صفحات الثقافة

السوريّون/ منصف الوهايبي

 

 

 

لا شيءَ فوقَ أديمِ هذي الأرضِ.. غير حزامِ سرجكَ يا أبي..

لا شيءَ.. أحزمةُ السفائن تلكَ.. أشرعةُ السفائن تلكَ..

طوّافونَ في سفنِ السواحلِ ــ أُهْبَةَ الإبْحارِ ــ ينتظرونَ في ريحٍ مؤاتيةٍ،

كتابَ براءةِ الملكِ الدمشقيِّ.. الموانئُ كلّها رمْلٌ،

ونجمُ الدبّ يبسُطُ ظلّه، والموجُ أهْدَأُ ما يكونُ اليومَ؛

لكنْ للسماءِ مِزاجُها.. للبحرِ منها ـ ما تشاءُ ـ رَصَاصُها وزُجاجُها..

 

جُزُرٌ لنا في الأرخبيل.. وهجرةٌ أخرى إلى البلقان.. فاليونان.. نطرق بابَ أوروبا

تُرى أنكونُ يوما زُطَّها؟ ونطوفُها بذئابنا وكلابنا!؟

وننامُ في القنواتِ تحتَ الثلجِ.. جنْبَ أرُومَةِ الأشجارِ..

يكفينا قليلٌ من شرابِ الرومِ.. صحنٌ من نقيعِ الرزِّ.. بعضُ مخلّل الأسماكِ.. مَسْلوقِ البطاطسِ..

أيّ شيءٍ نيّئٍ أو طازَجٍ..

عزْفٌ على العيدانِ.. في رَعَوِيّةٍ أبطالُها نحنُ الرعاةَ الهاربينَ من الجنوبِ؛

قدُودُها حَلَبيّةٌ «ردّي عليّ».. ولا تردّ البنتُ مِنْ دَلٍّ ومِنْ خجلٍ، عليْنا..

وهيَ تُمطرُ ثُمّ تُثلِجُ؛ ثُمّ تُمطرُ.. هلْ رحلنا؟ نحنُ في ما لمْ نكنْ.. سنكونُ

إذْ نُصغي إليها عشبةً.. أو زهرةً.. أنثى قُدُودِ الشامْ

***

لا شيءَ تحت أديمِها.. أو فوقهُ إلاّ نباتٌ لاحِمٌ يقتاتُ من أجسادِنا..

جثثٌ هنا.. وهناك.. تطفو كالقواربِ..

وهي تقفزُ قفزة الشبّوط..

أبوابٌ مُوارِبَةٌ.. يمرُّ الانتِحارِيّونَ.. أوجُهُهُمْ غِمامَاتٌ «أمامكَ أنتَ فانظُرْ.. ذا طريقٌ واحِدٌ لا غير».

صاقورٌ لتهشيمِ الرؤوس.. على المَلاَ..

أخشابُ خَصْيٍ..(هل خصَوْكَ أبي إذنْ؟)

فرسٌ يحرّك ذيله متململا..

بنْتي الصغيرةُ وهي تَحْشُو جُرحَها.. بنتي الصغيرةُ وهي تمسَحُ قيحَها..

طفلي ينقّب مثل خنزير صغير في البراري واجِسًا..

حذرا كما لو أنّه روبانسون كروزوي..

مترسّما آثار برميلٍ تفجّرَ فوق رأسي.. في فراشِ التبنِ..

ـ دَعْنِي! سندرلّا.. سوف أعصرها كما الليمونُ.. هذي البنتُ!

كُرباجٌ.. ومقرعةٌ.. كلامٌ آبقٌ..

ـ خُذْ هذه! من تدمرٍ.. ذكرى من الرومان.. باطيةٌ لمزج الخمر..خُذْها.. لا تزالُ بعُروَتيْها!

بئرُ مرحاضٍ عُموميٍّ تنزّ.. غُسَالةُ الموتى على جنباتها؛ بَصَلٌ رُخاميٌ رَماديٌّ.. فُسالةُ معدنٍ..

حِمَمٌ من البركانِ ظلّ رَمادُها متجمّدا..

عُلَبٌ من الكرتونِ والطبْشورِ.. خَرنوبٌ.. قرونُ الماعزِ الجبليِّ.. يَنبوتٌ يَجِفُّ..

صحونُ طينٍ كالمحارةِ.. للدواجنِ والكلابِ.. خَبِيصَةٌ.. للناس أيضا..

أزْدَرَخْتٌ يابسٌ.. لا ظلَّ.. لا أشجارَ في حلَبٍ.. سوى حطبٍ

تقصّف تحت أقدام العساكرِ مَعْ جماجِمِنا..

رجال تحت شمس الشامِ.. صَهْريجٌ الفلسطينيّ غسّانٍ.. بِأكْسيدِ البُرونْزِ..

ونحن نعرف أنّهمْ طرَقُوا… ونحنُ هناك نسمعُهمْ..

على إيقاعِ لحْنٍ راقصٍ، في ليل بَرْيابِيّةٍ؛ يعْلُو..

وطبلٍ قارعٍ.. عزفٍ على العيدانِ حتّى الصبحِ..

يسري في أصَابِيغِ الأظافرِ والشفاهِ.. تشابُكِ السيقانِ والأيدي..

ونعرفُ أنّهم دقّوا.. ولم نفتحْ لهمْ..

آذاننا كانت بشمع النحلِ قد سُدّت..

وإذْ دقّوا على الخزّانِ مرّاتٍ.. ومرّاتٍ .. قطعناها لنُخْرِسَهمْ..

ـ دَعُوهُمْ يصْرخونَ.. حروفُ علّتهمْ. سأعجنها.. وأخلِطُها..

كما لو أنّني في مطعمِ الضبّاط، أخفِقُ بَيضةً أو قشْدةً..

وستسمعونَ صراخهمْ في كلّ أرضِ الشام!

طفلي في دِثارِ محاربٍ: «لا تنسَنِي»!

عرباتُ ثيرانٍ مجنّحةٍ..

رصاصٌ طائشٌ.. أصواتُ مَنْ؟ قَطَرتْ دَمًا!؟

تَذكارُ صيْدٍ (رأسُ أمّي.. جِلْدُ أختي)..

في الجِرار عظامُ أطفالي قرابينِي.. وتقدِمَتِي..

وذا كبشٌ على درع النبيّ محمّدٍ…

ذو النونِ [يونانُ النبيُّ] على رمال الساحل السوريِّ، يأكل حوتهُ.. أو نونَهُ..

نقّالةُ الجرحى.. أصوتُكَ يا أبي؟ أمْ صوتُ مُحْتضَرٍ صَحَا؟

أمْ كان صوتي: «سَوْفَ أُشفَى في الشمال بسرعةٍ»!؟

رأسٌ على طبقٍ.. ذبيحٌ وهْو يخبطُ.. وهْو يرفسُ في الترابِ..

(أقولُ مثل حصان نيتشَه..في تُرينو)

ذي رُسومٌ كيف لم يحلمْ بها «بانويلُ»!؟

قل يا كلبيَ الشاميَّ! قلْ! ما المكْسُ؟ ما رسمُ العبورِ إلى أوروبّا؟

***

مَنْ نحنُ في هذا السديمِ؟

دُمَى الرمايةِ؟ أمْ مذابحُنا مباركةً يُلوّي في معاريجِ السماءِ دخانُها!؟

صُورٌ وأشباحٌ تَناسَلُ من ظلالٍ.. أو زجاجٍ.. غير أنَّا

لا نرى فانوسهُ السحريَّ.. أو طابوقهُ البنّيَّ.. حيثُ شفيفُ أوراقٍ به

تستقطبُ الأضواءَ.. مَنْ؟ مَنْ نحنُ في هذي المتاهةِ؟

تُوتيَاءُ البحر! آخينوسُ هذ!ا لا أرِسْطَطَليسُ دوّنَهُ.. ولا عمرُو بن بحرٍ.. مَنْ!؟

خِناثُ قنافذٍ! مطحونةً.. صدفيّةً.. بحريّةً.. عربًا وأكرادًا.. مشارقةً.. مغاربةً.. على أحجارِها..

مَوتَى.. ومَوتَى لم يموتوا بعدُ!

***

صيفٌ دمشقيٌّ.. مشيتُ أنا وروزا.. الظلُّ مضطرمٌ..

بنظّاراتها الشمسيّة السوداءِ، تجْري الحَ (ا) مِديّةُ في خيوطٍ من زجاجٍ ذائبٍ!

(لابدّ من «ألِفٍ» لها ليكونَ لي مفتاحُها..لابدّ من جَرْسٍ لسوق الحَ (ا) مِديّةِ، تونسيٍّ؛

كيْ تكونَ لِيَ المدينةُ كلّها، وتُساقَ لي أشياؤها!)

والجامعُ الأمويّ ـ أذكرُ ـ في زخارفِ فضّةٍ مجدولةٍ.. مفتولةٍ.. يجْري!

يقول المعمدانُ: ليُعْطِني، مَنْ عنده رأسانِ.. رأسًا!

يُعْطِني مَنْ عنده جسْمانِ.. جسمًا! ها أنا برْدان أرقد عاريا..

تَذكارُ قدّيسٍ هنا.. نُصْبٌ يُشيّد لي..وجثماني بأرضٍ!

ـ لستُ أطلبُ غير تمثالٍ لهُ؛ في ملتقى طرق القبائلِ، رَاجِلٍ.. أو حزّة من «سالومي»!

أشجارها!؟ لابدّ من فرْعٍ يُحزُّ إذًن لنوقِفَ ُنسْغَها!

***

بَرَدَى لقد ركضتْ بكَ البيداءُ مثلَهُمُ.. وذي متعرّجاتُ النهرِ سلْسلةٌ من المتفجّراتِ..

وأنتَ تغرقُ فيكَ آونةً، وتطفو منكَ آونةً!

لقدْ خيّبتَ ظنّي.. كنتُ أحسبُ أنّ ماءَ الشعر ماؤكَ.. أيّها النهرُ اليتيمْ!

أصْحَرْتَ أمْ أبحَرْتَ؟ إذ تغبرُّ أو تحمرُّ.. هلْ صَحَرَتْكَ شمسُ الشامِ!؟

هلْ لبستْ عليكَ بُيوتَها؟

يا نهرَ بارِدْيُوسَ! قلْ من أين تنبعُ أنتَ في هذا الجحيمْ؟

لا شيءَ يبدأُ.. ربّما.. أو ينتهي!

***

في باب توما.. عند باب الحان ( أعني Olde House )

كان طفلٌ ـ ربّما كان اسمُهُ «إيانَ» أيضا.. ربّما ـ

يُقعي.. يدخّنُ شاخصًا سيجارةً ممضوغةً..

«أفرغتُ كلّ شتائم الأوباش في الزطِّيّ ذاكَ!»

ـ يقولُ لي البارمانُ ـ يضحكُ وهو يمضغُ لفّة من تبغهِ ـ

لكنّ صوتًا مثل رشْح الصوف يأتي خافتًا:

ـ دَعْهُ يدخّنْ.. ذلكَ الزُّطِّيُّ .. دَعْهُ..لا حياةَ له.. هنا.. مفروشةٌ بزهورها!

 

مِنْ أيِّ كأسٍ.. أيِّ مخمورٍ ترنّحَ من نعاسٍ؟ كان يأتي ذلك الصوتُ الخفيُّ؟

أكان صوتَ بْلُومَ في عوليسِ جويسْ؟ ربّما!

أم كان «آكلَ لوتسٍ» مثلي أنا لا غير؟ كيف نسيتُهُ!؟

***

لكؤوسهمْ وَقْعُ الدوائرِ في طواحين الرياحِ..

المشربُ القبْويُّ.. حيث سهرتُ أوّل مرّة مع أصدقائي في دمشقَ.. ونحنُ حتّى الفجر،

وهو يطلُّ من بَرَدَى بصبْغٍ برتقاليّ؛ نُديرُ كؤوسَنا..

كانت أرائكهُ مربّعةً.. وَلَوْحُ زجاجهِ أيضا.. وكان القبوُ ـ أذكرُ ـ بارداً مثل المربّع..

شاهرٌ يأتي بسلّته الكبيرةِ وهي ملأى بالقناني.. والحوامضِ.. والفراخِ.. شرائحِ اللحمِ المُتَبّلِ..

كلِّ خيراتِ الشآمِ.. الفستقِ الحلبيّ والدرّاقِ والليمونِ والتفّاحِ والأترجِّ..

قُلْ! هلْ كان ينقصُ صاحبي ممدوح عدوانٍ سوى تربيعةِ الشطرنج!؟

يضحكُ أو يُجلْجلُ مثل شلاّل..

وكنتُ أقولُ: لِمْ أعطيتَ سيفكَ لابنِ ملجمَ؟ لِمْ!؟

أكنتَ الخارجيّ عليهِمُ قبل الأوانِ؟ وكيفَ لم ينبسْ عليٌّ؟ كيفَ!؟

ـ تلكَ قصيدةٌ لم يغتفرْها لي عليٌّ.. غلطةٌ لا غير..

تلك محاولاتُ رَفايِيلَ.. خُذْ! هذا نبيذُ جِبالنا..

في خُضرةِ البلّورِ رَوّقناهُ.. في غبشِ الظلالِ.. ونحنُ نصْفقُهُ

إذنْ! لا خوف.. خذْ!»

هَلْ كان بيتَ عشائنا السريِّ.. ذَاكَ القبوُ؟ هَلْ كنّا حواريّيهِ؟ مَنْ صُلِبوا بِهِ؟

***

ـ قلْ لي أهذي ثورةٌ!؟

ـ الحادثُ العَرَضيُّ يغدو ثورةً.. البُوعَزيزي صاحبي مثلا!

شهيدٌ حتفَ أنفِ البوعزيزي.. أنت تعرف أنّه أيقونةٌ!

ـ هذا عديمُ الرأسِ! لكنْ بهلواناتُ الشآمِ يُخاطِرونَ بكلّ شيءٍ..

والممثّل لاَبِدٌ عند التخومِ.. هنا.. على كرسيّه البطريركيِّ يديرُ حرْبًا بالوكالةِ.. قلْ

ذي مباراةُ البريدَجِ.. بين أمْريكا وروسيا؟ من يفوزُ بِدورتيْن إذنْ!؟

***

لي أصدقاءٌ لستُ أعرفهمْ .. وأعرفهمْ.. صديقاتٌ..

 

سنيّةُ صالح..

تأتي بعكّازٍ.. وتسألُ هل يضلّ طريقَهُ مَوتِي المؤقّتُ مثل نومِي؟

أيّ جلدٍ سوف ألبسهُ لموتي؟ كيف لي أن أشتري بابًا ونافذةً لِوَحْدَتِنا؟

وترقبُ مثل بِنْتيْها عشاءَ البحرِ.. وجْبتهُ..

***

محمّد الماغوط

ـ ما الشعر؟ لائحةُ المطاعمِ ذي!؟ صلاةٌ عند شبَّ الليلِ ربّانيّةٌ!؟

ـ لغةً تنامُ؟ ..الشعر نقْر أصابعي عجْلى على الحاسوبِ.. نقْر ملامسي..

ـ مِن دون حلّمٍ هكذا! والشاعر الراعي المقفّي.. الشاعرُ الرائي.. مغنّي الأوبِرا؟

ـ يذوي وقد كسدتْ بضاعتهُ وبارتْ..

صارَ فانوسًا أصمَّ..

ـ أكان يكظمُ ضوءَهُ؟

ـ الشاعرُ الراعي يعضُّ لسانهُ، وعليه أن يُلقي إلى قطط الرصيفِ، به.. كُلِي..

هذا دمُ الكلماتِ أخضرُ.. طازَجٌ..

هذا لسانُ الأرضِ.. يا قططي كُلِي..

***

حيدر حيدر

ساءلتُ عنه البحرَ، في طرطوسَ.. في أرْوادَ.. حتّى في حصين البحرِ..

كانَ البحرُ مشغولا بسَوْسَنِهِ يُربّيهِ على مَهلٍ..

وحيدرُ كان مشغولا بتربيةِ العجول..

وربّما أيضا بتضْميدِ الفراغِ.. لعلّه هَجَرَ الكتابةَ هكذا؟

حَسَنٌ.. إذن..لتكنْ يدُ الأقلامِ أختَ يدِ المحاريثِ.. الكتابةُ كالحِراثةِ..

مَاؤُها الحبرُ الخفيُّ.. وَجُرْحُها من جُرْحِ هذي الأرضِ..

من خضراءِ نُدْبتِها.. وباقي وشمِها..

***

ياطرُ حنّا مينه..

زكريّا المرسلني..

ذكرى شكيبتِهِ.. يقولُ: «نساؤكمْ حرْث لكم»

وحرثتُ حتّى فلّ محراثي

وهذي قطّةٌ تُذكي أظافرَها الخفيّةَ..

كلّما قلّبتُها كالأرضِ.. من جهةٍ.. إلى جهةٍ..

وكان مسطّحًا حرثي..

***

حَبيبي صاحبي الطائي..

حَبيبي أنت في «بلدِ الفلاحة».. يا ابن أوْسٍ..

لم أجدْ لك منزلا في الكامخيّةِ .. لم أجدْ إلاّ بيوتًا كلّها نَاوُوسُهمْ

يَمْتدُّ من درْعا.. إلى حمْصٍ.. إلى حلبٍ..

***

أبوالطيّب المتنبّي

الراحلونَ هُمُ إذنْ!

ليكُنْ!

وأنت الآنَ في حلبٍ وقلعَتِها..

أتسمعُني؟ هنالكَ في مثابةِ بئرِها؟

لا شيءَ! هذا ماؤُها مِلْحٌ.. وجدنا بابَها السرّيَ، لكنْ لم نجدْ مفتاحَهُ!؟

ـ مفتاحُهُ في قُفْلِ قافيتي..

أدرْهُ ينفتحْ لك مَسْرَبٌ للماءِ..

تَمنَحْكَ الشآمُ ـ على ضنًى ـ شفتيْن..

تَمْنَحْكَ ابتسامَتَها.. وزَهرتَها وعُشبتَها..

***

علي الجندي.

لقيتك مرّة.. وحدستُ هذا «شاعرٌ في شارعٍ»..

هل كان «ألبرتي» بسحْنتهِ.. وضحْكته؟

يؤرّخُ ضاحكًا، للبحرِ..

هذي اللاذقيّةُ.. من هنا.. مرّ الغزاة.. نعالهمْ من جلْدنا..

وكؤوسهمْ من طينِنا المَشويِّ (أعني لحمَنا)..

جاؤوا بلا رايات عيدٍ..

من هنا مَرَّ الحِناشِيّونَ عُبّادُ الأفاعِي..غاسلُو ذهبِ الملوكِ.. خزائن الخلفاءِ.. مرّوا.. ناسجُو السَّجّادِ.. مرّوا..

مرّ آباءُ الكنائسِ والمساجدِ.. مرّ تجّارُ الرقيقِ الآبَنوسِ.. ومرّ تجّارُ الخيولِ وحافظُو أنسابِها..

وُسَطاءُ وَحْيِ اللهِ مرّوا.. مرّ صُنّاعُ المناخلِ.. نحنُ حِنْطتهمْ .. ونحنُ شعيرُهمْ..

في عيْنِ طاحونٍ.. سيلقَمُنا ويلقَمُ حَبَّنا..

***

عبد القادر الحصني

قُلْ أين كانَ نبيّنا النجّارُ؟ أين الفلْكُ نوحٌ؟

جَذْلُ تَنُّوبٍ.. إزارُ سفينةٍ!

نُوحٌ! أهذا ما تبقّى منكَ؟

قلْ! أَهَربْتَ كالحيوانِ من ضيقٍ وضائقةٍ..

إلى جبلٍ.. هنالكَ في السماءِ.. مُعلّقٍ!؟

لا الماءُ غِيضَ ولا اِستَوى جِسْرُ القواربِ

إذ تمَوّرُ في أُجَاجِ الساحلِ السوريِّ..

ـ يا ابني ! يا ابنَ حِمصَ!

أنا الغريقُ.. فَمَنْ يدفّئُني؟

***

شاهر الخضرة

خَوَتِ النجومُ، ونحنُ نطرُقُ بابَ أوروبا.. أتفتَحُهُ لنا ؟

الطيرُ تبرحُ مثلنا.. ولقد تعلّمنا عِيافتهَا

وها أخذتْ بنا ذاتَ الشمال.. نقول سعادةُ الأسماك.. في أنهارها..

أنهارها من كأسه..

لم أغتمِضْ نوما!

ـ أتكتبُ؟ قلْ!

ـ «أليسٌ في بلاد الشام»

***

نزيه أبو عفش

صندوقُ ألوانٍ، وبعضُ قُماشِ رسْمٍ.. واقفًا..

مستنفدا ألوانَ رسّامٍ فلَندْرِيٍّ.. يُطلّ على دمشق، بلوحةٍ بُنّيّةٍ، وقصيدةٍ حَوْليّةٍ،

جُنّازُها لَحْمُ الحياةِ المُخمَليُّ وجلدُها؛

من شرفةٍ في بيته، في الطابقِ الغيميِّ حيث نزلتُ ليلا عنده..

ليكنْ قصيدتَهُ ولوحتَهُ!

***

أدونيس

في بستان قصّابينَ مشغولٌ

يرتّبُ بيتَهُ الأبدِيَّ: بيتٌ يستريحُ إلى حِجارِ الصيفِ..

مؤتمِنًا على أسرارهِ

نَوْرِيّةً.. وخصاصَ فلٍّ.. نرجسًا.. وأضاليَا.. وقصيدةً..

هل كان يبذلُ ضائعًا من أجل هذي اللانهايةِ؟

ربّما هي حلْمُنا!

لكنّ ما نبْنيهِ سجنٌ.. كلّ ما نبْنِي.. المنازلُ والمعابدُ ..

والمقابرُ والقصائدُ.. كلّها!

***

أبو العلاءِ

لنقلْ بصوتكَ أنتَ لا ثقةٌ لنا بالموتِ بعد اليومِ..

لا لإلَهنا القمريِّ..لا لسمائهِ هذي!

ونحنُ معلّقون بها على طرفيْنِ من حبليْنِ.. لا أرضُ الشآم تقلّنا..

(حزني عليْكَ!) ولا السماءُ تظلّنا..

هو خَاطَنا أمْ لمْ يَخِطْنا

يَصْرِفُ الأجسامَ في برّ وفي بحرٍ..

أقامَ بنفسه أمْ لمْ يَقُمْ

ولكلّ خطّ نقطتان

الكون نطفتهُ فسادٌ.. مثلُنا أو مثله.. حطبٌ رماد!

***

ريحٌ مؤاتيةٌ، وموجٌ هادئٌ، والبحرُ يسبقنا ويتبعنا.. بعيْنِ الهرّ.. إذْ يخضرّ أو يزرقّ..

صار البحر مقبرةً لنا شعب الملاحةِ نحنُ..

كانَ البحرُ من فوقٍ.. ومن تحتٍ.. يمينًا.. أو شمالًا..ما التفتنا..

وهي تمطرُ.. ثمّ تثلجُ..

ذا نعيقُ سفائنٍ.. قصبٍ نُصادُ به..

وقد عدلتْ بنا نحن الشآميّينَ، ريحٌ عن مهابّ الريح..

لم نمسكْ بضوئك يا شآمْ

 

اديب تونسي

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى