صبحي حديديمراجعات كتب

يوميات كنفاني: انعتاق ضمير المتكلم/ صبحي حديدي

 

 

الأصل في اليوميات أنها طراز من التدوين الشخصي يستأثر بسمات منفردة، تميزه عن المذكرات والسيرة الذاتية، في مستوى الشكل والمضمون على حدّ سواء. وإذا كان ضمير المتكلم المفرد، حتى إذا نطق بلسان جماعة ما، هو القاسم المشترك بين هذه الأنواع الكتابية الثلاثة؛ فإنه، في حال اليوميات، يتجاوز تسجيل الوقائع الشخصية والانطباعات الذاتية، فيراقب المشهد الخارجي العريض، ويسجّل حركة المجتمع والتاريخ، بعين أحادية الإدراك بالطبع.

يوميات غسان كنفاني (1936 ـ 1972) ــ التي تغطي سنوات 1960 ـ 1965، وكانت قد نُشرت أولاً في فصلية «الكرمل»، العدد 2، تموز (يوليو) 1981؛ وأعادت نشرها مؤخراً، في صيغة كتاب، دار «راية» الحيفاوية ــ تعكس القسط الأعظم من سمات هذا الطراز الكتابي الخاص. في مطلع تلك السمات عنصر حركية الزمن الحيّ، والراهن، الذي يلازم محتوى اليومية (على نقيض المذكرات أو السيرة الذاتية، التي تعتمد صيغة استرجاعية من الزمن)؛ ويبدو استطراداً أشبه بالاستجابة للحاضر، بدل إعادة استثمار الماضي أو توظيفه. ثمة تفاصيل عامة وخارجية، مثل وفاة ألبير كامو، وحادثة الإغماءة، وولادة فايز طفل كنفاني، وتدشين إذاعة صوت فلسطين؛ وثمة تفاصيل خاصة، وداخلية، مثل مشاريع كتابة قصة قصيرة، أو التفكير في تسطير رسالة غرامية.

سمة ثانية هي البوح، أو الانعتاق من إسار التوثيق كما تقتضيه المذكرات أو السيرة الذاتية؛ خاصة وأنّ اليوميات لم تُكتب بقصد النشر أصلاً، وبالتالي فإنّ حسّ الاعتراف المنعتق من الضوابط لا يطغى على غالبية هذه اليوميات، فحسب؛ بل يبدو وكأنه خيار سلوكي، وميل أسلوبي أيضاً (إذْ يأتي من كاتب وصحافي وقاصّ وروائي). ونحن نعرف، في هذا الصدد، أن اليوميات كُتبت خلال فترة عمل كنفاني في منابر صحفية مثل «الحرية» و«الأنوار» و«الحوادث» و«المحرر»، قبل تأسيس «الهدف». آنذاك، كان كنفاني أقلّ التزاماً بالعمل السياسي المباشر في «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»، وأكثر استعداداً لإطلاق الذاتيّ في مقابل العامّ. تبدى ذلك في كتابات تلك الفترة، سواء الإبداعية منها («موت سرير رقم 12»، 1961؛ و»أرض البرتقال الحزين»، 1962؛ حيث تدور القصص القصيرة في المجموعتين حول موضوعات الوجود والعدم والعبث والقلق الميتافيزيقي والتشرد، والتقاط الفلسطيني العادي ضمن هذه الدوائر)؛ أو المتابعات والمقالات الصحافية (خاصة الساخرة منها، والتي كان يوقعها باسم «فارس فارس» تارة، أو «أ. ف.»/ أبو فايز طوراُ).

وفي تقديمها لكتاب «رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان»، كتبت السمان: «ثمة ميل دائم في الأدب العربي بالذات لرسم ‘المناضل’ في صورة ‘السوبرمان’، ولتحييده أمام السحر الأنثوي وتنجيته من التجربة. وفي رسائل غسان صورة للمناضل من الداخل قبل أن يدخل في سجن الأسطورة ويتم تحويله من رجل إلى تمثال في الكواليس المسرحية السياسية». والسمان على حقّ، ما خلا أنّ كنفاني كان آخر المكترثين بزجّ شخصه في صورة «المناضل» و»السوبرمان» و»الأسطورة» و»التمثال»؛ بل كان العكس هو الصحيح، قولاً وفعلاً وكتابة. وهذه اليوميات، ثمّ غالبية أعمال كنفاني الإبداعية، هي الدليل النصّي على ذلك العزوف عن الأسطرة، أياً كانت أشكالها ومستوياتها.

سمة ثالثة، أنّ اليوميات، أسوة بالرسائل، والمقالات الموقعة بأسماء مستعارة، تظلّ مادة مرجعية خصبة وثرّة، تتيح نمطاً بالغ الأهمية من «النبش» الإيجابي في منجز كنفاني؛ الإجمالي أولاً، وذاك الإبداعي أيضاً، وفي مقام مكافئ. نحن هنا أمام تسجيل حيّ وفوري، يعتمد التدفق المتسارع، والتدوين الانفعالي، والطلاقة النفسية، والانعتاق من انضباط الترتيب والمراجعة والرقابة الذاتية والتخوّف والتحفظ… ونحن، في غمرة هذا الاضطرام الخلاق، نحتكم إلى هواجس ضمير المتكلم، وانحيازاته، ورغائبه، وأوجاعه، ونقاط قوّته وضعفه؛ أي، في الاختصار الذي قدّمه لنا كنفاني نفسه في يومية 1/1/1960: «هذه اليوميات عمل كريه، ولكنه ضروري كالحياة نفسها»، «يوميات كريهة، لحياة كريهة تنتهي بموت كريه، مستشعراً كم أنا مجبر على أن أكتب، كم أنا مجبر على أن أعيش، كم أنا مجبر على أن أموت».

سمة رابعة، أنّ اليوميات، مثل الرسائل، فرصة وثائقية لا تُعوّض للوقوف على «مزاج» كنفاني، أو بالأحرى تقلبات مزاجه، حين يفرح أو يحزن أو يعشق أو ينكسر أو ينتصر، وحين يسخر من السياسي ويتهكم على الأديب، وحين يعلّق على مجريات عصره دون ضوابط مسبقة. وهي فرصة معرفته كآدمي، من لحم ودم أولاً؛ ثم تلمّس تعبيرات هذه المعرفة في أدبه (وتلك مسألة مشروعة تماماً، بل لعلها ضرورية لتمحيص ما يُعرف في النقد الأدبي بـ»مفارقة القصد» عند الكاتب)؛ وكذلك (حيث لا ضرر البتة في هذا، ولا ضرار!) استنباط سلسلة الآراء والمواقف والأحكام التي أحجم عن قولها من منابر أخرى، لأسباب شتى، لكنه باح بها في اليوميات على نحو صادق ونزيه، تلقائي وبوحي، أو حتى نيّئ وخام!

وفي تقديمه لـمجلّد الأعمال الأدبية الكاملة لغسان كنفاني، أشار محمود درويش إلى معضلة حرف العطف، «الواو»، الذي يفصل بين مفردتَيْ «الكاتب» و«المناضل» في التعريف بشخص كنفاني. واليوميات، هذه وسواها، فرصة ذهبية لردم تلك الهوّة: الافتراضية تارة، المفتعلة تارة أخرى!

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى