صفحات الرأي

يمين ويسار: ثنائيّة فقيرة في عالم معقّد/ حازم صاغية

 

 

للمفاهيم، مثل أيّ شيء آخر، حياة. فهي تعيش وتموت أو تتحوّل. وثنائيّة “اليمين” و”اليسار” يسري عليها هذا المبدأ مثلما يسري على باقي المفاهيم. ولا نبالغ إذا قلنا إنّ التعامل معها اليوم كأنّها ثنائيّة خالدة، عابرة للعالم، يوقع في عدد من المشكلات النظريّة والعمليّة التي تبدأ بالتعريف نفسه، ولا تنتهي في العجز عن تفسير كمٍّ هائل من الأحداث والوقائع التي نعيش راهناً تحت وطأتها.

وهذا أكثر من “طبيعيّ” في ثنائيّة ولدت مع الثورة الفرنسيّة قبل أن تسبغ الماركسيّة عليها مضموناً اقتصاديّاً حاكماً. فإذا قلنا العكس، مُصرّين على ردّ العالم ونزاعاته إلى “يمين” و”يسار”، كنّا كمن يتطهّر من السياسة، بل من الواقع، لصالح اعتناق تأويل شبه دينيّ للكون وفاعليه ينقسم بموجبه إلى “خير” و”شرّ” (فيما يختار كلّ طرف ما يقصده بـ “الخير” و”الشرّ”).

بطبيعة الحال فإنّ هذه الأسطر لا تقترح ثنائيّات بديلة، لكنّها تقترح، في المقابل، أمرين: أحدهما أنّ رقعة تناقضاتنا أكبر وأغنى من أن تختصرها أيّة ثنائيّة، والثاني أنّ ثنائيّة اليمين واليسار تحديداً باتت لا تغطّي من تلك الرقعة إلاّ مساحة صغرى لا يجوز تلخيص التناقضات بها.

ففي “العالم الثالث”، حيث يدور النزاع الأكبر، وإن لم يكن الأوحد، بين سلطات تختزل مجتمعاتها وتصادرها، وشعوب وجماعات طالبة للحرّيّة والمساواة، يتساوى “يمينيّون” كموبوتو  سيسي سيكو و”يساريّون” كلوران كابيلا. ولسوف نحتاج إلى مجهر بالغ القوّة كي نميّز بين عبد الفتّاح اسماعيل وعلي عبد الله صالح. أمّا الزعماء “الوسطيّون” الذين عاشوا على التأرجح بين “يمين” و”يسار”، لا يعنيهم سوى ضمان سلطتهم وتوطيدها (من جمال عبد الناصر إلى حافظ الأسد ومن هواري بومدين إلى صدّام حسين) فموقعهم هذا هو نفسه برهان على هامشيّة تلك الثنائيّة العتيدة وما آلت إليه من استخدام ذرائعيّ سهل.

لقد باتت “مناهضة الإمبرياليّة”، بكافّة صيغها الشعبويّة من قوميّة ودينيّة، هي التي تحدّد الوجهة العريضة لسياسات وتوجّهات يكاد يستحيل ربطها بـ “يمين” أو “يسار”. وهذا ليس جديداً إلاّ على نحو جزئيّ جدّاً: فحتّى إبّان الحرب الباردة كانت العلاقة بالسوفيات (وفي حالات أقلّ كثيراً بالصينيّين) هي التي تنوب مناب الموقف الإيديولوجيّ والطبقيّ الصارم في وصف طرف ما باليساريّة. بيد أنّ شيوعيّة الاتّحاد السوفياتيّ ووجود أحزاب شيوعيّة قويّة نسبيّاً كانت توفّر لهذا التصنيف قوّةً انتهت صلاحيّتها بعد انهيار الاتّحاد السوفياتيّ وضمور أحزابه الشيوعيّة.

أمّا الأطراف التي تساير شروط المنظّمات الاقتصاديّة الدوليّة، فأغلب الظنّ أنّ قائمة طويلة من مُحدّداتها العصبيّة والأهليّة (الدينيّة، الطائفيّة، الإثنيّة الخ…) تسبق تحديدها بيمين ويسار. وإذ جاز لنا الاستشهاد بالتجربة اللبنانيّة، التي نقع على حالات تشبهها لا حصر لها، بدا التعامل مع “تيّار المستقبل”، مثلاً، بوصفه “يميناً” (أي أنّ أهل عكّار السنّة نيوليبراليّون!) لا يقلّ غباءً عن التعامل مع “حزب الله” أو “التيّار الوطنيّ الحرّ” بوصفهما “يساراً”. وهذا ما يعيد إلى الأذهان ذاك الوصف السقيم الذي اعتمده البعض إبّان الحرب الأهليّة حين صنّفوا المسلمين “يساريّين” والمسيحيّين “يمينيّين”. فهذه المفاهيم لا تقدّم أيّة خدمة جدّيّة لمعرفة الواقع الفعليّ.

بطبيعة الحال لا يلغي التأويل هذا أنّ القوى المذكورة أعلاه تعتمد سياسات اقتصاديّة بعينها (وهي جميعاً، في هذه الحدود، “يمينيّة”)، لكنّه يستبعد اعتماد هذه السياسات الاقتصاديّة كمصدر أوّل، أو حتّى كمصدر أساسيّ، في تعريفها وفي التعرّف إليها (وهذا قبل أن يتبنّى “حزب سيريزا” “اليساريّ” في اليونان سياسات اقتصاديّة “يمينيّة” يتصدّرها الخضوع لشروط المنظّمات الاقتصاديّة الدوليّة).

في المقابل، توفّر المجتمعات المتقدّمة لوحة تغاير اللوحة “العالمثالثيّة”، وإن تقاطعت معها جزئيّاً في بعض الأحيان والمنعطفات. فقد كشف استفتاء بريكزيت البريطانيّ ثمّ انتخاب دونالد ترامب لرئاسة الولايات المتّحدة عن صراع مُرّ داخل كتلة لا يزال يطيب للبعض وصفها بـ “اليسار”. فهناك القاعدة العمّاليّة التي تطلب تدخّل الحكومات في الاقتصاد وتتمسّك بضماناتها التي توفّرها دولة الرفاه، إلاّ أنّها تحمل بعض أكثر الأفكار شعبويّة وذكوريّة وقوميّة وكرهاً للغريب. وهناك، من ناحية أخرى، نُخب المدن ومتعلّموها ممّن انشدّوا إلى الاقتصاد المعولم العابر للدولة الوطنيّة والمصحوب بقيم تعدّديّة ومساواتيّة وكوزموبوليتيّة (وأوروبيّة في حالة بريطانيا). وهذا ما يتيح الكلام عن تناقض بين المحلّيّ والقوميّ من جهة والمدينيّ المعولم من جهة أخرى، تناقضٍ لا يقلّ راهنيّةً وتمثيليّة عن تناقض اليمين واليسار. أمّا الخلاف بين هذين التوجّهين فيطالان كلّ شيء تقريباً: من المناخ والبيئة إلى العمالة والهجرة إلى التربية الأبويّة والمساواة الجندريّة إلى السيادة الوطنيّة والتدخّل الخارجيّ (ويُلاحَظ عربيّاً أنّ ثمّة اختراقاً جزئيّاً حقّقه التوجّه الكونيّ في سائر المسائل إلاّ في مسألة التدخّل الخارجيّ حيث يستمرّ الولاء للسلف القوميّ الصالح).

والحال أنّنا منذ أيّار 68 الفرنسيّ بتنا نشهد بداية الانعطاف عن الثنائيّة الإيديولوجيّة القديمة. ففي ظلّ شعارات “يساريّة” بالغة التطرّف، شقّ الشبّان والشابّات الفرنسيّون طريقاً ليبراليّاً يناهض الأبويّة في نسختيها الشيوعيّة والديغوليّة، ويقدّم التحرّر كمعطى حياتيّ أعرض كثيراً من المطالبة بتحسين شروط العمل والأجور. وعلى رغم التعثّر الذي يسم محاولة الرئيس الحاليّ إيمانويل ماكرون في تعريفه لـ “الوسط” (وهو مفهوم صعب التعريف بسبب سلبيّته قياساً باليمين واليسار) يبقى أنّ أكثريّة فرنسيّة صوّتت لهذه الوسطيّة، ولم تُعدم العثور على مصادر لها في التاريخ السياسيّ الفرنسيّ الحديث، بل على رموز كفاليري جيسكار ديستان وريمون بار وميشال روكار وسيمون فاي… والحقّ أنّ الموقف من سوريّا وثورتها جاء برهاناً ساطعاً على تلاقي “أقصى اليمين” و”أقصى اليسار” على نحو يشير إلى عتق ورجعيّة هذه الثنائيّة من أصلها. وكان لافتاً في هذه الحدود أن تتبع المستشارة الألمانيّة أنغيلا ميركل، وهي مسيحيّة ديمقراطيّة، أي يمينيّة، سياسة حيال اللجوء والهجرة لا يزال التأويل السهل، على جاري العادة المألوفة، يربطها باليسار.

واليوم هناك ميل متعاظم إلى مقاربة الحياة السياسيّة في المجتمعات الغربيّة بوصفها صراعاً بين ديمقراطيّة ليبراليّة وديمقراطيّة انتخابيّة وشعبويّة مناهضة لليبراليّة. وقد يصحّ أنّ البعد الاقتصاديّ لا يزال غير واضح كما ينبغي في الطرح الليبراليّ (وليس النيوليبراليّ)، لكنّ الصحيح، في المقابل، أنّ أيّ برنامج تحرّريّ مجتمعيّاً (مسائل الاختلاف والحقوق) يرقى إلى سويّة البداهات في أيّ طرح راديكاليّ في ليبراليّته. أمّا في الولايات المتّحدة تعريفاً، ووفقاً لما تنمّ عنه حركات كـ “حياة السود لها أهميّة” أو “احتلّوا ول ستريت” القصيرة العمر، فإنّ نعت “يساريّ” لا يفيد في شيء، إلاّ في تجهيل المدى الذي بلغته البعثرة والتشتّت والاصطباغ بالهويّات الجزئيّة.

إنّ التمسّك بثنائيّة اليسار – اليمين ومدّها على نطاق واسع يبدوان اليوم أمراً قسريّاً ومفتعلاً جدّاً، لا سيّما حين يترافقان مع طمس شبه كامل لتجربة الحرب الباردة والتوتاليتاريّة السوفياتيّة، بما يوحي بولادة تلك الثنائيّة من صفر وعدم. فإن كان الأمر هكذا بات الرهان على الثنائيّة هذه مغامرة بالغة الاستعجال وعديمة التجارب. أمّا إذا كان الأمر موصولاً بتاريخ سابق، بات نقد الحقبة البادئة مع ثورة أكتوبر اللينينيّة (لا مجرّد التعويل على نسيانها) شرطاً شارطاً للتعاطي الجدّيّ مع الثنائيّة المذكورة وترسيم حدودها.

لقد تحوّلت الأديان، حيال تحدّيات الحداثة، إلى فِرَق تتساجل حول “المعاني الصائبة” وما هو الدين “الحقيقيّ” الذي لا يلتزم به المؤمنون كما يجب. وهذا هو اليوم ما يسم السجالات التي لا تزال تقدّم نفسها بوصفها امتداداً حيّاً لتلك الثنائيّة التي تضمر.

درج

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى