صفحات المستقبلمحمد زهير كردية

وقائع سورية: ذاكرة كأنها الخيال

حمص ليست للبيع.

محمد زهير كردية

عندما صدحت الحناجر ودوّت في أسواق دمشق القديمة يوم الثلثاء الواقع فيه 15 آذار 2011، كنت من بين العشرات الذين هتفوا للحرية ومكافحة الفساد، والإفراج عن المعتقلين. كرادار يتعقب ما حوله، أدير رأسي يميناً ويساراً، وأرى العشرات أيضاً من المتفرجين المذهولين يفوقوننا عدداً، ومنهم قلةٌ قليلة ممن هتف معنا من دون سبق إصرار أو تعمُّد، ربما اندفاعاً إنسانياً أو حساً وطنياً أو ربما فضولاً، وهم لا يأبهون للعواقب التي ستلحق بهم، ويرمون خلفهم، “كما نحن”، كل أشكال الذل والقهر والكبت والاستبداد، من دون أي عودة الى الوراء. من هنا كانت البداية.

فرّقنا بائعو الدخان وسائقو التاكسي حاملين العصي، بالاشتراك مع بعض عناصر حفظ النظام بلباسهم الرسمي الأنيق. عدت الى المنزل مسرعاً، كأنني زرعت عبوةً ناسفة لقتل الأبرياء في أحد شوارع دمشق. بعد ساعات، وبعدما كان ما جرى هو الخبر الأول والأهم في وسائل الاعلام، ذهبت للقاء بعض الأصدقاء للتقييم والعمل على خطوات جديدة. كانت النقطة الأهمّ عدم وجود تصوير واضح ومميز للحادثة، فقررت أن أعمل على تصوير وتوثيق كل ما أستطيع حضوره من مجريات. هكذا بدأت.

عدت الى مدينتي سَلمية، وبدأت العمل فيها كمصوّر للتظاهرات التي حيّرت النظام ووضعته على المحكّ، لِما تغنّت به من شعارات سلمية وسياسية محقة ومشروعة. ولأن هذه المدينة ذات طابع ديني أقلوي، ولا وجود للتشدد فيها، لم يكن النظام يستطيع قمعها أو أن يختلق عذراً لقمعها، فاقتصر على ارسال مندسّين لزرع الفتن بين المشاركين في التظاهرات، وأيضاً لتجنيد مخبرين يُعدّون التقارير المفصلة عن المتظاهرين والناشطين. ثمّ كانت حملة اعتقالات واسعة وهمجية اضطرتني أنا ومجموعة من الاصدقاء الى التخفي. بالترافق مع ما كان يحدث في مدينة سَلمية، كان النظام قد وجد عذراً لباقي المدن والقرى الأخرى، بأن هناك مجموعات متشددة ومتطرفة تحمل السلاح وتقتل المدنيين وتخرب البلد، فضربها بكل أنواع الأسلحة. هذا حضّني أكثر على الذهاب الى هذه المدن لمتابعة التصوير والتوثيق. بدأت من مدينة حمص التي اندلعت فيها المعارك المسلحة لأسباب كثيرة ومعقدة. مفتعل هذه الأسباب بالطبع هو نظام الأسد المتوحش الذي أجبر كثيراً من الأشخاص على حمل السلاح مكرهين للدفاع عن أنفسهم وعن أُسَرهم، وذلك ليكون لديه المبرر الذي سيقدمه إلى المجتمع الدولي وهيئات الأمم المتحدة. من أبرز الأحداث وأكثرها غموضاً في حمص، “مجزرة الساعة” التي حصلت في ساحة الساعة وسط المدينة، أثناء اعتصام لألوف من سكانها وقلة من المدن الأخرى، وجميعهم كانوا من العُزّل لا يحملون حتى السكاكين. فجأةً، ومن دون إنذار، أمطرتهم بنادق الغدر بالرصاص من كل الاتجاهات، فتدفقت أنهار الدماء بين الجثث المتراكمة التي شكّلت سداً منيعاً حولت هذه الأنهار بحيرة حمراء. حتى هذه اللحظة لم يستطع أحد أن يحصي عدد الشهداء والجرحى أو أن يعلم أين هم الآن، لأن الساحة كانت في الصباح المبكر قد عادت إلى ما كانت عليه قبل الجريمة، ولم يبق سوى الطائر المقدس، الروح الانسانية، تغرد في سماء الساحة.

بعد المجزرة اتخذ سكان الأحياء في حمص قرار تحرير المناطق وتطهيرها من عناصر النظام، لتكون اعتصاماتهم أكثر أمناً ولا تتعرض للغدر. تم تحرير أحياء عدة، منها الخالدية والحميدية وباب عمرو وباب السباع ودير بعلبة وغيرها، فبات يصعب على النظام اقتحامها وارتكاب المجازر، مما جعله يقصفها بالمدافع والهاون وراجمات الصواريخ والدبابات وأيضاً البراميل، التي تقذف من الطائرات ليلاً ونهاراً بشكل عشوائي وممنهج. ذات يوم ذهبت الى الحميدية لتصوير ما خلّفته القذائف. كان المشهد أشبه برمانة منفرطة، إذ رأيت جدراناً مثقوبةً كالغربال، ومن بين هذه الثقوب روايات الشهداء وألحان صراخهم وتراتيل مناجاتهم أثناء القصف. نادراً ما رأيت سقف منزل لم تخترقه قذيفة أو لم يتهاو. الجادات والأزقة الضيقة والمرصوفة بالحجر خلت من عازفي العود والبزق، لتترك المكان لأكوام القمامة. عندما وصلت الى كنيسة أم الزنار بدا جامع الصحابي محمد بن مسلمة مجاوراً تماماً لها، وقد تشابكت الخطوط والألوان المسيحية والإسلامية في هذا المنظر. انسحرت حواسي اللادينية عندما شاهدت الصليب مجاوراً الهلال، وقد خَلت الجدران من الفسيفساء الاسلامية وتهاوت اللوحات التي تحمل أسماء الله الحسنى وأحاديث الرسول محمد، وتهاوت صور مريم العذراء والمسيح المصلوب. في السقف فتحة توصلك مباشرة الى عرش الله وتستطيع أن تتخيله عندما كان يشاهد تدمير أماكن عبادته، ورائحة البارود والركام والرطوبة تعبق في المكان بدل رائحة البخور والشموع. كانت غرفة الاعتراف تحفظ تاريخاً من الاعترافات دفنت في داخلها أيضاً، وغرفة تعليم القرآن والتجويد تنطلق منها أصوات التكبيرات التي تحدثوا عنها أثناء التظاهرات. أنهيت عملي في هذه المنطقة وانتقلت الى مكان آخر. المركز الثقافي في الخالدية كان مقراً للشبّيحة، وبعد معركة طويلة استطاع الثوار تحريره. عندما دخلت اليه كانت صور بشار الأسد ووالده حافظ الأسد القائد الخالد مرمية أرضاً. الحائط الكبير الذي تستند اليه خشبة المسرح مهدم بشكل كامل، وقد تحول الى شرفة تطل على دبابتين مدمرتين وعربة مدمرة هي الأخرى رُفع بجانبها علم الثورة. في استطاعتك أن تضع كرسياً وتحضر هذا المشهد بدلاً من حضور خطب أعوان البعث وأمسيات الشعراء المتصوفين بعبادة الأسد. انتقلت إلى مبنى الأمن الجنائي في البياضة الذي كان مركزا للشبّيحة ويعتلي سطحه القناصة الذين كانوا يشلّون حركة المدنيين والثوار إلى أن سيطر عليه هؤلاء، وقد دمر جزئياً. لفتني أن هذا المبنى كانت تحوطه الأبنية السكنية مما يجعل السكان دروعاً بشرية. هذه حال كل المباني التابعة للنظام وخصوصاً مباني أجهزة الأمن والمخابرات. هذا أمرٌ مدروس ومخطط له.

نويت الذهاب الى دمشق لأنجز بعض النشاطات السياسية وأصوّر ما أستطيعه، من نشاطات سلمية بعيدة عن القتل والدمار والعنف في حي الميدان وحي برزة. استعدت ثقتي أكثر وأكثر بالنشاط السلمي والمدني منذ 15 آذار، الى أن بدأت معركة تحرير دمشق من الداخل. ذات مساءٍ شتويٍّ، في أحد بيوت أصدقائي بين برزة وتشرين والقابون، كنت أشعر بالملل قليلاً والأسى كثيراً والإحباط جداً، رحت أعدّ قذائف المدافع التي تنطلق عشوائياً من مركز الشرطة العسكرية في اتجاه المباني والبساتين، من دون أي احداثيات أو أهداف محددة. كانت الساعة قد تجاوزت الثالثة فجراً، عندما تعالت صيحات لم أفهمها في البداية أو لم استطع تصديق ما سمعت: “تكبيييير الله أكبر”. ثم لعلع اطلاق النار بشكل غزير وعشوائي. فتحت صفحة الـ”فايسبوك” لأتحرى فلم أجد أي خبر وكأن لا أحد في هذه المنطقة يغطي ما يجري. تسللت الى سطح المبنى لأحاول رؤية ما يجري، فتعالت الصيحات من جديد. من جهة الشمال كانت الصيحات “تكبيييير الله أكبر” ومن جهة الجنوب أصوات “شبّيحة للأبد لأجل عيونك يا أسد”. بدأ الاشتباك بين الثوار والشبّيحة، واستمر إلى الساعة السادسة صباحاً حين حلقت طائرات الأسد لتمشيط المنطقة لكنها لم تستطع رؤية أحد من الثوار، فهرعت مسرعاً الى الـ”فايسبوك” لنشر هذه الأخبار المفرحة والمحزنة في الوقت نفسه.

جئنا من هاوية مظلمة ودخلنا في هاوية أكثر ظلمة. كان متنفسنا الوحيد وخليلنا الروحي والفكري أن الحرية هي الحلم المنشود. لكن ما يجري الآن هو الموت ألف ألف مرة في كل لحظة، والانتقال الى هاوية أكثر اتساعاً وظلمة، وحده المجهول من يرسمها.

في بداية الأمر غمرتني نشوة مجنونة، وعواطف مشوشة، وصرخات متوحشة، ثم صرتُ مع الأيام مشاركاً في دفن الاستبداد والطغيان، ومقتولاً لحظيّاً بآلام الواقع في سوريا.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى