صفحات الحوار

زياد ماجد ومحاولة إنصاف الثورات

 

حوار: صادق أبو حامد

مخلصا لطروحاته الديمقراطية، وانشغاله لسنوات بقضايا التحرر والتحول الديمقراطي في العالم العربي، لم يتأخر الكاتب والأكاديمي اللبناني زياد ماجد، عن دعم ثورات العالم العربي منذ انطلاقها، ولم يتردد في الالتزام بقضية الثورة السورية باعتبارها واحدة من أصعب تلك الثورات في صراعها الدموي ضد النظام الاستبدادي في سوريا. في مواكبة لهذا المنعطف التاريخي، كان لزياد ماجد حضور لافت في المنابر الإعلامية العربية والغربية، ليصبح أحد أوضح الأصوات دفاعاً عن حقوق المقهورين، بحماس لا يسقط في الصراخ، وبمنهجية تحترف تفكيك خطاب الاستبداد.

الناظر إلى صورة الثورة السورية اليوم يجدها تعاني الكثير من التشوه على الصعيد الإعلامي. تكفي المقارنة بين حجم المأساة وعنفوان التجربة السورية وبين الصورة الإعلامية المختزلة للثورة السورية، كي نتساءل إذا ما كانت الثورة السورية قد خسرت إعلامياً؟

لا أعتقد أنها خسرت، لكن ربما يمكن القول إنها لم تنجح. قد يكون السبب الأول يتعلق بغياب سوريا كمجتمع تحت حكم عائلة الأسد. خلال سنوات حكمه المديد، استطاع حافظ الأسد الإطاحة بالمجتمع السوري، لتتحول سوريا إلى مجرد موقع جيوستراتيجي وحدود وخطاب سياسي، بالتوازي مع تدمير المعارضة السورية، وتغييب الحقل السياسي السوري. هذه المقدمات جعلت الحديث عنها يقتصر على موقعها دون الاكتراث بمعاناة الشعوب ومطالبه. التغيير الذي حصل مع الثورة بدّل من واقع الداخل السوري، لكن الآلة الإعلامية للنظام وحلفائه، اللبنانيين خصوصاً والعرب عموماً، حصرت القضية في مواصفات سوريا السابقة جاعلة من الثورة مؤامرة ضد موقع البلد. لذلك كانت معركة المعارضة الأولى هي نقض هذا الطرح والبرهنة على أنها ثورة، وهي معركة استهلكت الكثير من الوقت والجهد. إلى ذلك يمكن الحديث عن توقيت الثورة السورية بعد ثورتي مصر وتونس وفوز الإسلاميين فيهما، وبعد الثورة الليبية التي حُسمت بتدخل عسكري خارجي، الأمر الذي أدى إلى تراجع الحماس إلى الثورات في العالم العربي، والعودة إلى حالة التخويف من الإسلاميين والفوضى.

من جانب آخر، حدّ الأداء الإعلامي الضعيف لجزء من المعارضة السورية من فرص التأثير إعلامياً. في الوقت الذي دفع النظام السوري عشرات ملايين الدولارات لتحسين صورته في الغرب وتشويه صورة الآخر، دافعا بأدواته الإعلامية إلى التركيز على جرائم وأخطاء ارتكبت من جانب المحسوبين على الثورة، والتخويف من الخطاب الإسلامي المتطرف.

اللافت أن الموقف ملتبس تجاه الثورة حتى في الإعلام الغربي، خاصة الإعلام السمعي البصري، رغم أن الحكومات تتخذ، على صعيد الخطاب السياسي على الأقل، موقفاً داعماً للثورة ورافضاً للنظام السوري؟

هناك حالة من الادعاء والغرور لدى بعض الصحافيين والمثقفين في الغرب، فهم يعتبرون أنفسهم أكثر معرفة وأدراكاً لحاجات بلادنا منا، ويدعون معرفتهم بالمؤامرات، التي تخفيها حكوماتهم. من هنا تبدو نظرتهم إلى شعوبنا وكأنها تتحرك بأوامر خارجية، مهملين حراك الشارع ومطالب الجماهير التي تدفع حياتها ثمناً لاحتجاجاتها. أصوات هؤلاء ليست هامشية في أوروبا، وخاصة في الأوساط اليسارية، أما اليمين فجزء مهم منه غير معني أصلاً بالأمر، وجلّ ما يهمه هو ألا تؤدي هذه التغييرات إلى موجة هجرة جديدة. أما في الولايات المتحدة فمن الواضح أن أولويات أوباما، كما الرأي العام الأمريكي، داخلية. كما أن هناك قضايا أخرى لعبت دوراً سلبياً على هذا الصعيد، منها ظهور الجهاديين وصور تطرفهم، والنظرة المشككة لمعارضة تدعمها سلطات دول الخليج التي لا تتمتع بشعبية في الكثير من الأوساط الغربية. مع ذلك لا يمكن القول إن النظام نجح تماماً في دعايته، فإن كانت النظرة إلى الثورة فيها الكثير من الارتياب فإن اعتبار النظام السوري مجرماً باتت مسألة شبه محسومة في الإعلام الغربي.

مسؤولية هذا النظام، ومسؤولية الظروف الموضوعية، هو أكثر ما يشغل كتاباتك ومداخلاتك، بينما لا نرى تعمقاً في أخطاء المعارضة وإشكاليات الثورة نفسها، وكأنك تحاول تجنب نقد الثورة من الداخل. ألا تعتقد أن النقد الذاتي للثورة يمثل أولوية؟

فيما يتعلق بنقد المعارضة، فهذا صحيح، غالباً ما أتجنب الدخول في هذا المضمار، لأنه أمر يخص السوريين أولاً، ولأن هناك من هو أكثر اطلاعاً مني على آليات العمل السوري المعارض والصعوبات التي تواجهه. كما أن كمية التخوين والتشهير التي عادة ما تلوث هذا الحقل تجعل المرء يفضل الانشغال بقضايا أكثر أهمية.

أما نقد إشكاليات الثورة فهذا لم أتجنبه بشكل طوعي، لكنني أعتقد بوجود حاجة ملحة للرد على خطاب النظام، لذلك كانت الأولوية بالنسبة إلي هي الموقف السجالي مع المعسكر الآخر، خاصة وأن هناك ميلا، غير بريء، لوضع أخطاء النظام بالتوازي مع أخطاء المعارضة، لتمييع حقيقة أن هذا النظام السوري فاشي وقمعي منذ عام 1970 بصرف النظر عما تفعله المعارضة الآن من خطأ أو صواب. التركيز على مشاكل وفوضى الثورة وما آلت إليه الأمور كثيراً ما يخفي نية بتغييب السبب الأساسي للثورة، وللدمار الحاصل، وهو نظام عائلة الأسد وحكمها. في كثير من سجالات الإعلام الغربي بات الأسد يُقدّم وكأنه مجرد طرف من بين أطراف أخرى تتحمل مسؤولية الحرب. لهذا السبب كان من الضروري التركيز على طبيعة النظام وتاريخه وسلوكه بغض النظر عن مشاكل الثورة.

الملف السوري يبدو شأنا داخليا في لبنان، وعامل انقسام يضاف إلى عوامل الانقسام بين القوى اللبنانية. لكننا شهدنا أخيرا توافقا على التهدئة ظهر بتشكيل حكومة توافقية. هل يمكن القول إن حسن نصر الله نجح في رهانه بجعل سوريا ساحة للمعركة بين الأطراف اللبنانية، بينما تبقى الجغرافيا اللبنانية ‘محيّدة’؟

التورط الكبير لحزب الله في لبنان لا يمكن أن يمر دون أثر. نحو ثلث قوته العسكرية تتواجد اليوم في سوريا وتحارب الثورة السورية إلى جانب النظام. لكن هناك عدة عوامل تمنع الانفجار في الحالة اللبنانية؛ أولها عدم وجود توازن قوى بين نصر الله وخصومه، ووجود توافق ضمني بين إيران والسعودية على أن ساحتي العراق وسوريا هي الأكثر استيعاباً لخصومتهما. سبب آخر يؤثر في ذلك هو أن الانتشار السني الشيعي في لبنان يجعل حالات الاحتكاك الأخطر محصورة بمنطقة بيروت الكبرى. في هذه المناطق حصل شبه توافق بين الطرفين على تجنيبها الصدامات، لتنحصر القضية في مدينة طرابلس. في هذه المدينة يبدو الصراع السني العلوي وكأنه امتداد للصراع في سوريا. كما أن الأحياء التي تعيش حالة الاقتتال هي الأكثر فقرا وتهميشا في المدينة، ناهيك عن كون المدينة نفسها بعيدة عمليا عن المركز. هناك إذن ما يشبه التوافق غير المعلن بين جميع الأطراف لتجنيب لبنان الانفجار. إلا أنني لا أعتقد أن هذا التوافق يمكن أن يضمن استمرار التهدئة لفترة طويلة.

هذه المحاصصة الطائفية. هذا النظام الطائفي بالمجمل، كان هدفا للإسقاط في لبنان، بموازاة مطالب إسقاط الأنظمة الاستبدادية مع انطلاق ثورات الربيع العربي. غير أن الحراك ظل محصورا قبل أن يتلاشى. أين لبنان من مرحلة الثورات؟

لا بد من التنويه بداية أن النظام السياسي في لبنان يختلف عن الأنظمة في بقية الدول العربية. الثورات العربية خرجت لتطالب بالحريات السياسية والفردية وإنهاء قوانين الطوارئ وتحرير المعتقلين السياسيين وهي قضايا غير موجودة في لبنان. المطلب الملح في لبنان هو التجديد في النخبة السياسية، وإصلاح النظام السياسي عبر تقليص المساحات الطائفية في المشهد السياسي. هذه الأمور تتطلب طريقة عمل تختلف عن آليات حركة ‘إسقاط النظام الطائفي’. فالطائفية ليست مؤسسة فقط، إنما هي حالة معممة ترتبط بالأحوال الشخصية وبالاقتصاد وبالتعليم. ولا أعتقد أن شيئا من هذه التغييرات يمكن أن يحدث إذا كنا حياديين تجاه موضوع حزب الله. لا يمكن أن تكون مع إسقاط النظام الطائفي، ولا تتكلم عن امتلاك حزب طائفي لسلاح هو أقوى من سلاح الدولة. من هنا كانت حملة ‘إسقاط النظام الطائفي’ قاصرة مبدئيا لأنها غازلت، بشكل ما، الطرف المدجج بالسلاح والقادر على تغيير المعادلة السياسية، بل والذي يفرض على الدولة سياسة خارجية تصل إلى حد التدخل العسكري في دولة أخرى.

محاربة الطائفية في لبنان تتطلب خطابا جدّيا عنوانه العلمنة. خاصة وأن العلمنة يمكن طرحها في لبنان بسهولة مقارنة بالمجتمعات العربية الأخرى، لقلة تجانس المجتمع اللبناني، ولأن كل طرف فيه يعتبر أقلية. لهذا يمكن برأيي الحديث عن علمنة تدريجية، أو على الأقل، عن إيجاد مساحات علمانية مجاورة للمساحات الطائفية. يمكن على سبيل المثال إنشاء مجلس شيوخ على أساس طائفي، بمقابل أن يتم تحرير المجلس النيابي من المرجعيات الطائفية. يبقى الأجدى في لبنان هو الحملات الموضعية. حملات تخص قوانين الأحوال الشخصية، وحقوق المرأة، وحق الفلسطينيين بالعمل والتملك، ومكافحة العنصرية تجاه السوريين…

أنت إذن تؤيد النهج الإصلاحي في التغيير؟

أعتقد أنه النهج الأنسب في لبنان. الذين طرحوا موضوع التغيير الجذري للنظام عام 1975، فشلوا فشلا ذريعا ودخلت البلاد على إثر ذلك في نفق مظلم. كما أن معظم الزعماء الطائفيين لديهم مشروعيات شعبية، فلو قمت بانتخابات نزيهة في لبنان اليوم فمعظم هذه الزعامات سيعاد انتخابها، لأن النظم الاقتصادية والاجتماعية وحتى العلاقات مع الخارج جميعها تمر عبر هذه الزعامات. لذلك لا بد من إجراء إصلاحات موضوعية تؤدي إلى إضعاف هذه الزعامات، وتغيير علاقاتهم الزبائنية بالمواطنين، وخلخلة بنية النظام الذي يمنحهم الصدارة. ولعل أهم ما يستحق التغيير في هذا الإطار هو النظام الانتخابي. فإذا كان هؤلاء الزعماء يمثلون ستين أو سبعين في المئة من اللبنانيين فإن النظام الانتخابي ‘الأكثري’ يجعلهم يحتكرون تمثيل اللبنانيين بنسبة مئة في المئة. فعندما تحصل الزعامة الطائفية على الأكثرية تلغي الأقلية التي لم تمنحها صوتها. لذلك يضمن النظام الانتخابي النسبي فرصة تكوين بديل، وإن كان أضعف من الطرف المسيطر، لكنه يفتح باب اللعبة السياسية على التعددية والتجديد، بينما واقع الحال اليوم هو أن أسماء النخبة السياسية المتنفذة في لبنان ما زالت ذاتها منذ ثمانينيات القرن الماضي.

هناك من يعتقد أن المنطقة العربية عموماً تخسر في التغيير أكثر مما تستفيد. كيف يمكن الحكم على الثورات أمام مشهد الاستعصاء السوري، والثورة المضادة في مصر، والنتائج الهزيلة للثورة اليمنية، والفوضى المسلحة في ليبيا؟

لا أعتقد أن قصر الفترة الزمنية يسمح بإطلاق أي أحكام. الكثيرون ممن هللوا أكثر مما ينبغي في البداية، هم اليوم محبطون أكثر مما ينبغي، وبعضهم عاد إلى الخطاب غير العلمي بأن الشعوب العربية غير مؤهلة. هناك مسار تاريخي بدأ مع الثورات العربية. هذه الشعوب تحدثت لأول مرة عن حريتها الفردية والجماعية، وشهدنا صراعا سياسيا حقيقيا كان يستحيل تخيله قبل الثورات. لدينا اليوم علمانيون وإسلاميون، يمينيون ويساريون، هناك من هو مع الثورة ومن هو ضدها. بات لدينا سجال سياسي ومصالح متصارعة، وهو ما لم تعتده المنطقة منذ عقود، هذا يحدث رغم كل محاولات عرقلة التقدم التاريخي، وكل محاولات العودة إلى الخيارات المقفلة السابقة: الاستبداد أو الإسلاميين، الاستبداد أو الفوضى. لا يوجد تغيير في التاريخ لم يأخذ وقتا طويلا، ولم يكن عنيفا وربما همجيا، من الثورة الفرنسية إلى الروسية والصينية، إلى حروب التحرير في فيتنام والجزائر. تغييرات كلفت أعدادا هائلة من الضحايا، قبل أن تحقق ما تريده. لذلك من الصعب برأيي الحكم على الثورات العربية قبل عشر سنوات، أو ربما قبل مضي جيل كامل لنعرف إذا ما كانت هذه الثورات قد نجحت أم فشلت في إنجاز ما أرادته.

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى