صفحات العالم

“سوريا المفيدة” دولة مسلوبة ووطن محتل/ ماجد الشيخ

 

 

 

لم تتغير طبيعة الاحتلالات الكولونيالية، بدءاً من حملات الاستعمار الاستيطاني، وقرارات الانتداب، وصولاً إلى منح السلطة لقوى أكثر قرباً من الدول المستعمرة أو دول الانتداب، بما تعنيه أو عنته تلك الاحتلالات من انتقاص السيادة الوطنية، أو انتهاكها في شكل أو آخر. فالاحتلال هو الاحتلال، طالما أن من يتسيد أو يتربع على السلطة، لا يمتلك من الإرادة أو الكرامة الوطنية ما يؤهله للحكم استناداً إلى قاعدة شعبية أو بتفويض شعبي؛ لكن هذا شيء وما تشهده دول الاستبداد والديكتاتوريات البوليسية والأمنية الوراثية وغيرها شيء آخر، حيث الاحتلال للبلد أو للوطن يأتي بشكل مزدوج؛ من جانب النظام وقاعدته الاجتماعية والسياسية التي تكونت بشكل طفيلي ورث طوال سنوات الحكم العسكري والبوليسي الأمني، وشكلت سلطته العميقة أولاً، ومن جانب القوى التي تسانده ثانياً، على اختلافها واختلاف مراميها وأهدافها القريبة أو البعيدة.

وما يجري في سوريا اليوم من «حرب كونية وإقليمية»، توسعت وتتوسع باضطراد المصالح الاحتلالية والتدخلات، والتداخلات الاقليمية والدولية، لم يعد بالإمكان نسبتها إلا إلى الاحتلال المباشر وغير المباشر، خصوصاً من جانب النظام الإيراني الذي جاء يسعى للاحتفاظ بالنفوذ المذهبي والمصالح المذهبية الخاصة بامبراطورية قوموية، توسلت وتتوسل الدين وعسكرة التكتيل المذهبي، وصولاً إلى بناء صرح نفوذ إقليمي تنافسي مع دول الإقليم، وشبه تكاملي أو وظائفي مع دول ما يسمى المجتمع الدولي، والاتفاق النووي ما كان له أن يتم؛ إلا استناداً إلى قاعدة «المصالح المتبادلة» تلك، بغض النظر عن نسبة استفادة كل طرف؛ المهم تأمين مصالح الطرفين، من دون الإخلال بها، أو تعريضها لأي مخاطر محتملة أو متوقعة.

وفي المقابل، وإذ تسعى روسيا اليوم لاستمرار إقامة رأس جسر لنفوذها في المنطقة، عبر الاحتفاظ بالنظام السوري مسيطراً؛ ولو على جزء من سوريا، فقد لجأت إلى ما يشبه الاحتلال، عبر قواها العسكرية ومستشاريها وقواعدها الثابتة، وأسلحتها التي باتت تتدفق، كما لم يجر في يوم من الأيام، أثناء الحروب والصراعات التي خاضها النظام السوري مع إسرائيل. وكل هذا من أجل استمرار سلطة وراثية عائلية لم ترعوِ عن قتل وتشريد شعبها، حتى صار من يدافع عن النظام وسلطته شريكاً في امتلاك سوريا واستملاكها، كما فعلت تلك السلطة الانقلابية يوماً، وها هي تستمر في انقلابها على شعبها وعلى وطنها، بإسناد ودعم الآخرين من قوى أجنبية؛ من مستوى ميليشيا إلى مستوى فرق من المتمذهبين، وصولاً إلى نظام إقليمي راع لها، وحتى روسيا في النطاق الدولي، وهي التي باتت تندفع اندفاعات كبرى عسكرية وسياسية لإنقاذ النظام ورأسه، وفي السياق تحقيق مصالح لها، وإن كان هناك من مغانم، فلاقتسامها مع آخرين كالولايات المتحدة وتحالفها الدولي الأطلسي، الذي لم يقطع مع النظام ولن يقطع معه، لأسباب لها علاقة بوجود قوى متطرفة وأكثر إرهابية، وتعددها واختلافها، وتعدد مراجع ومصادر دعمها، وخشية أن يتعرض الأمن الإسرائيلي للاهتزاز، في وقت لا يبدو أن هناك بدائل يمكن أن ترضي أطراف التحالف الدولي للحفاظ على مصالحها أولاً، وعلى مصالح إسرائيل ودورها ووظيفتها في المنطقة ثانياً.

لقد أتاح تشبث النظام بالسلطة بأي ثمن، أو بهذا الثمن الفادح، دخولاً مريحاً للاحتلال الإيراني لسوريا، وتوسيع نطاقه، بعد أن كان يقتصر على بعض ميليشيات من هنا أو هناك، وها هو النظام الإيراني باستملاكه لبعض المناطق وانتقال عناصر بشرية إيرانية أو توابع لها، بات يعيش على وهم إمكانية إنقاذ النظام وتقديم سلم النجاة له، كي يواصل مسيرة سلطته الوراثية حاكماً لسوريا أو على الأصح لجزء منها، الجزء «المفيد» لما يضاد مصالح شعبها، وينسجم إلى حد بعيد مع مصالح «شركاء النظام» في احتلال الوطن والاستيلاء على الدولة السورية.

ولئن سبق النظام كل الأطراف الأخرى في مسلكياته الاحتلالية، وفي استدعاء التدخلات الخارجية، بدءاً من تنظيمات التطرف والإرهاب «الداعشية» التي ساهم النظام في إقامتها ودعمها وإسنادها طوال الأعوام الأخيرة، حيث أشرفت أجهزته الأمنية على تدريبها وتسهيل مهمات انتقالها للعراق، ومن ثم «استعادتها» إلى الأراضي السورية، حين بدأت حراكات الشعب والمعارضة السورية، فقد استعاد النظام معها سرديات «الحرب الكونية» على سوريا، التي استنفر خلالها قوى أسناده الخاصة؛ ميليشياوية الطابع، ورسمية كذلك، حين زج النظام الإيراني بـ»حرسه الثوري» والميليشيات التي تأتمر بأمره، وبعض قواه النظامية، في «حرب كونية» مزعومة، هي في حقيقتها حرب الاحتفاظ بسلطة النظام، وها هي تستمر بوتائر متسارعة في ظل تدخلات خارجية كبرى، تزكيها الدول الكبرى وما يسمى المجتمع الدولي، وفي طليعته روسيا والولايات المتحدة وملحقاتها الغربية؛ حتى بات الصراع في سوريا صراع عليها، والحرب حرب إقليمية ودولية، عمادها الاحتفاظ بسلطة باتت رهينة موقعها الجيوسياسي والجيواستراتيجي؛ الأكثر أهمية للأمن الإسرائيلي وللمصالح المتنافسة أحياناً، والمتكاملة في أحايين أخرى.

في هذه السنوات العجاف التي شهدت احتلالاً سلطوياً فاقعاً بإسناد خارجي إقليمي ودولي، وبتعدد مصادر الصراعات الداخلية والخارجية، لم تعد سوريا هي ذاتها، صارت «سوريا المفيدة» مختلفة اختلافاً بائناً عن «سوريا الحمولة الزائدة» من شعبها، في نظر النظام ومن يدعمه كنظام طائفي متمذهب، وفي نظر داعميه من قوى إقليمية ودولية، تسعى لتستفيد منه مصلحياً، ولتفيد غيره أمنياً، من قبيل المصلحة الإسرائيلية المباشرة، والمصلحة الروسية المباشرة وغير المباشرة.

هكذا.. في وسط دوامة احتلال غيّر سوريا ويواصل تغييرها للأسوأ، في وقت برهنت فيه تلك السنوات العجاف، أن الأضرار التخريبية لاحتلال «الدواعش»، لا يقل عن الأضرار التخريبية التي تلحقها الاحتلالات الأخرى، وهي إلى جانب النظام، المساهم الأبرز في تشريد وتهجير الشعب السوري، وانكفاء العديد من قواه الحية عن ثورتها الواعدة، في وقت يحاولون فيه الاحتفاظ بنظام لم يعد مفيداً لشعبه ولدولته ومؤسساتها على الإطلاق.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى