صفحات الثقافة

خيانة المثقف.. أو تخوينه!


فاطمة الشيدي

في ما مضى من زمن لم يكن بعيدا جدا ليصبح ماضيا مثلا، كانت الثقافة شرفا يدعيه الجميع، وينسبه لنفسه متفاخرا بهذه الصفة -صدقا أو كذبا – ؛ الساسة، ورجال الأعمال، وأصحاب المال، وأصحاب الجاه والمكانة العالية، وأحيانا حتى الحكام.

وكان الكثيرون يشترون ديكورات الصفة، الكتب، والأشعار بأموالهم ويدفعون مقابلها الكثير ليظهروا بهذه الصفة العالية، وأحيانا يتشبهون بالمثقفين في طقوسهم الخاصة، حركاتهم وملابسهم، حضورهم، وغيابهم، يحضرون جلساتهم ويرتادون مقاهيهم المفضّلة. وليس من باب الدعابة في شيء أن نتذكر الطرفة التي تحكي أن أحد الأشخاص أراد أن يصبح مثقفا، فأخذ يجول بين الناس ويسأل عن الحل الأسرع ليحظى بذلك، فأجابه أحدهم، ارتدي ملابسك بصورة عشوائية وغير متسقة، وضع في سيارتك في مكان مرئي كتبا لنيتشه وماركس وسارتر وبعض روايات ميلان كونديرا، وسفطات سمعية (أشرطة) لموسيقى كلاسيكية ولفيروز’ وهكذا تصبح مثقفا في عيون الجميع. لندلل على حرص الجميع على حيازة هذه الصفة كـ ‘برستيج’ مرغوب حتى لو كان حالة من حيازة الوهم ليس أكثر، حتى مع بعض الموسومين بهذه الصفة أصلا، جهلا كان، أو تصنعا.

ولكن الأمر اختلف اليوم فقد أصبح ‘المثقف’ مفردة مستهجنة من قبل الجميع،وأصبحت ‘الثقافة’ معنىً غريبا ومرفوضا، يتبرم منه الساسة والعامة وأحيانا المثقفون أيضا، بل أصبحت أحيانا كثيرة تهمة وعارا يتبرأ منها الجميع، ويلصقها بالآخرين تحقيرا وتصغيرا.

فالثقافة – كما أظهرتها الثورات العربية معنى مضلل جدا-، تبرأ منها الجميع بمن فيهم المثقفون أنفسهم، فالكثير من الشعراء والكتّاب سلوا أو انتشلوا أنفسهم من هذه الفئة الضالة والخائفة أو الخائنة حسب الكثير من التحليلات.

ولعل ذلك يعود إلى أن حالة الفرح والفزعة للحرية التي طالت المجتمعات والشوارع العربية بانحياز تام، وولوج مباشر وصاخب في عمق المشهد الدامي، قابلتها حالة من الرعب من الثورات ونتائجها ورفضها إجمالا، أو النظر إليها بتربص كبير من المثقف العربي، اعتمادا على ذاكرة دموية عنيفة للثورات التاريخية السابقة، وما خلفته من سقوطات وتحايلات على النتائج، أو سرقتها ممن لم يكونوا ضمن خطوطها وخطواتها الأولى، وبذلك كانت هناك حالة من التأني من المثقف في قراءة المشهد الذي كان يتضخم كل يوم ليصبح أكبر من فكرة التأني والقراءة والوعي، أو حتى التحليل والمنطق، ويحتاج للولوج مباشرة في المعترك الإنساني والانحياز التام للإنسان، مهما كانت الظروف والخطأ المحتمل، لأن الكفة غير عادلة بين سلطات قمعية جبارة بآلتها العسكرية، والإنسان البسيط بجسده ودمه فقط، والمثقف الحقيقي معني أبدا بدائرة الحق والخير والعدل والجمال كما نظّرت الأدبيات التاريخية، والإنسانية.

كان التعميم، والتهويل، والمطلق من الأحكام، موضع لبس وخطأ كبير وقع فيه الكثيرون، فماذا يعني مثقف؟ وماذا تعني ثقافة؟ ليشن الجمع كل هذا الهجوم عليها، ويتبرأ منها من يظن ذاته أكبر أو أصغر منها. وهل كل من ينتسب إلى هذه الصفة يستحقها؟ وهل يستحق الجميع كل دعوات التخوين والفوضى، والتجهيل والحروب التي شنت عليهم؟

فكلمة ‘ثقافة’ تحمل العديد من المدلولات والدلالات، وتحتمل الكثير من المنتسبين لظلالها بحق أو دون وجه حق. و’الثقافة’ حسب المعجم، كلمة تغيرت كثيرا حسب الزمان والمكان، بدأت من ‘ثقف السيف سنّه، وثقف الرمح براه، وثقَّف المعوجَّ سوّاه وقوَّمه ‘ وثقّف العود ‘، ثم امتدت لـ ثقَّف التِّلميذَ : أدَّبه وربّاه ، علّمه ودرَّبه ، وهذَّبه ‘ حتى وصلت ثقف الرأي أحكمه، والمثقف هو متوسِّع، مُتبحِّر في الثقافة والمطالعة’. وقد تذهب في التغيير أيضا خاصة بعد هذا العصر، تماما كما حدث مع الكثير من الكلمات التي أبحرت في تغييرها عبر العصور، كالأدب من مأدبة الطعام، حتى علَّمه رياضة النّفس ومحاسن الأخلاق والعادات، حتى الجميل من نتاج الكتاب نظما ونثرا. وما أنتجه العقل الإنساني من أنواع المعرفة، والتي أصبحت جزءا مهما من الثقافة.

وإذا كانت ‘الثقافة’ معنى يمكن القبض عليه نسبيا بالمعنى المعجمي والاصطلاحي في أقل تقدير، فالمثقف المنتسب إليها جبرا أو طواعية، وباستحقاق أو بشرفية عالية أو ادعاء ماكر، أو حتى بدس مسيّس ومقصود، هو معنى فضفاض تماما، ولا يمكننا القبض عليه، أو على تحديد واضح له، ولا تحديده بمعايير محددة، ولا حتى ببيان نقيضه كما درجت اللغة، فهناك متعلم، مقابل جاهل، وهناك عامل مقابل بلا عمل، فماذا يقابل المثقف؟ لا مثقف؟ وكيف يمكننا أن ننعت أي إنسان بأنه غير مثقف؟ فحتى الأمي قد يكون مثقفا رائعا وعميقا بالمعنى العام للكلمة، فهي لا تقتصر على من يعرف القراءة والكتابة، سيما وأن اليوم هناك أمية أخرى أكثر تصدرا هي الأمية التقنية، وهناك منذ القدم أمية الوعي والتفكير السليم، والانحياز الفطري للخير والحق والعدل والمساواة.

إذن المثقف معنى واسع، ويحمل الكثير من الوجوه والاحتمالات، والأصناف، والضمائر، والأخلاق، والوعي، والعمق، والحكم المطلق على المثقف بالشرف أو بالخيانة، بالضمير أو بانعدام الضمير حكم ناقص ومجزوء، فكما كان هناك الكثير من المثقفين خذلوا الإنسان في داخلهم وفي أوطانهم، بل وشنوا حملات التشويه لكل القيم الإنسانية الراقية كقيم العدالة والحرية، هناك من انتصر للإنسان والضمير والعدالة بروحه وجسده وقلمه، وهناك من تعامل بوعي وقراءة عادلة للثورات وللتاريخ، منحازا للإنسان، رافضا للعنف والكراهية والدم.

فلماذا هذه الهجمة الخاصة والموجّهة والعنيفة على المثقف تحديدا في الثورات العربية؟ هل هي هجمة مسيّسة وقديمة، ووجدت الآن مساحة لتفريغها، والفرصة للنيل منه، ومن مواقفه التاريخية القديمة والمتأصلة والمناضلة ضدها، كتسوية حساب بين الحكومات العربية، وهذه الشوكة التي كانت ولازالت عالقة في حلوقهم بالنقد والكتابة والتوعية؟ فالمثقف العربي (الإنساني والواعي والشريف تحديدا) كاحتراز لغوي، منذ زمن وهو يحارب في جبهته الخاصة وبأسلحته الضئيلة وسراجه الشحيح، وبإيمان راسخ بقيم الكلمة والحرية في بناء وتقدم الشعوب ضد قوى القمع من جهة، وقوى الظلام والتخلف والجهل من جهة أخرى.

ولكن للأسف الشعوب اليوم لم تتفهم هذا الدور التاريخي الكبير والطويل والممتد للثقافة والمثقف في صناعة الوعي بالحريات، والحض عليها، ولم تتفهم لم حورب المثقف ونفي، وغرّب وعزل عن الحياة، فهل كانت هذه الإقصاءات والمضايقات إلا خوفا من صناعة هذا الوعي الذي نزل للشارع اليوم؟ حيث كانت الحكومات العربية، وقوى الظلام ولازالت تدرك أن الثقافة في منطلقها الأساس وعي يهدد مصالحها السياسية والمؤدلجة، حيث تفتح أذهان العامة على مفاهيم الحرية والعدالة. ولكنها (أي الشعوب العربية) – والذي تبنى المثقف مصالحها ودافع عن حقوقها وحرياتها منذ زمن طويل، وضجت السجون العربية هلعا من الكلمة المناضلة- رأت في المثقف موازيا للكفر والعلمانية، ومحرضا على الإلحاد والشر، وكثر التخوين والتشكيك في مصداقية المثقف في الشارع العربي المغتسل بالدم. وكفرت بالكلمة لم وتؤمن إلا بالدم فقط، ولا لوم عليها، فالدم أكثر بلاغة من كل أضابير الحريات، وكتابات المنظرين، ولكن لابد من الوعي بقيمة هذا التاريخ الطويل من الكتابات في تأجيج الروح، وتثبيت الإيمان، وصناعة العزيمة، وتفجير الوعي في الشارع العربي الذي نام طويلا.

ولعل الأمر في علته الأعمق أيضا يعود للعقلية العربية التي لا تملك وعيا ثقافيا وسياسيا واجتماعيا بمفهوم الاختلاف والتعدد، ولم تربى (بمنطق تسييس مقصود وواضح) إلا على الرؤية الأحادية، وفكرة الشقاق والتخوين والخوف من كل جديد.

فالحالة العاطفية العربية القائمة على الحنين والشجن والمستندة إلى التشبث بالماضي والتغني به، والقمع الحكوماتي القائم غالبا على حكم العسكر لفترات تاريخية طويلة، أفرز حالة عربية مرتبكة قائمة على الضجيج والتهويل، والتجريح والإقصاء، والتعنت والعصبية، حالة محكومة بمنطق من ليس معي فهو ضدي، وبوضع سلة البيض الذي يوضع فيها الجميع بلا تفنيد، ولا تحديد، وهذا خطأ فادح، ونقد مرتبك، فهناك المثقف الشريف، وهناك اللامثقف أصلا والذي أدخل نفسه في زمرة المشهد تكالبا وطمعا في عطاياه وصفاته.

بل وفي حالة موازية للمشهد، ولعلها الأكثر ألما، ظهرت مشكلة ‘الناس أعداء لما جهلوا’ كحكمة يطبقها بعض الشارع العربي بجدارة متناهية في الانحياز العاطفي التام لما عاشوه من ذل وفقر وتسلط وقمع، والدفاع عنه ضد أي جديد قادم، أو فكر مختلف، مهما كان يحمل من وعود بالتغيير، لأنهم يخشون ويرتعبون من الجديد الذي لم يختبروه بعد حتى لو كان هو الأجمل، ولذا فلا عجب أن ظهرت كحالة عربية مرافقة للثورات أو حتى الحركات التحررية أو الأصوات النقدية، حالة مدافعة عن حكومات القمع باللسن الحادة والتهجم الحقير، والنقد اللاأخلاقي، أو حتى بالسلاح ضد أهلهم وذويهم وهو ما يعرف اليوم بـ ‘بالشبيّحة’ كمصطلح لغوي جديد أفرزته الثورات العربية فيما أفرزت، وبذلك تظهر حالة انقسام مجتمعية، وينحاز الكثيرون للمصلحة القائمة على المادة أو مبررات أخرى كالميل أو الانتماء المكاني أو الخوف، وبالتالي يظهر طرفان متخاصمان أحدهما يملك القوة (العسكرية والمادية)، والآخر يملك الأفكار الجديدة والطاقة النقدية، مع وجود مشجعين لكلا الفريقين غير متناسبين بالضرورة.

ولا يحدث أي مظهر للانسجام أو الاندماج أو حتى التعاون، مع أن اتحاد الطرفين أو الأطراف جميعها، يمكن أن يخلق حالة أكثر إيجابية وأكثر فائدة للشعوب والحكومات معا. ومن نافل القول ان استيعاب الحكومات للطاقات النقدية والأفكار الجديدة قد يدفعها للأمام، ويثبت دعائم حكمها، ويمدها بالحيوية والنشاط، ويقضي على أي قلقلة أو نقد خارجي، وهذا ما يحدث في الغرب، ولكن هذا ما لا يحدث غالبا عربيا.

وكهذه الحالة المجتمعية الفصامية لا يمكن أن تفضي إلى منهجية عقلية، أو منطق تأريخي، أو نقد بنّاء في التعامل مع مشكلات المجتمع والسياسة المعاصرة، ولا إلى الوصول لعصرنة الحياة، والديموقراطية التي يريدها الشباب.

إن مفهوم الثقافة واسع ومتعدد، ويفترض ضمنه كل من يتعاطى مع الفكر والثقافة والتاريخ والتحليل والمساءلة، كما يفترض وبالضرورة الاختلاف والتعددية في وجهات النظر، وفي قراءة الأحداث، وفي التعاطي مع كل جديد، ومع مفصل تاريخي كالثورات العربية، كما يفترض التعددية في الحكم على المثقفين وعدم النظر إليهم بمنظار واحد وحكم مسبق.

كاتبة وأكاديمية من عُمان

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى