صفحات العالم

مقالات تناولت عملية شبعا

 

 

 

عملية شبعا: حسابات حزب الله ورسائل “الرد المضبوط

المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات

وجهت إسرائيل، يوم الثامن عشر من يناير/كانون ثاني 2015، ضربةً جويةً جديدةً داخل الأراضي السورية، سرعان ما تبين أنها استهدفت قافلةً لقادة تابعين لإيران وحزب الله في مدينة القنيطرة. وأسفر الهجوم عن سقوط ستة من مسؤولي الحزب الميدانيين، وضابط إيراني رفيع كان يرافقهم. وبعد عشرة أيام، رَدَّ حزب الله بضرب دورية عسكرية إسرائيلية في مزارع شبعا على الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة. وأدَّى الهجوم إلى مقتل اثنين من عناصر قوات الاحتلال أحدهما ضابط. وقد مثّل هذا التصعيد أوّل اختبار لحالة الهدوء التي سادت بين الطرفين، في عقب حرب تموز 2006، وقرار مجلس الأمن رقم 1701 الذي وضع حدًّا لها.

الرد اضطرارًا

خلال فترة الأيام العشرة الفاصلة بين اعتداء القنيطرة وعملية شبعا، سادت تقديرات مختلفة متعلقة بإمكانية رد حزب الله، مع رجحان احتمال عدم قيامه بذلك؛ بالنظر إلى أنه متورط في الصراع السوري تورطاً، يجعله غير قادر على فتح جبهة مع إسرائيل، في حال اختياره الرد واختيارها التصعيد. كما أنّ سلوك حزب الله تجاه عمليات إسرائيلية سابقة، استهدفت بعض أهمّ قادته، لم يُرجِّح فرضية الرد؛ ذلك أنه لم يفعل شيئًا إزاء اغتيال إسرائيل عماد مغنية الذي يُعَدُّ أهمّ قادة الحزب العسكريين على الإطلاق، في عملية استهدفت سيارته في دمشق في

“سلوك حزب الله تجاه عمليات إسرائيلية سابقة، استهدفت بعض أهمّ قادته، لم يُرجِّح فرضية الرد؛ ذلك أنه لم يفعل شيئًا إزاء اغتيال إسرائيل عماد مغنية الذي يُعَدُّ أهمّ قادة الحزب العسكريين في دمشق في فبراير/شباط عام 2008، ولم يحرِّك ساكنًا، بعد اتهامه إسرائيل بالمسؤولية عن اغتيال حسان اللقيس في بيروت”

 

فبراير/شباط عام 2008، ولم يحرِّك ساكنًا، بعد اتهامه إسرائيل بالمسؤولية عن اغتيال حسان اللقيس في بيروت، وهو قائد عسكري آخر بارزٌ في الحزب، في ديسمبر/كانون أول 2013، فضلًا عن توجيه إسرائيل ضربات أخرى إلى الحزب، بالإغارة على قوافل له داخل الأراضي السورية، أو على الحدود السورية مع لبنان، وكان آخر تلك الضربات ما جرى قبل نحو شهر من عملية القنيطرة، عندما أغارت طائرات إسرائيلية على مخازن صواريخ، قيل إنها لحزب الله داخل الأراضي السورية، قرب الحدود مع لبنان.

لكن، من الواضح أنّ الأمر بدا مختلفًا هذه المرة. فقد أحرجت غارة القنيطرة قادة الحزب تجاه قاعدتها الشعبية، خصوصًا أنّها استهدفت ستةً من قادته الميدانيين، في صدارتهم جهاد عماد مغنية، نجل القائد العسكري السابق للحزب الذي اغتالته إسرائيل في دمشق قبل سبعة أعوام. كما أنّ الضربة جاءت بعد ثلاثة أيام فقط من مقابلة تلفزيونية لحسن نصر الله، هدَّد فيها بالرد على أيِّ عدوان إسرائيلي، على الرّغم من أنّ حزبه مشغول في ساحات أخرى؛ إذ قال: “نحن، من البداية، قمنا بحساب الجبهة مع إسرائيل، هذا لا يمس لا في إمكانات ولا في عديد ولا في كادر الحزب القيادي، ولا في جهوزيته. وبالتالي، أيًّا تكُن انشغالاتنا في المساحات والميادين الأخرى، لا، ولن تكون على حساب جهوزية المقاومة التي تبقى عيونها وعقلها واهتمامها ومتابعتها قائمةً وحثيثةً في مواجهة العدو الإسرائيلي، ونحن نُبقي هذ الاحتمال دائمًا قائمًا”.

من جهة أخرى، لم تستطع إيران، وهي التي فقدت أحد أهمّ جنرالاتها الموكلة عليهم الحرب السورية في الضربة الإسرائيلية، أن تلتزم الصمت. لذلك، وجد الحزب نفسه معنيًّا بردٍّ محدود ومضبوط، يستطيع فيه أن يؤكِّد أنه لم يقفْ مكتوف الأيدي إزاء الاستهداف الإسرائيلي، مع عدم التصعيد إلى درجةٍ تخرج فيها الأمور عن نطاق السيطرة، وتذهب في اتجاه مواجهة لا يستطيع الحزب دخولها في هذه المرحلة.

حسابات المواجهة

جاء ردُّ حزب الله بناءً على جملة من الحسابات المرتبطة بالمكان والزمان:

  • فمن الناحية المكانية، اختار للردِّ أراضٍ لبنانيةً محتلَّةً (مزارع شبعا)، لا يؤدِّي التحرّك فيها إلى مسّ الخطوط العريضة للصراع مع إسرائيل، أو مساحات المناورة في الداخل، ولا سيما أنّ الحكومة اللبنانية تَعُدُّ مزارع شبعا أراض محتلةً، وتعترف بشرعية المقاومة المسلحة لاسترجاعها. فباختيار حزب الله هذه المنطقة للردِّ، من دون سواها، يكون قد عمل ضمن خطوط مُتَّفق عليها، إلى حدٍّ ما، حتى بالنسبة إلى بعض خصومه الذين طالما اتهموه بـ “جرّ” البلاد إلى مواجهات خارجية، خدمةً لأجندات إقليمية، لا مصلحة لِلُبنان فيها. وقد أخذ الردُّ في الحسبان وضعَ القاعدة الشعبية لحزب الله التي كانت ستجد نفسها في حرج شديد، لو ذهبت الأمور في اتجاه تصعيد كبير، سواء كان ذلك من جهة الدمار أو النزوح الناجم عن أيِّ مواجهة كبرى. فإذا كان الشعب السوري قد احتضن نازحي الحزب عام 2006، وإذا كانت دول عربية (في صدارتها قطر) قد ساهمت في إعادة إعمار ما دمرته إسرائيل في حروب سابقة، فإنّ الأوضاع الراهنة لا يتوفر فيها هذان الأمران.
  • من الناحية الزمانية، جاء رَدُّ حزب الله في وقتٍ يركز فيه العالم، وخصوصاً الولايات المتحدة الأميركية، على ملفَّين أساسيين في المنطقة، يُرجّحان عدم التصعيد الإسرائيلي ضدّ حزب الله. الأول هو الحرب ضدَّ تنظيم الدولة الإسلامية التي يُشكِّل حزب الله وسائر المحور الإيراني جزءًا أساسيًّا منها؛ ذلك أنّ التنسيق بين إيران وحلفائها من جهة، والولايات المتحدة وحلفائها من جهة أخرى، في الحرب ضدَّ تنظيم الدولة وغيره من التيارات “الجهادية السنِّية”، يكاد يتجاوز حدود التحالف الموضوعي على امتداد الإقليم. الملف الثاني الذي تهتم به إدارة أوباما هو المفاوضات النووية مع إيران التي بلغت من الحساسية غايتها، إلى حدِّ أنّ الرئيس

“لم تكن إسرائيل في وضعٍ يسمح بالتصعيد، لأسباب كثيرة؛ بعضها مرتبط بحقيقة مصالحها في المنطقة، والأخرى مرتبطة بوضعها الداخلي”

أوباما هدَّد باستخدام الفيتو ضدّ أيِّ قرار يصدر عن الكونغرس الذي يسيطر عليه الجمهوريون، في حال اشتماله على فرْض عقوبات جديدة على طهران. ومن ثمة، ما كان لتصعيد إسرائيلي ضدّ حزب الله أن يحظى بغطاء أميركي قد يقوِّض الجهد الدبلوماسي المبذول للتوصُّل إلى اتفاق مع إيران. فهذه الدولة، وهي التي تخوض معركةً مصيريةً بشأن مشروعها الإقليمي، على امتداد الهلال الخصيب، لا يمكنها أن تصمت في حال استهداف إسرائيل حزب الله الذي يُشكِّل أحد أهمّ استثماراتها في المشرق العربي.

من ناحية إسرائيل، فباعتبارها البادئة، كان عليها أن تمتص ردًّا ما، لا سيما أنها أوضحت خطوطها الحُمر للحزب وإيران عبر الضربة في الجولان؛ وملخّصها أنها لا تقبل ببناء قوَّة عسكرية لهما في الجولان. علاوةً على ذلك، لم تكن إسرائيل في وضعٍ يسمح بالتصعيد، لأسباب كثيرة؛ بعضها مرتبط بحقيقة مصالحها في المنطقة، والأخرى مرتبطة بوضعها الداخلي. فالدخول في مواجهة شاملة مع حزب الله، من شأنه أنْ يُخِلَّ بموازين قوًى قائمة في الصراع السوري، تضمن في وضعها الحالي بقاء النظام السوري منهكًا، وهو يحارب من أجل وجوده. يُضاف إلى ذلك أنّ تجنب إسرائيل مواجهةً شاملةً يضمن لها، من جهة أخرى، عدم انتصار المعارضة ووقوع سورية في قبضة جماعات جهادية، لا تستطيع احتمال وجودها على حدودها.

وداخليًا، لا يتوافر في إسرائيل إجماع على الدخول في مواجهة كبيرة في المرحلة الراهنة، لأسباب كثيرة؛ أبرزها خوف رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، من أيِّ مضاعفاتٍ، قد تُؤثِّر في حظوظه من الانتخابات العامة التي حُدِّد موعدها في 17 مارس/آذار 2015. كما يبدو أنّ الجيش غير متحمس للدخول في حرب ثانية، خلال أقل من ستة أشهر، بعد أن اضطُر إلى تدخُّل بريٍّ في العدوان الأخير على غزة، تعرَّض في أثنائه لمقاومة دامت أكثر من 50 يومًا، ولخسائر كبيرة أيضًا (مقتل 70 ضابطًا وجنديًّا). وإنّ اتساع مدى التردد بالنسبة إلى إسرائيل هو مقدار الخسائر التي يمكن أن يُكابدها اقتصادها، في حال أيِّ مواجهة جديدة. فعلى الرغم من عدم صدور إحصاءات حكومية دقيقة، تشير التقديرات إلى خسائر كبيرة، يكابدها الاقتصاد الإسرائيلي في أثناء الحرب ضدَّ غزة؛ إذ إنّ تكلفة الحرب اليومية ضدَّها، بحسب صحف

إسرائيلية – نقلًا عن مسؤولين في وزارة الدفاع – بلغت 50 مليون دولار، إضافةً إلى خسائر ناجمة عن تعليق رحلات الطيران، وركود القطاع السياحي، والفندقي، والتجاري، والخدمي. لذا، فإنّ البعد الاقتصادي والخسائر الكبيرة المتوقعة من الأسباب التي تدفع إسرائيل إلى التريث والحذر بشأن التصعيد.

ومن الأسباب التي تدفعها إلى تجنب التصعيد، أيضًا، أنّ نشوب مواجهة على “الجبهة الشمالية” يقتضي إجلاء المستوطنين من المدن والمستوطنات على الحدود مع لبنان، إجلاءً تامًّا، إلى أماكن أخرى لا يصل إليها القصف، وهي أماكن يقلُّ عددها بالتدريج، مع امتلاك حزب الله صواريخ أبعد مدًى. لكنْ، يمكن أن تصبح هذه “التضحيات” محتملةً، إنْ رأت إسرائيل أنّ الحرب مسألة إستراتيجية، وأنّ الحزب يمثّل حاليًّا تهديدًا لها. لكن، ليس الأمر كذلك؛ لأنّ عملية الحزب جاءت ردًّا بعد سلسلة عمليات إسرائيلية ضده، في حين أنّ الحزب منذ عام 2006 لم يبادر إلى عمليات ضدّ إسرائيل، أي إنّ “الجبهة الشمالية” هادئة بالنسبة إليها، ولا تستدعي دفع ثمنٍ لأيِّ تصعيد.

خاتمة

للأسباب المذكورة، يبدو أنّ تقديرات أطراف الأزمة كلّها تصبُّ في خانة عدم التصعيد، ومن الجليّ أنّ هذا الأمر هو الذي كان يعنيه حسن نصر الله، في سياق قوله، وهو يؤبِّن قادة الحزب الميدانيين، إنّ حزبه “لا يريد الحرب، لكنه لا يخشاها”، وقد أشارت وكالة رويترز الإخبارية إلى رسالة من الحزب إلى إسرائيل، عبْر قوات “يونيفيل” تفيد عدم رغبته في التصعيد. ولقد قابلت هذه الرغبةَ رغبةٌ إسرائيلية، متمثِّلة بالاحتواء، وعدم التصعيد مرحليًّا. ويتّضح ذلك جليًّا في طلب قادة الجيش الإسرائيلي إلى سكان “المدن الشمالية” أن يعودوا إلى ممارسة حياتهم الطبيعية. لكنّ ذلك لا يعني، بالضرورة، أنّ الطرفين قبِلا بالعودة إلى تفاهمات 2006، خصوصاً أنّ حسن نصر الله تحدث عن سقوط قواعد الاشتباك التي كانت سائدة مع إسرائيل؛ وهو ما يعكس خوفًا متزايدًا من مواصلة إسرائيل استغلال تورط حزب الله في الصراع السوري، حتى تُوجِّه إليه مزيدًا من الضربات لإضعافه، خصوصًا أنه يتعرض لاستنزاف ماديٍّ، وبشريٍّ، ومعنويٍّ، نتيجةً تحويل اتجاه بندقيته إلى صدر شعب ثار على الظلم والاستبداد.

العربي الجديد

 

 

 

أصناف مختلفة من الحماسة لـ”حزب الله”/ وسام سعادة

الحماسة لردّ «حزب الله» على الغارة الاسرائيلية التي استهدفت فريقاً من «حرس الثورة الايرانية» ومن كان في مؤازرتهم من الحزب، جاءت على صنفين: فثمة من جهة، من يرى في استهداف اسرائيل للنظام السوري و»حزب الله»، والآن الحرس الثوري، تأكيداً على صحّة خيار الانخراط في الحرب السوريّة إلى جانب قوات النظام. لكن ثمة، من جهة ثانية، رأياً أكثر نخبوية، ويعبّر عنه بطرائق شتّى، ومختصره أن المواجهة مع اسرائيل، أيّاً كان سياقها وعنوانها ووجهتها، هي «تصحيح» لخطأ التهاء الحزب بالنزاعات الطائفية اللبنانية، ومن ثمّ بالحرب السوريّة. وقد يغلّف الموقف الثاني نفسه بموقف سبق أن عبّر عنه «حزب الله»، بأنّ مضيّه إلى الحرب السورية يأتي لا عن حماسة، وان المعركة التي يشتاقها هي تلك التي يصطدم فيها بالإسرائيليين.

حماسة الصنف الأوّل تستند إلى حبكة منطقية أكثر تماسكاً. فالحزب ليس سندريللا المتحوّلة من حال إلى حال قبل مضيّ الحكاية. والغارات الاسرائيلية تستهدف مواقع تابعة للنظام السوريّ أكثر مما تستهدف مواقع تابعة للحزب في الداخل السوريّ.

واذا كانت يد النظام مغلولة سواء لتبرير ساقه أنصار هذا التفكير له أو من دون، فإنّه ينظر إلى الحزب بوصفه الطليعة المجرّبة في معسكر الممانعة وتستطيع أن تتولى الحمل عن هذا النظام بكلفة أقل وتسديد أكثر ايلاماً للجانب الاسرائيلي. هكذا يفكّر القسم الأوّل من «الممانعين» اليوم.

هم أكثر واقعية من القسم الثاني، لأنّهم لا يسقطون على «حزب الله» رغباتهم وشهواتهم في حزب كان يفترض أن يولد في تربة أخرى، أو بجذور عقائدية مختلفة. أمّا القسم الثاني، الذي يريد أن يلعب لعبة «النقد البناء» لمسارات الحزب، فإنّه يريد أن يعفي نفسه من المسؤولية، وينتقي فقط ما هو جميل مشهدياً بنظره، ويأخذه حجّة للتعتيم الذاتي على ما ليس بهذا الحُسن والبهاء.

حال هذا القسم الثاني يقول: الحمد لله ان الحزب، رغم تسع سنوات قضاها بعيداً عن العمل المسلّح بوجه اسرائيل، قد أثبت أنّ «التعقيدات» الداخلية والاقليمية لا تلهيه عن المواجهة مع اسرائيل. طبعاً، يبلع صنفا الممانعين تماماً عدم قيام الحزب بأي عمل أمني وقت الحملات العدوانية الاسرائيلية على قطاع غزة وحركة حماس.

بشكل عام، القواعد الشعبية للحزب تميل إلى الصنف الأوّل: وحدة المعركتين، دفاعاً عن نظام بشار الأسد وضد اسرائيل. أما النخب الثقافية والأهلية على ضفاف الحزب فإنها تنقسم بين الصنفين، التكاملي بين الجبهتين، أو «التصحيحي»، لأنها تضمر القول بأن «حزب الله» حين يواجه اسرائيل فهو يصحّح مساراً، ولو أنّ النظام السوريّ قام بالأمر نفسه لرأيت من ينظّر للأمر نفسه: انّ النظام، مثلاً، يطهّر نفسه من ذنب الكيماوي في الغوطتين لأنّه تحرّك ضد اسرائيل. طبعاً، النظام السوريّ يتكفّل بإلزام الممانعين بجادة الواقعية: هو لن يفعلها.

أما «حزب الله» فيبقي لهم مساحة للرومانسية، للحلم، لتلبيس الحزب نفسه أقنعة غيفارية أو فيتنامية. بالنسبة لصنف الأوّل من الممانعين، الممانعة هي خطاب واحد. بالنسبة للصنف الثاني، الممانعة صنفان: نثر يتكفّل به الموقف من النظام السوري، وشعر يرضيه الموقف من «حزب الله». طبعاً، الطاقة الحجاجية والسجالية التي يملكها زعيم الحزب السيد حسن نصر الله لا يمكن عزوها إلى الشعر في مقابل النثر. لكنها، الحاجز الذي يستند اليه مثقفون غير قليلين للتعبير بأنماط مختلفة عن موقف مزدوج من معارك الحزب: موقف فيه «سلبية متفاوتة»، حول مشاركته في الحرب السورية، وموقف فيه مزايدة على الحزب نفسه حين ينفّذ الحزب عملية ضد الاسرائيليين.

وعدا عن المسألة السورية، رأينا مؤخراً تطبيقاً للقاعدة الكلامية نفسها: ضد «حزب الله» في سياسته النقابية، اليمينية جداً، التي أطاحت برمز «هيئة التنسيق النقابية» حنا غريب، في طاعة كاملة للأوليغارشية المالية اللبنانية، ثم معه دون أي مسافة نقدية عندما فتح النار في منطقة مزارع شبعا.

بديهي القول، انها الطريقة المأثورة للأيديولوجيين، لا سيما اليساريين، في التمييز بين تناقض رئيسي وتناقضات ثانوية. لكن ما يحصل يتجاوز ذلك: انه الفصل في «حزب الله» نفسه بين طبيعتين لاهوتيتين. واحدة مفطورة على المقاومة وتحرير الأرض، غريبة عن الحسابات النفعية والدنيوية. وثانية، هي نفس أمارة بالسوء، حين تشتدّ انحرافاتها ليس لهذا الصنف من الممانعين الا انتظار اللحظة الآتية من الصراع مع اسرائيل لتنفّس الصعداء. هذا هو «لاهوت يسار حزب الله». بالمقارنة به، تبدو عقيدة «حزب الله» مادية وواقعية.

لقد استعار الامام الخميني مفهوم الثورة من قاموس الحداثة السياسية، واستعار «حزب الله» من هذا القاموس مفهوم «المقاومة». بشكل عام، الحماسة لـ«ثورة» الخميني انطفأت سريعاً لدى المثقفين العرب، لأن الكثير منهم تحمّسوا بعد ذلك لصدام حسين في الحرب.

أما الحماسة لاستعارة الحزب مفهوم المقاومة فصار لها تاريخ، تاريخ مزمن ومتعرّج ويحوي أصنافا عدّة، لكن من نقاطها الحيوية أن «حزب الله» يطهّر نفسه من أي اثم أو شبهة، ما ان يصطدم مع اسرائيل. وطبعاً، في المقلب الثاني من المشهد، هناك من يتذاكى دائماً، حين يدخل الحزب في مواجهة لبنانية أو سوريا، فيسأله أين ذهب نضالك ضد اسرائيل، حتى اذا عاود الحزب مثل هذا الحديث استاء المتذاكين.

ليس هناك من «خدمة أيديولوجية» تقدّم للحزب أفضل من هذا التذاكي، ثم يليه من يتبرّعون له بصكّ التطهّر عندما يعود إلى «المنبع». القواعد الشعبية التي تؤيد سياسة الحزب خارج هذين الاطارين تبقى أسلم منطقياً وأخلاقياً، وفي مكان ما، يهمّها، ولو بالهمس، أن تخفّض «التعرفة القربانية» التي تدفعها سواء في الحرب السورية أو في غيرها.

القدس العربي

 

 

 

الجولان وشبعا معاً/ بدر الإبراهيم

بعد عملية القنيطرة التي نفذها الإسرائيليون، وأودت بحياة ستة عناصر من حزب الله، وجنرال إيراني، توقع محللون أن حزب الله لن يرد، وأن انشغاله في المعارك على الأرض السورية، وعدم رغبته في الانجرار إلى حرب مع إسرائيل، سيمنعه من الرد على الغارة الصهيونية. لم يفهم هؤلاء المحللون والمراقبون كيف يفكر حزب الله إزاء استهدافٍ من هذا النوع، كما أن بعضهم فاته أن الحزب رد على عدة عمليات إسرائيلية في السنتين الأخيرتين، وهو (على عكس نظام الممانعة السوري الذي يُضرَب ولا يرد) لا يُسلِّم للإسرائيليين بصياغة معادلات جديدة على الأرض.

ردَّ حزب الله على العمليات التي استهدفت مواقعه، أو عناصره، في لبنان خلال الفترات الماضية، ففي أغسطس/آب 2013، تسللت مجموعة إسرائيلية داخل الحدود اللبنانية، ليواجههم مقاتلو الحزب بكمين محكم. وبعد غارة إسرائيلية على موقع جنتا على الحدود اللبنانية السورية في فبراير/شباط 2014، قام حزب الله بتفجير عبوة ناسفة في دورية إسرائيلية في مزارع شبعا، وفي أكتوبر/تشرين الأول، قام الحزب بعملية أخرى في مزارع شبعا المحتلة، رداً على تفجير جهاز تجسس إسرائيلي بأحد عناصره في جنوب لبنان.

استهدف الإسرائيليون أسلحة للحزب في غارات داخل سورية، وردَّ الحزب بتسخين جبهة الجولان، ففي مايو/أيار 2013 قصفت الطائرات الإسرائيلية شحنة أسلحة للحزب في دمشق، فبدأت بعدها سلسلة من العمليات في الجولان، منها تفجير عبوة في مارس/آذار 2014 أصابت جنوداً إسرائيليين، ولم يخفِ الأمين العام لحزب الله، حسن نصرالله، تدريب الحزب مجموعات سورية، تقوم بأعمال مقاومة في الجولان، والاستهداف الأخير في القنيطرة كان لمجموعات الحزب التي تشرف على تسخين جبهة الجولان.

جاءت العملية الأخيرة في مزارع شبعا، رداً على غارة القنيطرة، أقوى من ردود سابقة، لتتناسب مع حجم العملية الإسرائيلية التي كانت أقوى من الاستفزازات الإسرائيلية السابقة أيضاً، والعملية نُفِّذت بشكل متقن، ضد قافلة صهيونية، في وضح النهار، على الرغم من محاولتها التمويه، والتزام الإسرائيليين احتياطات أمنية مشددة، لتسجل نجاحاً استخباراتياً للمقاومة، وتؤكد قدرتها. لكن، ما لم ينتبه له كثيرون أن العملية جاءت بعد يوم من إطلاق عدة صواريخ على الجولان المحتل، في عمل تمويهي، لكنه يحمل دلالات رمزية كثيرة، إذ أكد هذا العمل على التحول الذي حصل في جبهة الجولان، بعد أن باتت جبهة واحدة مع الجنوب اللبناني، وهو ما أكده أمين عام حزب الله، في حديثه عن انتهاء قواعد الاشتباك الحالية، ونهاية تفكيك الجبهات.

عمل الإسرائيليون طويلاً على تفكيك الجبهات العربية، والتعاطي مع كل طرف عربي على حدة، سواءً في التعامل الميداني المباشر، أو في المفاوضات السياسية، وقد كسر هذا التوجه الإسرائيلي، التعاون العسكري الاستراتيجي بين المقاومتين، اللبنانية والفلسطينية، بيد أن توحيد جبهتي الجولان وجنوب لبنان خطوة متقدمة، خصوصاً وأن جبهة الجولان كانت هادئة، طوال العقود الماضية، وهي، اليوم، بفعل الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة، تفقد الاستقرار الذي نعمت به عقوداً، وتتحول إلى مكانٍ غير آمن للمستوطنين، وهذه ضربة كبيرة للإسرائيليين، لكنها ليست الوحيدة، فحزب الله تحول من حركة مقاومة تقليدية، تستنزف الجيش الإسرائيلي داخل الجنوب اللبناني في سنوات احتلاله، وتضطره إلى الانسحاب من دون قيدٍ أو شرط، إلى قوة ردع كبيرة، توجد توازن رعبٍ معه، وتراكم القوة على حدود فلسطين، وتتجرأ على تغيير قواعد اللعبة، والعمل على فرض رؤيتها في الميدان.

كانت أحد أهم عوامل التفوق الإسرائيلي في المنطقة قدرته على بث الرعب في نفوس العرب، والإيحاء بأن أي رد منهم يعني، بالضرورة، تعرضهم لخسارة فادحة في الأرواح والممتلكات، لكن عملية شبعا الأخيرة تثبت التراجع الإسرائيلي، ووجود توازن، لا يسمح للصهاينة بالذهاب إلى حرب، من دون حساب التعرض لخسائر مؤلمة، على غرار ما واجهوه في غزة ولبنان خلال العقد الأخير.

لا يحتاج دعم المقاومة وأعمالها في مواجهة العدو مقدمات اعتذارية، فالاختلاف حاصل مع حزب الله وحماس في بعض الملفات، كما في أيديولوجيتهما وتركيبتهما المذهبية، غير أن مواجهة حركات المقاومة هذه، العدو الصهيوني، تتطلب إدراكاً لبوصلة العداء، وهو ما فات بعض الموتورين (وجُلُّهم من التيار الإخواني في المنطقة)، الذين وقفوا على الحياد، في أحسن الأحوال، في معركةٍ بين طرف عربي والعدو الصهيوني، لحسابات حزبية أو طائفية، تُغطى بشعارات أخلاقية، يسهل إثبات تهافتها وتناقضها، فلا يفرّق هؤلاء بين خصومات داخل الإطار العربي ومعركة عربية مع العدو الصهيوني، إذ اختلف ترتيب أولوياتهم، وأصبحت الخصومات داخل الدائرة العربية مقدمة على مواجهة عدو الأمة كلها.

ليت هؤلاء ينتبهون إلى رسالة قائد كتائب القسام، محمد الضيف، في تعزيته حزب الله بشهداء القنيطرة، بتأكيده على أن عدو الأمة الحقيقي هو العدو الصهيوني، ونحوه يجب أن تُوجَّه كل البنادق، وأن تدير كل قوى المقاومة معركتها بشكل موحد. يُقرأ هذا في خطابٍ ما زال يعتبر فلسطين بوصلته، وقضيةً فوق كل اختلاف عربي داخلي.

العربي الجديد

 

 

 

الجولان ولبنان والمقاومة/ الياس خوري

جاء رد حزب الله على اغتيال مجموعة من كوادره العسكرية في القنيطرة مُحْكَماً وبليغاً. لم يأت إحكامه من دقته العسكرية واحترافيته فقط، بل من حكمته أيضاً. فالرد في مزارع شبعا المحتلة، رسم حدود الضربة العسكرية، انها ردّ موضعي دقيق، ولم يكن في نية الحزب تحويلها إلى مواجهة مفتوحة، رغم استعداده لاحتمال كهذا. أما البلاغة فأتت من القدرة على ترك المسالة الجوهرية معلّقة. السؤال الكبير الذي ارتسم بعد اغتيال القنيطرة هو: هل فتحت جبهة الجولان أخيراً؟ لكن هذا السؤال بقي من دون جواب، فأمين عام حزب الله تعمّد أن لا يقدّم جواباً، وأغلب الظن أن المحور الإيراني، الذي صار المرجع الأساسي للوضع السوري بعد إفلاس الطغمة الأسدية، يقف الآن أمام منعطف سياسي وعسكري. ففتح جبهة الجولان هو تغير كبير في المعطى الاستراتيجي في المنطقة، لأنه يحمل في داخله دلالتين كبريين:

الأولى هي تكريس واقع تحوّل سورية من لاعب إلى ساحة، وهذا يعني سقوطا فعليا للنظام حتى لو بقي متواجدا في دمشق وفي الشريط الساحلي، كما أن مقاومة الاحتلال ستندغم بآليات حرب أهلية طويلة.

الثانية هي تحوّل إيران إلى لاعب مباشر في الصراع مع إسرائل، ليس فقط عبر حزب الله، بل عبر الحرس الثوري، وهذا قرار كبير لا يزال من المبكر الحكم على جديته.

المفارقة التي تحتاج إلى من يتوقف أمامها طويلا هي أن المقاومة العسكرية، عبر الحدود، كانت ممكنة فقط حين تنهار السلطة المركزية. النظام الأردني سحق المقاومة فحافظ على وجوده، بينما عجز النظام اللبناني عن القيام بذلك فامتزجت فيه الحرب الأهلية بالمقاومة، أما النظام السوري فقد حافظ على هدوء جبهته واتبع سياسة المقاومة باللبنانيين كي يتلافى الدخول في مواجهة مفتوحة لا يستطيع نظام استبدادي القيام بها.

هذا التحول الاستراتيجي يحتاج إلى رافعة شعبية سورية، اذ لا يعقل ان تنشأ مقاومة سورية من دون السوريين. والمثالان الأردني واللبناني يبرهنان على صحة هذه الفرضية. فلقد أمكن سحق المقاومة الفلسطينية في الأردن، لأن منظمة التحرير وجدت نفسها في زاوية عدم القدرة على بناء تحالف متماسك مع طرف شرق أردني يريد إطاحة النظام الهاشمي أو تعديل موازين القوى في داخله، فكان من السهل القضاء عليها لأنها أُدخلت في دوامة صراع وهمي أردني/ فلسطيني. وفي المقابل صمدت المقاومة في لبنان بصيغتيها الفلسطينية والإسلامية، لأنها كانت جزءا من صراع داخلي على السلطة شل قدرات النظام من جهة، كما استطاعت ان تبني تحالفات إقليمية وفرت لها إمكانيات الاستمرار من جهة ثانية.

الحالة السورية تبدو أكثر تعقيداً، فالحليف الوحيد للمحور الإيراني في سورية، أي نظام الأسد، لا يستطيع توفير حاضنة شعبية، كما أن فكرة المقاومة في الجولان غريبة عن قاموسه. وهو حين يلوّح بها، فإنما يفعل ذلك من أجل استدراج العروض الأمريكية والإسرائيلية.

الخيارات لا تزال غير محسومة، وهي تواجه عقبات كبرى ليس من السهل تذليلها، لكن عملية القنيطرة، رغم الغموض الذي يحيط بها، كانت مؤشراً إلى أن احتمال فتح جبهة الجولان قد يكون موضوعاً على جدول الأعمال.

لن يحزن أحد على إسرائيل إذا ما نجحت المقاومة الإسلامية في فتح الجبهة، ففتح جبهة الجولان للمقاومة حق مشروع للشعب السوري، وكانت دائما أمنية جميع الوطنيين. وتاريخ المقاومة الفلسطينية يشهد على الأثمان الباهظة من اعتقال وقتل التي دفعتها المقاومة في محاولاتها المتعددة لفتح هذه الجبهة، التي بقيت مقفلة بالطلسم الاستبدادي.

أكثر من ذلك، فإن الدخول السوري على خط مقاومة الاحتلال الإسرائيلي لأراض سورية، قد يكون علاجاً من حالة الاستنقاع والتعفن السياسي والعسكري التي فرضها نجاح النظامين الإيراني وحليفه المستبد في سورية، والعربي (أقصد النفطي) في إخراج الشعب السوري من معادلة حريته ودفعه إلى اقتتال ديني طائفي وحشي.

لكنني لست متأكداً من أن قوة دينية/ طائفية آتية من الخارج، كحزب الله، قادرة على التصدي لهذه المهمة النبيلة، بعدما تورطت في الدم والدمار السوريين.

نجح حزب الله في الهيمنة على المقاومة ضد إسرائيل في لبنان وفي طرد اليساريين والقوميين منها بسبب عاملين أساسيين: الأول هو الهيمنة العسكرية والأمنية للنظام الاستبدادي السوري على لبنان، معطوفا عليها الدعم الإيراني غير المحدود، والثاني هو الانهيار الداخلي الذي أصاب اليسار وعموده الفقري الحزب الشيوعي، بسبب تفكك المعسكر الاشتراكي، وإمعان النظام السوري في طرد الشيوعيين من «جنة» المشاركة في نظام الهيمنة.

في لبنان كانت المسألة ممكنة، رغم كلفتها العالية: اغتيال اليساريين بالجملة، المعارك الدموية مع حركة أمل، والانضباط بقرار المخابرات السورية. كما يجب أن لا ننسى الغطاء العربي الذي أُعطي للهيمنة السورية عبر التحالف السوري- السعودي الذي قام بتوزيع وظيفي للسلطة اللبنانية، فأنيط الاقتصاد بالحريرية وتفرّغ حزب الله للمقاومة.

أما في سورية فالمسألة أكثر تعقيداً. كما أن غموض أهداف الموكب الإيراني الذي استهدف من قبل الاسرائيليين يزيد من صعوبات التحليل.

هل صحيح ان هناك لواء مقاوما تشكّل أو هو في طريقه إلى التشكّل تحت اسم لواء الجولان ما استدعى توجيه رسالة اسرائيلية دموية؟ ام أن الموكب كان جزءا من دراسة الأرض بهدف حماية النظام من التفاف عسكري على دمشق يتم من الجنوب؟

في الحالتين ارتكبت إسرائيل حماقة موصوفة، واضطرت إلى ابتلاع ردّ حزب الله. والحماقة الإسرائيلية ليست جديدة أو مفاجئة، فإسرائيل منذ ان تكشّف عجزها عن تحقيق انتصارات عسكرية، دخلت في مأزق اشتباك لا تملك أدوات حسمه، فلجأت إلى حروب دموية لا منتصر فيها.

حماقة اسرائيل وفقدانها للحس الاستراتيجي ورعب قادتها من تسوية ايرانية – أمريكية في المنطقة، يشير إلى ان قادة اليمين بصلفهم وغرورهم وايغالهم في سياستهم القمعية ضد الشعب الفلسطيني، حولوا إسرائيل إلى لاعب هامشي. وقد برهنت عملية القنيطرة ورد حزب الله عليها هذه الحقيقة. وهذه بشارة إيجابية يجب عدم الاستهانة بها.

لكن المحزن في هذه المرحلة هو ان المشرق العربي بأسره وليس سورية وحدها يتحوّل إلى مجرد ساحة صراع، ويفقد زمام المبادرة.

مقاومة إسرائيل صائبة وضرورية، طالما بقي الوحش الصهيوني العنصري، لكن الخطر هو ان تتحوّل إلى ورقة مساومة، قرارها الأخير ليس في يد الشعوب العربية، رغم ان وقودها هو الدم العربي.

القدس العربي

 

 

 

 

 

عن السجال حول عملية حزب الله/ زيـاد مـاجد

عبّرت كثرةٌ من المقالات والسجالات التي تلت عملية حزب الله في مزارع شبعا المحتلة عن مواقف متناقضة تغيب عن معظمها السياسة أو الحصافة أو كلتاهما.

من هذه المواقف، تلك التي رحّبت بالعملية واحتفلت بها وبالغت في توقّع تبعاتها، ثم استكانت لخيبةٍ مفادها أن حرباً لم تقع وضحايا جدداً لم يسقطوا. والمحتفلون ثم الخائبون هؤلاء كانوا يعدّون العدّة لدور يلعبونه في وسائل الإعلام وعلى “منابرهم” الفايسبوكية وفي بعض المظاهرات، لكن عدم تدهور الأمور لجمهم وأعادهم الى مناطحتهم الدورية للمؤامرات وطواحينها من دون لحم ودم يحتفون بهما.

ومن هذه المواقف أيضاً، تلك التي استعادت فجأة خطابات “مقاومة” كانت قد أقلعت لبرهةٍ عنها، حتى ليخال قارئها أن إسرائيل كانت تنفّذ الأسبوع الفائت اجتياحاً برّياً للبنان وتقصفه براً وبحراً وجواً فيتصدّى لها بعض أهله دفاعاً عن بلداتهم ومدنهم.

والأدهى، أن بعض المهلّلين لـ”المقاومة” المذكورة كان يعطف على الأمر معارضةً لتدخّل حزب الله في سوريا، وكأن “المقاومة” التي احتفى بها كانت مفصولةً عن المسألة السورية وعن الثأر لجنرال إيراني ولعناصر من حزب الله قُتلوا خلال تدخّلهم (المديد) في سوريا.

في المقابل، ظهرت مواقف مضادة للموقفين المذكورين لا تقلّ عنهما رقاعة. منها مواقف تقوم على خطاب تشكيك – أي على نظريّة مؤامرة – ترى في العملية “مسرحيّة” للتمويه على ما تُسمّيه تحالفاً فارسياً إسرائيلياً. والبؤس في هذه المواقف لا ينفصل عن مقدار عال من المذهبية مقصده الحكي عن تحالف ضمني شيعي إسرائيلي يفسّر “التصعيد المحدود” و”تبادل الأدوار”.

ومن هذه المواقف كذلك، ما استند الى خطاب “تهكّم” بدأ باستبعاد احتمالات الردّ الحزب-إلهي، ثم عمد الى “تحدّي” الحزب في أن يستمرّ بعملّياته، وكأن المسألة زجلٌ بلدي أو مبارزة في ساحة الضيعة.

بهذا المعنى، تحوّلت قراءة الضربة الإسرائيلية ثم الردّ عليها الى بازار آراء، غاب عن معظمها أن الطرفين تصرّفا وفق قواعد اشتباك متبدّلة نتيجة امّحاء الحدود اللبنانية السورية التي عبرها آلاف مقاتلي الحزب اللبناني بأوامر إيرانية، وأن امّحاء الحدود “الداخلية” مهّد لاحتمالات امّحاء “الحدود الخارجية”، أي تلك الفاصلة مع المناطق التي تحتلّها إسرائيل في الجولان ومزارع شبعا.

وغاب عن معظم الآراء أيضاً أن الطرفين لم يرغبا بتصعيد شامل، كلّ لأسبابه، وأنّهما اكتفيا بتوجيه رسائل عسكرية تُظهر هوامش التحرّك المرتبط بالوقائع الميدانية وأولويّاتها وبالضوابط الأميركية الإيرانية.

يبقى أن التطوّرات الأخيرة، وبمعزل عمّا رافقها من آراء، تدفع الى إعادة التأكيد على أولوية المطالبة لبنانياً بانسحاب حزب الله من سوريا، وإلى ضرورة التركيز من جديد على ما سُمّي يوماً “الاستراتيجية الدفاعية” وحصرية ملكية الدولة للسلاح ولقرارَي الحرب والسلم. فمن دون ذلك، لا قدرة على فكّ ارتباط لبنان أمنياً بأهوال المنطقة، ومن دون ذلك، لا يملك اللبنانيون إلّا أن يظلّوا متأهبّين ومتمنّين دورياً أن يكون كلّ تصعيدٍ محدوداً وكلّ موقفٍ – لا شأن لهم ولـ”دولتهم” باتّخاذه – مضبوطاً لا يجلب المزيد من البلايا.

موقع لبنان ناو

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى