لك: تأخرتم طويلاً، كأنكم نسيتموني!!

شعوب تقاتل الانتظار بالانتظار، والموت بالموت، كما قاتل أجدادهم الأعداء بالأعداء، الذئاب بالكلاب، الجرذان بالأفاعي، الليل الطويل بالنهار الأطول…. لا بغايات جليلة كأن يدخلوا التاريخ من بوابته الواسعة، بل لكي لا يخرجوا منه، ويولوا الأدبار عراة أو بألبستهم الداخلية، أو ليقتلوا على البوابة ذاتها.

* كاتب من سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى