صفحات الثقافة

لغز «الأنا» في الرواية

هيثم حسين

 ما السرّ وراء تواجد «الأنا» في الرواية واستمراريّتها كعنصر فنّيّ مكرّر متجدّد؟ لماذا تتمّ الاستعانة بـ«الأنا» في غالبيّة الروايات؟ هل يعكس هذا الضمير الأنانيّة أم أنّه يبدّدها؟ هل يعدّ الأقرب إلى الكاتب باعتباره يحيل إلى الذات دون موارَبة أو لجوء إلى الآخر أم أنّه يبعد عن الذات بذريعة الاقتراب منها؟ هل هو نوع من مواجهة العالم عبر مرآة الذات؟ هل يحيل إلى غرور ما عبر جعل الذات مركز الحدث وبؤرة الغواية والرواية معاً؟

تتبدّى الأنا لغز الرواية المكشوف الذي لا يفتأ يلاحق الروائيّين. تتخلّل الأنا معظم الأعمال، حتّى تلك الروايات التي يجهد كتّابها إلى اعتماد تعدّد أصوات ورواة لا تفلح في التخلّص من هذا الضمير المتجاوز لسلطته، والباحث عن تجلّياته في الآخرين من قرّاء وشخصيّات روائيّة متباينة.

ربّما يروم كلّ روائيّ من خلال الأنا إلى تقديم تصوّره عن عالمه وأناه في الوقت نفسه، سواء كان ذلك جسراً إلى العالم أو إلى دواخله، ويكون الانفتاح على الذات سبيلاً إلى الانطلاق نحو الآخر. وقد شغلت هذه «التقنية» بال كثير من الروائيّين بطريقة أو بأخرى، سواء عبر اللجوء إليها أو الحديث عنها، ولا تبدو البساطة التي توحي بها إلّا مزيجاً من التعقيد والغموض.

في أحد حواراته يؤكّد ميلان كونديرا على أنّ جميع الروايات في كل زمان تعكف على لغز (الأنا)، ويقول: «ما أن تبتكر كائناً خيالياً، شخصية قصصيّة، حتّى تواجه آلياً السؤال التالي: ماهي الأنا؟ وبمَ يمكن إدراك الأنا؟ إنّه واحد من هذه الأسئلة التي تقوم عليها الرواية بوصفها كذلك». ثمّ يعقب تصوّره المتسائل بتأكيده الذي يحمل إجابة وسؤالاً في الوقت ذاته، حين يقول: «إنّ الطابع المعقّد للفعل هو أحد اكتشافات الرواية الكبرى. ولكن إذا لم يكن بالإمكان إدراك الأنا في الفعل، فأين وكيف يمكن إدراكها؟ هَهنا تأتي اللحظة التي توجب على الرواية في بحثها عن الأنا أن تهمل عالم الفعل المرئي لتعكف على اللامرئي في الحياة الداخلية».

الأنا تحضر بالفعل في مجال القول الروائيّ، ولا يكون السؤال عن ماهيّتها وسبل إدراكها سوى تركيز على دورها المتجدّد، ويكون الخطاب نحو الآخر وسيلة من وسائل التمرئي، بحيث تغدو الأنا معبّرة عن الـ “هو” والـ”نحن” وجميع الضمائر المفردة الغائبة والمخاطبة التي تحضر في سياق خطابها الروائيّ، أو الأدبيّ عموماً. لأنّ الأنا تتصدّر واجهة الاهتمام والتعبير. ولا يقتصر دورها على الإمساك بزمام السرد والنهوض بدور الراوية فقط، ولا يكتفي بالحالة بقدر ما يتحوّل إلى ظاهرة متجاوزة للحقب والأمكنة.

في القول الشعريّ كذلك يحضر فعل الأنا كمواجهة ضدّيّة، «مَن أنا لأقول لكم ما أقول..؟!»، حين يستهلّ محمود درويش قصيدته «لاعب النرد» بهذا التساؤل، وهو يدرك مدى دوره ووجوده وتأثير قوله، ليكون السؤال عن الأنا موجّهاً نحو أنوَات الآخرين، ليمارس عليهم دورَ المحرّض على النبش والتنقيب، لا البحث عن اعتبار قيميّ موجود سلفاً.

سواء كانت الأنا تعبيراً عن ذاتيّة ما أو امّحاء في الآخر، فإنّها بمراوغتها وبساطتها الملغزة تبقى لغز الرواية والأدب، وتظلّ تتسرّب إلى الأعمال الأدبيّة وتحضر بفعاليّة، لتنهض بها وتثير عبرها أسئلة الكينونة وألغاز الوجود.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى