صفحات الثقافة

دون كيشوت.. الفارس المتجول الذي حارب طواحين الهواء/ حمزة المجيدي

 

 

أعظم الروايات

إنها بدايات القرن السابع عشر حيث لا سلطة اليوم إلا سلطة العقلانية التنويرية، أينما يمّمت وجهك في القارة الأوروبية ستجد أصداء تلك الاكتشافات المعرفية الهائلة التي أغرت وأغوت العقل الأوروبي، وجعلته معتداً بذاته واثقاً من قدراته التي بدت في تلك اللحظة التاريخية أنها قدرات لا متناهية.

في فرنسا كان الفيلسوف الشهير رينيه ديكارت يصوغ التصور الجديد للإنسان، التصور المتجسد في مقولة (الكوجيطو/الذات العقلانية) التي تقتحم الكون وتكتشف أسراره، وكان ديكارت يكتب “أنا أفكر إذن أنا موجود”، التي ستصبح في غضون فترة وجيزة علامة على صياغة إنسانية جديدة تقوم على اعتبار أن الوعي والعقل هو أساس الوجود.

أما في إنجلترا فقد كان الفيلسوف الآخر جون لوك يعمل على كتابة مؤلفيْه “مقالة في الفهم الإنساني” والآخر “عن العقل البشري”، اللذيْن خصصهما للرد على أطروحة الفيلسوف الفرنسي ديكارت، بالتأكيد لم يكن الجدال بينهما حول قدرة العقل على الوصول إلى الحقيقة، فهذا النقاش قد بات محسوماً اليوم[1]، إنما كان الجدال يجري حول أي المنهجيات التي ينبغي توسلها للوصول إلى الحقيقة، هل هو المنهج (التجريبي/الاستقرائي) كما يذهب لوك، أم أنه المنهج (العقلي/الاستنباطي) والذي يتبناه ديكارت.

وفي هذا المناخ الفكري الذي ساد في عصر التنوير الأوروبي كان الروائي الإسباني الشهير ميخائيل دي سرفانتس يفكر في صياغة شخصيته التي بدأت ملامحها تتكشف الآن، هذه الشخصية التي ستجسد في اندفاعاتها العاطفية وتخييلاتها وتوهماتها غير العقلانية وهوسها بأدب الفروسية وأخلاقه البائدة، وستجسد القطيعة المعرفية مع التصورات الغيبية القديمة للعالم التي أنجزها التنوير الأوروبي؛ حيث كانت تلك الشخصية لا تزال تتمثل العالم بصورته السحرية غير العقلانية.

إنها شخصية “دون كيشوت” التي سيولد بولادتها فن الرواية الحديثة، والتي ستصبح بعد ذلك علامة فارقة في تاريخ تطور السرد الروائي من جهة، وعلامة على النقلة المعرفية التي حدثت في تلك الحقبة والقطيعة بين الزمن التقليدي بكل منجزاته الثقافية والفكرية والأدبية، والولوج إلى الزمن الحديث، “زمن العقل والحسابات الكمية التي لا ترتهن إلى استيهامات الخيال وخلجات الوجدان”[2].

الفارس المتجول

تدور أحداث الرواية حول رجل طويل القامة وهزيل البنية ناهز الخمسين عاماً، إنه ألونسو كيخانو الذي سيطلق على نفسه لاحقاً اسم “دون كيشوت”، والذي يعيش في واحدة من قرى إسبانيا إبان القرن السادس عشر أي في بدايات عصر النهضة.

قضى ألونسو أيامه من الصبح إلى الليل ومن الليل إلى الصبح” في قراءة أدب الفروسية، حتى إنه كان يبيع قطعاً من أرضه ليشتري بها كتباً عن الفروسية، وقد انتهى به هذا الهوس الشديد بالفروسية إلى فقدانه لصوابه وخلطه بين أوهامه والواقع.

فقد بلغ الهوس بألونسو إلى الحد الذي يقرر فيه استعادة أمجاد الفرسان الجوالين ويقوم بمحاكاة سيرهم في نشر العدل ومساعدة المستضعفين والدفاع عنهم، يقول ألونسو “لقد وُلدت في هذا العصر الحديدي لكي أبعث العصرَ الذهبي”[3]، ولذا فقد أعد عدته للقيام بهذه المهمة العظيمة فقام أولاً باستخراج سلاح قديم متهالك خلّفه له أجداده الغابرين فأصلح فيه ما استطاع، ثم لبس درعاً وخوذة وحمل معه سيفاً ورمحاً وامتطى صهوة جواد أعجف هزيل.

في واقع الحال فقد كان في هذا الجواد المسكين المتهالك من الأسقام والأوجاع أكثر مما كان فيه من الأعضاء السليمة، كان كل ما تبقى منه هو الجلد والعظام وحسب، ورغم ذلك ارتأى صاحبنا أن جواده هذا لم يكن له مثيل في العالم حتى إنه “لم يكن ليبادله بجواد الإسكندر” وعلى مدى أربعة أيام لاحقة، ظل يفكر في اختيار اسم فخم كي يطلقه على جواده؛ إذ من غير اللائق لفارس عظيم مثله أن لا يكون لجواده اسم يُـتَعارف عليه بين الناس، وقد اهتدى آخر الأمر إلى إطلاق اسم “روثينانته” عليه.

بهذه الهيئة التي تشبه فرسان الزمن الغابر -الذين انقرضوا منذ عقود خلت- انطلق دون كيشوت -لقد أصبح هذا اسمه منذ هذه اللحظة- في رحلته نحو المجد، وبينما همّ بالخروج رأى أنه لا بد له من سيدة يحبها إذ أن الفارس الجوال إذا خلا من الحب غدا كالجسد بلا روح، ثم سرح بخياله بعيداً إلى حد تصور فيه أنه يواجه عملاقاً من العمالقة، كما يقع في الغالب للفرسان الجوالين، فإذا ما صرعته بضربة واحدة أو قطعته بالسيف نصفين، أفلا يكون من المستحسن أن أجد من أهديه هذا النصر”[2]؟

وهنا أطرق مفكراً وباحثاً عن تلك التي ستكون سيدة قلبه، إلى أن تذكر أنه وقع بشبابه في غرام ابنة فلاح من قريته كانت تدعى ألونزا لورنسو؛ لكنه مالبث -كعادته في تغيير الأسماء- يبحث لها عن اسم لا يقل نبلاً عن اسمه، فاهتدى أخيراً بعد طول بحث وتنقيب إلى إطلاق اسم دولثينا دي طوبوزو عليها.

هاهو فارسنا قد لبس درعه وصقل سيفه واتخذ خليلة له كي يهديها انتصاراته الساحقة المرتقبة، ولم يتبقّ له سوى شيء واحد وهو اختيار مرافق مخلص له؛ فاختار لهذه المهمة سانشو الفلاح الساذج البسيط الذي وافق أن يكون تابعاً له على أن يجعله دون كيشوت حاكماً لإحدى الجزر التي سيحررها في مغامرته هذه، وكان سانشو ضخم الجثة وقصير القامة بعكس صاحبنا، وهنا تأتي أولى المفارقات في هذه الرحلة التي لم تخلُ من المفارقات العجيبة والمضحكة.

وبعد أن هيأ كل شيء للخروج لم يعد دون كيشوت يطيق الانتظار أكثر مما انتظر؛ إذ كان يشعر أنه كلما تأخر في خروجه كلما ازدادت المظالم وتراكم عناء البشرية وشقاؤها، وهو ما كان يثقل كاهله ويشعره بتأنيب ضمير، أولم يكن بمقدوره -وهو الفارس المغوار- أن ينهي عذابات البشرية ويضع حداً للمظالم لولا تراخيه وتكاسله؟

وينطلق دون كيشوت شاقاً طريقه نحو العلا، وخلال مسيره يصادف فلاحاً يضرب غلاماً له، ويصاحب كل ضربة بزجرة ونصيحة، إذ كان يقول له “ليخرس لسانك ولتفتح عينك”، فيجيبه الصبي “لن أفعل هذا يا سيدي مرة أخرى، بحق الله لن أفعله مجدداً، وأعدك من الآن فصاعدًا أن اعتني بالقطيع كل العناية”.

وما إن شاهد دون كيشوت هذا المنظر حتى أخذ يزمجر بصوت غاضب “أيها الفارس القليل الأدب، لا يليق بك أن تهاجم من لا يستطيع الدفاع عن نفسه، اركب فرسك وخذ رمحك وسأريك أن من الجبن أن يفعل المرء ما تفعله الآن”.

يستولي الخوف على هذا الفلاح وهو يشاهد منظر دون كيشوت ممتطياً صهوة حصانه لابساً درعه وخوذة رأسه وشاهراً سيفه بوجهه وتسري في جسده قشعريرة الموت؛ لكنه حاول أن يتمالك نفسه فأخذ يستعطف الفارس بكلمات رقيقة “سيدي الفارس هذا الصبي الذي تراني أعاقبه إنما هو خادمي الذي يحرس قطيع الغنم؛ لكنه مهمل إلى حد أنه في كل يوم تُفقَد واحدة منها ولأني أعاقبه على كسله؛ بل لعلي أعاقبه على لؤمه وهو يدعي أني أفعل هذا عن لؤم وخسة لكيلا أدفع إليه ما عليّ من أجر”.

هنا اشتط غضب دون كيشوت وأخذ يزمجر بصوت أشد من ذي قبل “بحق الشمس التي تضيء لنا لا أدري ما الذي يمنعني من أن أولج رمحي في جسدك فيخترقه من الجانبين، ادفع له في الحال ودون أن تنبس ببنت شفة، وإلا أقسم بالله أن أقضي عليك قضاء مبرماً في التو”.

أخذ الفلاح -بعد أن فك وثاق الصبي- يتعهد ويقسم على أن يدفع للغلام ماله من النقود عليه؛ حتى إنه تعهد بدفع الفوائد المترتبة على تأخره، فقال له دون كيشوت “إني أعفيك من الفوائد؛ بل ادفع له عدا ونقداً وحذاري من أن لا تنجز ما أقسمت عليه، وإلا وبالقسم نفسه لأعودنّ للبحث عنك وأعاقبك أشد العقاب”.

وما إن يمضي دون كيشوت في استكمال رحلته مزهواً بانتصاره الأول الذي حققه لتوه، وقد استخفه الطرب حين رأى أن تنفيذ مشروعه العظيم قد بدأ يتحقق بهذه السهولة[2]، حتى عاد الفلاح إلى سالف عهده في تكبيل الخادم وتعذيبه ساخراً من سذاجة ذلك الفارس وخفة عقله.

كانت هذه أولى الحوادث التي صادفت دون كيشوت في طريقه، وقد امتلأ هذا الطريق بعشرات القصص والحوادث من هذا النوع، إلا أن أشهرها وأكثرها طرافةً كان صراعه مع طواحين الهواء التي توهم أنها “شياطين لها أذرع هائلة تقوم بنشر الشر في العالم”، قام دون كيشوت بمهاجمة طواحين الهواء فغرس فيها رمحه؛ لكنه علق بها فرفعته إلى الهواء عالياً ثم طوّحت به أرضاً فرضّت عظامه، وعلى هذه الحال ما كان دون كيشوت يفلت من خطر إلا ويقع في آخر.

لم يسلم سانشو التابع المسكين من نزوات سيده التي أوقعته غير مرة في الأذى، فرغم كونه شخصاً مسالماً وبسيطاً يتوخى دائماً عدم الوقوع في المشاكل؛ لكن هذا لم يكن كافياً لتجنيبه المخاطر التي يقحمها بها دون كيشوت؛ إذ أنه لما كان هذا الأخير فارساً نبيلاً فإنه لم يكن باستطاعته إلا مواجهة نظرائه من الفرسان، تاركاً لسانشو عشرات المهمات الصغيرة التي خلفت في وجهه وجسده عشرات اللكمات والضربات.

وفي نهاية المطاف يُقعِد المرض دون كيشوت على فراشه لسبعة أيام وليال، فيأتي الطبيب ليعاينه فيجد أنه لا أمل من شفائه، وفي إحدى تلك الليالي يستفيق دون كيشوت من جنونه ويعود إلى رشده آخذاً في لعن الفروسية؛ إذ يقول “لقد كنت مجنوناً والآن صرت عاقلاً، لقد كنت دون كيشوت دي لا منتشا، والآن كما قلت لكم ألونسو كيخانو”.

لقد أراد سرفانتس من خلال نصه الروائي كما ذكر في مستهلّ روايته “تحطيم سلطان روايات الفروسية -التي أكل عليها الدهر وشرب- ومنع انتشارها في المجتمع الراقي وبين أوساط الناس البسيطة”[3]، إلا أننا إذا أمعنا في النص فإننا سنجده -كما يقول د.الطيب بوعزة “متناً ساخراً من كل شيء من الفروسية الزائفة ومن الأديرة وطقوسها ومن محاكم التفتيش ودمويتها الوحشية؛ إنه متن نقدي يتوسل مختلف طرائق السخرية اللاذعة لتسفيه الواقع برمته”[2].

مكانة مرموقة

وفي تصديره لترجمة الطبعة العربية للرواية يقول عبدالرحمن بدوي إن “روائع الأدب العالمي أربع هي الإلياذة لهوميروس، والكوميديا الإلهية لدانتي، ودون كيشوت لسرفانتس، وفاوست لغوته”، وفي واقع الحال فإن بدوي لم يخطئ في وضع دون كيشوت ضمن مصاف روائع الأدب العالمي؛ حيث تثبت الرواية بعد أربعة قرون من إنتاجها أنها لا تزال غنية وثرية، وقادرة على الانفتاح أمام تأويلات عصرية وراهنة، وليس أدل على ذلك من حرص النقاد والفلاسفة والمؤرخين على دراستها حتى يومنا هذا.[4]

لقد استطاعت رواية سرفانتس أن تجد لنفسها موطئ قدم في التراث الإنساني برمته، ولم يقتصر تأثيرها على مجرد النقل والترجمة إلى معظم اللغات الإنسانية وحسب؛ بل باتت شخصية رمزية تشير إلى نمط من التفكير والأسلوب الحياتي[3]، وقد استوحت منها الثقافات المختلفة رموزاً وأفكارا لا تحصى، وقامت باستدخالها في تراثها الفكري والأدبي.

وفي الأدب العربي المعاصر تحضر شخصية دون كيشوت في أكثر من نص أدبي، وقد تعددت دلالات حضوره بحسب السياق الذي يورده صاحبه، فتارة يظهر دون كيشوت كرمز يدل على الفوات والغفلة، كما يشير لذلك الشاعر العراقي وليد الصراف في بيت شعري له إذ يقول

بينما يأتي في قصيدة للشاعر السوري ممدوح عدوان حملت عنوان “دون كيشوت في رحلته الأخيرة” كرمز/بطل يحمل جذوة الحق في روحه، ويقرر مواجهة العالم المتداعي والبارد/القاحل وحيداً حتى النهاية، رغم كل أحزانه في المنفى وهزالة جسده وتقوس ظهره ووجهه الشاحب؛ لكنه مع ذلك يبقى الفارس الأخير لهذا العالم[5].

لقد كان دوستويفسكي مسكونًا بشخصية دون كيشوت، إلى الحد الذي كتب فيه “في العالم كلِّه لا يوجد مؤلَّف أعمق وأقوى من هذا. هذه هي الكلمة الأخيرة والأسمى للفكر الإنسان”ي

بكساباي

وغير بعيد عن هذا المعنى يستلهم الأديب الروسي فيودور دوستويفسكي من شخصية دون كيشوت معالم شخصيته الطيبة ذات المشاعر المتدفقة والحساسية العالية تجاه الخير والعدل والقيم النبيلة التي كرس نفسه لنشرها في هذا العالم الموحش، إنها شخصية الأمير ميشكين في رواية الأبله والذي كان يطرب حين يناديه أحد باسم “الفارس الفقير” في إشارة إلى دون كيشوت[6].

لقد كان دوستويفسكي مسكونًا بشخصية دون كيشوت، إلى الحد الذي كتب فيه “في العالم كلِّه لا يوجد مؤلَّف أعمق وأقوى من هذا، هذه هي الكلمة الأخيرة والأسمى للفكر الإنساني، إنها أكثر أنواع السخرية التي يمكن للإنسان التعبير عنها مرارةً وإذا انتهت الحياة على الأرض، وسُئل البشر هناك في مكانٍ ما: ماذا! هل فهمتم حياتكم على الأرض؟ وما الذي استخلصتموه منها؟، فيمكن للإنسان تقديم دون كيشوت في صمت: هذه هي خلاصة حياتي، فهل يمكن لكم إدانتي عليها؟”[3]

نكاد لا نعثر على ثقافة اليوم لا تحضر فيها شخصية دون كيشوت، ويرجع هذا الحضور الكثيف لهذه الشخصية لما تمثله من أسلوب/نمط في الرؤية إلى العالم وتمثّله، فكل إنسان مهما بلغت عقلانيته وموضوعيته في التعاطي مع الواقع؛ فإنه يظل يحلم بعالم موازٍ عالم مثالي تتطابق فيه تصوراته وأحلامه الذاتيه مع العالم الخارجي وهو ما دأب دون كيشوت على فعله[4].

ميدان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى