صفحات الرأي

مستبدّون لكنهم متشابهون جداً


شاكر الأنباري

كان النموذج لظاهرة الحكام العرب وتفردهم في السلطة هو صدام حسين، حيث ربط بقاء العراق كبلد موحد ببقائه، فكان ان ادخله بثلاث حروب خاسرة، وبقي يعتبر نفسه منتصرا الى ان اقتلعته قوات التحالف في التاسع من نيسان ألفين وثلاثة من كرسيه الاسطوري الذي حافظ عليه بثمن بلغ ملايين الضحايا، ومئات مليارات الدولارات احرقت على الجبهات، وتشرد ملايين من الشعب الى دول الجوار، وانهيار اقتصادي، واجتماعي، وسياسي، لم يشهده العراق منذ تأسيس الدولة في عشرينيات القرن المنصرم. هو نموذج للحاكم الذي يربط وجود البلد ببقائه على الكرسي. هذه الأثمان يدفعها اليوم أكثر من بلد عربي لكي يبقى الحاكم في السلطة، ومن بين هؤلاء النموذجان الفاقعان وهما معمر القذافي وبشار الأسد.

ومن يتأمل في هذه الظاهرة، ظاهرة الحكام، يستغرب لوجود تشابه كبير بينهم، يصل أحيانا الى درجة التطابق، كما لو أنهم تخرجوا من أكاديمية واحدة، يمكن تسميتها بأكاديمية الرؤساء العرب. الأكاديمية التي لا يجد لها المرء مثيلا لا في الشرق ولا في الغرب. ويأتي التشابه في اكثر من سلوك وفعل، اذ لاحظنا من خلال الأزمات التي عاشتها معظم البلدان العربية، ان ثمة تطابقا بعض الأحيان في اللغة، والمصطلحات، وحركة الجسد، والانفعالات، والشتائم المستخدمة من قبل اولئك الحكام. تعاملهم مع ما كان يجري في بلدانهم كاد ان يمتلك الرؤية ذاتها، الأمر الذي يزيد من حقيقة تشابه العقليات، والرؤى، والمعتقدات، في مقاربة اللحظة الوطنية والعالمية الراهنة.

هم بالمحصلة، وكما لوحظوا خلال أزمات بلدانهم، خارج التاريخ. يتحرك العالم في مسار وهم يتحركون في مسار معاكس، تلفهم حزمة من الأوهام، والبديهيات، والأحكام الجاهزة، ليثبتوا من خلال ذلك انهم لم يكن لديهم، في ايما مرحلة سابقة، تواصل حقيقي، لا مع شعوبهم ولا مع العالم ومنطقه، ومنظوماته، ودبلوماسيته. آخر خطاب لبشار الأسد كان مثالا واضحا على انفصاله شبه الكامل عن حقيقة ما يدور في سورية، وعن المخاطر الهائلة التي تواجه هذا البلد.

تجاهل ما يحصل من كوارث في بلد الحاكم سمة ملازمة لمعظم اولئك الحكام.

في ليبيا قبل الانتصار بثت الفضائيات العقيد القذافي وهو يلعب الشطرنج مع أحد ضيوفه، فيما كانت ليبيا تلتهب بنيران الثورة والتمرد. هو يريد ان يثبت للعالم انه قوي، وانه لا يعير اهمية للمآسي الحاصلة في البلد، وكأنه بذلك يؤكد صحة وصف البعض لهكذا حكام بانهم فقدوا الارتباط بواقعهم منذ زمن طويل. اسلوبهم في ادارة الدولة قائم على تقارير الحاشية، ودوائر الأمن والمخابرات التي لا تعكس سوى الصورة التي يرغب فيها الحاكم. وللأمر وشيجة ايضا مع فكرة التشبث بكرسي الحكم، حتى آخر رجل في الدولة. رسالة القذافي، لاعب الشطرنح على نور حرائق ليبيا، كانت تريد القول ان كل ما يجري في البلد لا يهز ثقة الرئيس بنفسه وحكمه، وهو ترميز لاحتقار شديد للشعب الذي يحكمه. هم حسب قوله جرذان، ومكبسلون، وقطاع طرق، وهو وصف استخدم من اغلب الحكام العرب لوصف تمرد شعوبهم، بهذه الصيغة او تلك. في سورية متآمرون وسلفيون وخونة، وفي اليمن ارهابيون وانفصاليون، وفي مصر تحركهم قوى خارجية، وفي تونس كذلك، وكأن الحاكم العربي لا يرى في شعبه سوى ذلك النمط من المواطنين، يقابلهم نمط العبيد الذين ينبغي ان يحتفظوا بأغلالهم. عبيد عليهم أن يطردوا من رؤوسهم قاموس التمرد، والثورة، لكي يحظوا برضا الرئيس، الزعيم، القائد، العقيد، ملك الملوك، وأمير الأمراء.

اما انا او الفوضى، هي المقولة المحببة لدى الحكام العرب، وهذا يوحي باعتقادهم انهم فوق البشر، اي لا تنطبق عليهم القوانين الانسانية التي يسير عليها العالم المتحضر في الشرق والغرب، الشمال والجنوب. وطبعا المؤسسات الشكلية التي اوجدوها كالدستور، والقانون، والقضاء، والوزارات، والمحافظات، وحتى المنظومات الكهنوتية، عليها ان تؤيد هذه المقولة. لا تناقشها. والا فالطرد من جنة السلطة يمكن ان يحصل في اي وقت، ولأي كان. المفارقة في معظم البلدان الثائرة تلك ان الأحداث اثبتت ان هناك فجوة هائلة بين الحاكم والشعب، الحاكم ظل على قناعاته الصلدة العتيقة في ادارة اقطاعيته، رغم الاحتجاجات والتمردات والنصائح والكوارث اليومية، والشعب الذي وجد نفسه في زمن الحداثة، وحقوق الانسان، والحريات الشخصية، والمساواة. الحاكم ميت والشعب حي، الشعب الذي يتفاعل مع حاضره بكل قوة.

لقد فقد الحاكم مرونته، جسديا ومعنويا، وهذا ما يلاحظ حتى في سلاسة الكلام اثناء الخطب التي يلقيها، فهو يتفوه بكلام متعثر، مرتبك، غير مترابط، مباشر ومنفعل، يكشف عن اعماق خاوية سببتها بلادة السلطة التي استمرت عشرات السنين. من يتذكر صدام حسين في أواخر أيامه وهو يتحدث، يستحضر الكلام غير المترابط، والعنجهية في المفردات، والرطانة التي لا علاقة لها بواقع الحال. وكان آخر ظهور لعلي عبدالله صالح وهو على سرير المرض صادما. ظهر بوجه محروق، وملفوف الرأس واليدين، وبدا وهو يلقي حديثه الى العالم، عبر الفضائيات، كما لو أنه مومياء. كان واقع الرجل هو ذاك، اما كلامه فيحمل كل مواصفات حاكم عربي قوي، متجبر، يتشبث بالسلطة عبر كل خلية من خلاياه المحترقة، غير آبه للملايين المتظاهرة في تعز وصنعاء وأبين، في الأسواق والطرقات، مع انشقاق نصف مؤسسته العسكرية.

أزمة الحكام العرب التي نراها في دول عديدة اليوم، تكاد تنطبق على الجميع، حتى في الدول الأقل تأزما. وهي لم تأت من فراغ بالتأكيد، بل جاءت نتيجة عقود من الحكم المنحرف والشاذ. الحكم المتمثل بوجود طبقة سياسية فوق القانون، ينتمي اليها الرئيس ذاته. تلك الطبقة مارست الفساد والافساد، وبرعت في تزوير الانتخابات، وفرّغت العقل، وجيّرت البلد لمصالحها الخاصة، وتحالفت مع الشيطان لبقائها في الحكم تحت مظلة الرئيس. ولم تستفد، جميعها، من دروس التاريخ كونها لا تقرأ ولا تريد أن تسمع وتتعظ، وجعلت من سلطة المال والنفوذ بديلا عن المعرفة والانفتاح والتعدد السياسي. ومارست أعنف تزوير لحقيقة الدين كي تحوله الى دعامة من دعائم السلطة، وتتحمل مسؤولية ما في انتشار ظاهرة التطرف والدموية التي تشيع في البيئات العربية.

من هنا ليس غريبا القول ان ردات فعل معظم الرؤساء العرب لن تختلف، في حالة حدوث ازمة وطنية، عما سار عليه العقيد، وعلي عبدالله، ومبارك، وزين العابدين، وبشار الأسد، ومن قبلهم صدام حسين.. هم انموذج لمؤسسة رئاسية عفا عليها الزمن، وتجاوزها تطور الشعوب التائقة الى حياة أفضل.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى