صفحات الحوار

يوسف عبد لكي… يرسم الفَقد والحرب: الألم أكبر من أن يستوعبه المرء عقلانياً أو وجدانياً

بيروت ـ من يارا بدر: بابتسامة مرحبّة يستقبل الفنان يوسف عبدلكي زائري معرضه الذي أقامه في غاليري (تانيت)، بيروت ما بين 5 شباط/فبراير و8 آذار/مارس 2014، حيث تلف أكثر من ثلاثين لوحة جدران تلك القاعات لتحيل كل من في المكان إلى عالم آخر، بمكانٍ وزمانٍ للأسف ليسا افتراضيين على الإطلاق.

نحاور عبد لكي الذي على عادته يبدو مسترخياً، ولكن حذراً في انتقاء كلماته، نحاول كما لوحاته الحديث عن الفن، لنكتشف كم أننا محكومون اليوم بثقل الحرب، إذ تطغى مفرداتها على ُجمل الحوار الطويل.

‘ في لوحات عبدلكي المعروضة اليوم خارج البلد الذي أُنتجت فيه، نرى العصفور القتيل، وجثمان الشهيد، والفراشة والسكين، نرى القتيل والأداة ولا نرى القاتل. لا حضور له ولا هويّة، وسؤال القاتل لا سؤال القتيل هو الأكثر إشكالية في سوريا اليوم، فأين هو في أعمالك الأخيرة؟

‘ الأعمال المعروضة اليوم هي متابعة لشغلي القديم، متابعة لشغل الطبيعة الصامتة الذي بدأته منذ حوالي 17-18 عاماً، هذا على مستوى التكنيك وعلى مستوى التكوين.

لكن وفي النفس الوقت، في هذه المجموعة تحضر مفردات الوضع السياسي، بداية الثورة، تحوّل الثورة، كميّة القتل والتدمير التي عرفها المجتمع السوري، إذ أنّ كل هذا ترك تأثيراته في اللوحة الفنية. من أهمّ التأثيرات حضور الأشخاص، في أعمالي السابقة لم يكن هناك أشخاص. كذلك دخول أكثر كثافة للّون الأحمر، ليس بمعنى التلوين، وليس كسراً لثنائية (أبيض/أسود)، وإنّما بمعناه المباشر، إشارة للدم أكثر من أي شيء آخر.

كذلك يمكنني الحديث عن الكتابات التي دخلت لوحاتي الجديدة، من شعرٍ وأغانٍ ترتبط بالذاكرة الجمعيّة لمجتمعنا السوري، أو الشخصية لي أنا.

أمّا الإجابة المباشرة على سؤالك، فأقول أنّ القاتل يُشاهده الناس على التلفاز كل يوم. أنا أعتقد أنّ الرسام ليس واجبه أو مهمته تقديم تقرير سياسي عن الأوضاع الراهنة في هذا البلد أو ذاك، هذا عمل السياسيين والحقوقيين ممّن يشتغلون في التوثيق. الرسام أو الشاعر أو الموسيقي يعمل لتقديم رؤية وليس حتى عرضاً شاملاً.

وهنا يجب التذكير بأنّ القضيّة الرئيسيّة للرسام أو الفنان عموماً ليست ماذا تقول من الناحية الفكرية أو النفسيّة، وإنمّا كيف تقول ما تقول. هل لغتك ضحلة، ناضجة، خفيفة، ممتلئة بالموهبة؟ هنا يكمن التحدّي. في معرضي هذا تحدّث الكثيرون معي عن السياسي، وقلائل عن سطح اللوحة الفني.

‘ هل تشعر أنّ المعرض ظُلِمَ فنياً بتأطيره ضمن سياق الحدث والزمن السياسي لإنتاجه وعرضه؟

‘ كل من يقترب من الهم العام يُظلم في البلاد العربية، وربما في بلادٍ أخرى كذلك، لأنهم ينظرون للقضية وليس للعمل الفني كعمل فني. تطغى القضية وكأنها تأكل كل الجهد الذي يبذله الفنان في صياغة رؤيته، وهذا يُشكّل بشكل أو بآخر خللاً فظيعاً، لأنّه ينقل اللوحة من كيف نقول إلى ماذا نقول. في حين أنّ وكما يقول ‘أرنست همنغواي’: الأفكار على قارعة الطريق. المهم برأيّي حقيقة هي الكيفيّة التي يصيغ بها الرسام الأفكار والرؤى، هذا هو بشكل أو بآخر مختبر العمق لحساسيته وموهبته.

‘ إلاّ أنّ الحدث السياسي ومُنعكساته على الأرض السورية لوّن معرضك هذا بهويّة شبه موحدة.

‘ أظنّ أنّ أحد أكثر ما حفر عميقاً بداخلي هي جريمة القتل (قتل السوريين)، وقلقي من كل الآلام التي- ربما- يصعب الإحاطة بها في أي عمل فني، فهي آلام شملت الجميع (الأهل- الأصدقاء- العائلة…). الحدث السوري الاستثنائي هذا خلّف كمّاً هائلاً من الألم، الذي يحفر بداخلي أكثر من أي شيء آخر.

بوعيه يُدرك المرء أنّ كل الثورات لها ضحاياها وشهداؤها وحتى لديها القتلة وتفتح كذلك على مختلف أنواع الألم، إلاّ أنني لا أستطيع أن أغمض عينيّ عن حجم ألمنا السوري الاستثنائي، الذي يعانيه اليوم كلّ السوريين، نتيجة الإشكال السياسي المرتبط بعملية القتل والموت. لا أنا ولا كل البشرية ومنذ تاريخها تستطيع قبول هذا الموت، ولهذا أنشأت عبر التاريخ صروحا هائلة ترفض عملية الموت من أهرامات مصر إلى أهرامات المكسيك وحتى معابد آسيا وسواها، فما بالك إذا كانت عملية القتل سببها سياسي، نتيجة مطالبة شرعيّة بالتغيّير ضدّ الفساد والقمع والقتل. هنا تغدو الجريمة مُضاعفة. وبالتالي يكون الألم أكبر من أن يستوعبه المرء عقلانياً أو وجدانياً.

وبشأن المعرض هذا تحديداً فقد كان رهاني منذ بداية الأشهر الستة الأولى للثورة، وأن أقيمه في دمشق. لكن كل فترة كنت أرجئهُ بضعة أشهر لتكون إقامته في دمشق ممكنة، إلا أن غدا الأمر أكثر صعوبة، وبات من المستحيل بكل معنى الكلمة إقامته في دمشق.

‘ أعود إلى حديثك عن اللون الأحمر، عن الدم، وكذلك عن المفردات واللغة. هل نتحدّث أكثر حول هذا الحضور والدافع إليه؟

‘ بداية أؤكد على إيماني بأنّ كل الاعتبارات النقديّة المرتبطة بالأسلوبيّة الفنية أو المهنية، جميعها ليس لها أي قيمة أمام بحر الدم.

ثانياً الدم الفائض في سوريا، يستحضره المرء من المُشاهدات التي خزّنتها ذاكرته، ويضيفه إلى اللوحة. لأنّه ربما لم تعد اللغة الصامتة (الصورة) وحدها كافية على التعبير عن كل ما يحدث.

كما يمكن الحديث عن جانب ثالث، أو أمر آخر خارج المُعطى النفسي، السياسي، الذي ذكرته. هو ما ظهر في الكتابة العفويّة ضمن اللوحة، والتي بشكلٍ أو بآخر ساعدتني على كسر الجدّية الزائدة عن اللزوم التي تصبغ لوحاتي، أو الصراحة إن شئتِ.

‘ أسمح لي بمقاطعة صغيرة، أية عفوية تقصد في أعمالك؟

‘ في الشغل لا شيء عفوّي، لكن الكتابة أتت عفوية. اللوحة بكل تفاصيلها واضحة سلفاً في مُخيلتي، لكن الكتابة تداهمني، أنا لا أتخيّل مُسبقاً أنني سأضع هذا النص أو ذاك، في هذا المكان من اللوحة أو ذاك.

‘ وهل كان اختيار بيروت مكاناً لإقامة المعرض عفوياُ؟

‘ لا في الواقع. اخترت بيروت لمجموعة من الأسباب، منها قربها الجغرافي من دمشق، ولأنّ اللبنانيين عرفوا كذلك حرباً مُخيفة على مدى سنوات طويلة، بالإضافة لكون كثير من أصدقائي السوريين واللبنانيين هم حاضرون هنا اليوم.

وأضيف لكون بيروت في ذاكرتنا حاضنة للثقافة. بيروت تعني أكثر بكثير من المعاني الخاصة بالفرد، فهي أحد حواضر الحداثة العربية منذ القرن التاسع عشر وحتى اليوم.

‘ يوسف عبدلكي الذي خرج من المعتقل مؤخراً، لماذا غياب السجن/ المُعتقل من فضاء لوحاتك، إن صحّ القول؟

‘ أعتقد أنّ ما يحدث في سوريا اليوم هواستثنائي بكل معنى الكلمة، بعد أن تحوّلت الثورة من ثورة شعبية حقيقية وبسيطة لتكون في أحد جوانبها حرباً إقليمية ودولية على الأرض السورية عوضاً عن تلك الثورة. ورغم هذا أعتقد أنّ ما يحدث في سوريا هو أمر بالغ التأثير ولا يعني سوريا فقط بل كلّ المنطقة.

كيف سيُصاغ البلد في المُستقبل حيث أنّ النظام القديم انتهى وأصبح من الماضي، إضافة للتأثيرات العميقة لما يحدث في علاقة المواطن بالسلطة، نتائج هذه التأثيرات ستبينها الأيام القادمة بحكم أمرين: توازن القوى العسكرية على الأرض، وتوازن التوافق الدولي في الشأن السوري من جهة ثانية.

كذلك نعرف الضريبة الهائلة التي دفعها السوريون في سياق ثورتهم، شهداء ومفقودين ومعتقلين ولاجئين ومُهجّرين ومُجوّعين، تجاه كل هذا الهول في حجم الكارثة الإنسانية يُصبح اعتقالي أو اعتقال أي أحد لمدّة أسابيع أو شهر هو تفصيلٌ لا قيمة له. إنّ عيني على بلدي، وعلى نهر الدم المُتدّفق، وليس على أمرٍ سواه.

‘ كاتبة سورية

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى