صفحات العالم

سوريا: الطريق إلى الجحيم


    خليل كلفت

    1: تواجهنا تطورات الصراع المرير بين الثورة والثورة المضادة فى سوريا بمشكلات معقدة ومخاوف مفزعة. فقد تداخلت عوامل لا حصر لها لتحاصر كل محاولة للتنبؤ بهدف تحديد السلوك السياسى المتوقع أو المطلوب بتحديات كبيرة. كذلك فإن اتساع نطاق اشتباكات الحرب الأهلية، واستخدام الأسلحة البرية والجوية من دبابات وطائرات وصواريخ، والتهديد باستخدام الأسلحة الكيماوية والجرثومية فى حالة بعينها، وتعقيد بنية المعارضة المسلحة بانضمام مسلحين إسلاميين متنوعين إليها من داخل وخارج سوريا، وبروز احتمالات أشكال من التدخلات العسكرية الخارجية المباشرة، بعد حشود تركيا، وتهديدات إسرائيل، وتحذيرات أمريكا وأوروپا، تطورات تجعل الاحتمالات القريبة والبعيدة كئيبة للغاية فى كل الأحوال.

    2: ومن الجلىّ أن ما يسود هناك هو الجنون كما سبق أن شهدنا فى ليبيا، وكما سبق وما نزال نشهد فى اليمن. وكان جنون معمر القذافى لا يحتاج بحكم طبيعته الشخصية إلى أىّ عوامل مساعدة وإنْ كان قد تشجَّع أيضا بأوهام مواقف روسيا والصين والهند (وتركيا فى البداية). ويساعد على استفحال الجنون فى سوريا واقع أنه توجد عوامل “مشجعة” تتمثل فى المواقف الخارجية المؤيدة للنظام مثل مواقف إيران والعراق وروسيا والصين. ومن الجنون بالطبع أن يحلم بشار الأسد بأن يستمر فى حكمه للشعب السورى بعد أن قتل أكثر من عشرين ألفا من بناته وأبنائه بالإضافة إلى مئات الآلاف من الجرحى والمعتقلين والمفقودين واللاجئين وبعد أن دمَّرَ الوطن ذاته بمدنه وقراه بمبانيها ومرافقها واقتصادها. ولا شك فى أن استمرار الصراع طوال أكثر من ستة عشر شهرا إلى الآن يُجْبِر بشار الأسد على إدراك استحالة استمرار نظامه بعد كل جرائمه ونظرا لقوة وصلابة الثورة التى لم يَعُدْ هناك مجال للتقليل من شأنها باتهامات لا تُجْدِى للثورة والثوار. ويمكن القول إنه يقاتل الآن، كما فعل القذافى، وظهره إلى الحائط بلا بصيص أمل. والسبب البسيط هو أنه لا ملاذ له ولا ملاذ بوجه خاص للقادة العسكريين والمدنيين للدولة والنظام وحزب البعث الحاكم، لأنه ليس هناك فى العالم مَنْ يمنح هؤلاء جميعا ملاذا آمنا. ولأن العدو أمامهم والبحر وراءهم فإنهم جميعا مجبرون على الجنون!

    3: وتدور الآن معارك طاحنة فى حلب، كبرى مدن سوريا (2132100 نسمة) وعاصمتها الاقتصادية، بعد معارك ضارية مهمة إستراتيچيًّا فى دمشق ثانى كبرى مدن سوريا (1711000 نسمة) فى قلب دمشق وفى ريفها. ومع عجز مجلس الأمن عن اتخاذ قرار مؤثِّر، والتهديد السورى باستعمال أسلحة الدمار الشامل عند أىّ تدخُّل خارجى، بدأت بالفعل تهديدات وتحركات وتحذيرات مضادة فى اتجاه تدخلات خارجية لا يمكن استبعادها على كل حال. ويستطيع الڤيتو الصينى أو الروسى بالطبع إصابة مجلس الأمن بالشلل، غير أن الموقف الروسى-الصينى المشترك يقوم بوظيفة تشجيع سوريا والمزيد من توريطها بالتالى فى الحرب الأهلية والتدخلات المحتملة دون أن يكون لدى روسيا والصين أىّ قدرة على الحيلولة دون تدخلات عسكرية غربية أو إقليمية خارج نطاق مجلس الأمن تماما كما حدث فى ليبيا، وقبل ليبيا مع يوجوسلاڤيا السابقة من جانب روسيا وكذلك مع صدام حسين من جانب روسيا أيضا. ويتمثل الغباء السياسى لروسيا والصين فى توريط النظام السورى فى الحرب الأهلية أو حروب التدخل الخارجى وبالتالى ضربه بدعوى الدفاع عنه وعلى أمل حمايته، أضفْ إلى هذا ما هو أهم وهو أن روسيا والصين تقامران بتدمير علاقاتهما مع سوريا ما بعد بشار الأسد فى مستقبل قد يكون قريبا. وبالطبع فإن الأمر الذى يدفع روسيا إلى السير فى هذا الاتجاه المناقض لمصلحتها هو تركيزها الأنانى على مصلحة واحدة من مصالحها مع أهميتها البالغة وتتمثل فى تفادى امتداد الثورة العربية (والإسلامية فى جانب بارز منها) إلى داخل روسيا وإلى بلدان مجاورة لها. ومن الجلىّ أن إيران تفعل الشيء ذاته، غير أن موقفها مفهوم تماما فى ضوء الخسارة الفادحة التى ستُمْنَى بها عند الانهيار النهائى للنظام السورى الحالى.

    4: وقد بدأت تركيا فى بناء حشود عسكرية وإجراء مناورات على بُعْد كيلومترين من حدودها مع سوريا، وموقفها منطقى تماما من وجهة نظر حساباتها لمصالحها، فالحرب تدور الآن فى حلب أىْ قرب الحدود مع تركيا، مع احتمالات لا يمكن استبعادها لاستخدام الأسلحة الكيماوية والجرثومية، ومع احتمالات زيادة تدفُّق اللاجئين السوريين إلى تركيا بأعداد تفوق طاقتها على الاستيعاب، ومع احتمالات تهديدات مباشرة لتركيا من جانب حزب العمال الديمقراطى الكردستانى أو القاعدة فى شمال شرق سوريا وعلى طول الحدود بين البلدين. وقد سمعنا تحذيرات إيران لتركيا بردّ فعل قاسٍ فى حالة تدخل عسكرى تركى فى سوريا. وبالطبع فإن تركيا بالإضافة إلى قوتها العسكرية دولة عضو فى حلف الأطلنطى، وهذان أمران يجعلان التحذيرات الإيرانية تورِّط سوريا أكثر دون أن تكون قادرة على أن تُنْقِذها. وتهدِّد إسرائيل مباشرة بالتدخل فى حالة خروج الأسلحة الكيماوية والجرثومية من سيطرة النظام السورى أو فى حالة نقلها إلى حزب الله، حليف إيران والنظام السورى والعدوّ اللدود لإسرائيل. وهناك بالطبع التهديدات الأمريكية والأوروپية خاصة فى حالة استخدام النظام السورى لأسلحة الدمار الشامل.

    5: وهناك مخاوف تتعلق بما بعد سقوط نظام الأسد. وهناك بالأخص مخاوف من تحوُّل “الصراع” الحالى إلى حرب أهلية، وهذه صيغة تتوهم أن الصراع الذى يجرى فى سوريا الآن ليس حربا أهلية، ويمكن أن يتحول إليها الصراع الحالى فى مرحلة تالية من تفاقمه أو بمجرد سقوط نظام الأسد فى ضوء أننا إزاء بلد متعدد الإثنيات والعشائر والثقافات والأديان والمذاهب واللغات دون أن يكون بلدا تعدُّديا يقوم بصورة حقيقية على المواطنة، خاصة نظرا لاعتماد النظام السورى على سيطرة أبناء طائفة مذهبية بعينها هى طائفة الشيعة العلويين على السلطة والجيش.

    6: وواقع أن سوريا متعددة الإثنيات والعشائر والثقافات والديانات والمذاهب واللغات دون أن تكون تعددية تنطوى فى حد ذاتها على خطر سواء فى حالة تصاعد الصراع مع نظام بشار الأسد أو فى حالة ما بعد انهيار هذا النظام. ويبلغ عدد سكان سوريا أكثر من 22.5 مليون نسمة (تقدير: يوليو 2012)، وتبلغ نسبة السوريين العرب قرابة 90 فى المائة من السكان، ونسبة السوريين المسلمين من كل الإثنيات 87 فى المائة. ونسبة السُّنَّة 74 فى المائة من السكان، ويبلغ عدد العرب السُّنَّة حوالى 13 مليون نسمة بنسبة حوالى 78 فى المائة من إجمالى السكان السُّنَّة، وعدد الأكراد السُّنَّة 2 مليون نسمة يعيش معظمهم فى شمال شرق سوريا بنسبة 9 فى المائة من السكان، والشركس السُّنَّة مائة ألف، وعدد التركمان السُّنَّة من 750 ألف إلى 1.5 مليون نسمة يعيش معظمهم فى حلب ودمشق واللاذقية. وتبلغ نسبة الشيعة العلويين والاثنى عشريين والإسماعيليين 12 فى المائة من إجمالى السكان. وتبلغ نسبة المسيحيين 12 فى المائة من إجمالى سكان سوريا، 45 فى المائة منهم من الروم الأرثوذكس، و 16 فى المائة من الكاثوليك، و27 فى المائة من أتباع الكنيسة الأرثوذكسية الشركسية، و 8 فى المائة من أتباع الكنيسة الرسولية الأرمنية، ومنهم عرب، وأشوريون، وأرمن، ويتراوح عدد الأشوريين بين 877 ألف و 1.2 مليون نسمة، ويعيشون فى شمال وشمال شرق سوريا (حمص والقامشلى والحسكة) ويتكلمون بالسوريانية والآرامية، ويبلغ عدد الأرمن 190 ألف نسمة. وعدد الدروز 500 ألف بنسبة 3 فى المائة من إجمالى السكان ويعيشون فى جبل الدروز فى الجنوب. أضفْ إلى هذا تلك الخريطة اللغوية المتعددة وفقا لتعدد الإثنيات، والعربية هى اللغة الرسمية لسوريا، والكردية الكورمانچية هى لغة الأكراد، والأرمنية هى لغة الأرمن، والتركمانية هى لغة التركمان، والآرامية هى لغة الأشوريين، والآرامية الغربية الجديدة هى لغة قرية معلولا وقريتين مجاورتين على بعد 56 كيلومترا شمال شرق دمشق.

    7: ورغم كل هذا التعدد تنعدم التعددية فى بلد يسيطر العلويون الذين يشكلون مع غيرهم من الشيعة الإثنى عشرية والإسماعيليين 12 فى المائة من إجمالى السكان على سلطته وإدارته وحزبه الحاكم “البعث” وجيشه وأجهزته المخابراتية والأمنية وأقسام من اقتصاده. كما نلاحظ ذلك التفاوت الكبير لتقديرين للسكان التركمان بين 750 ألف ومليون و500 ألف نسمة، ولتقديرين للسكان الأشوريين بين 877 ألف ومليون و 200 ألف نسمة، بطريقة تذكِّرنا بدوافع التقديرات المتباينة لعدد المسيحيين فى مصر، ولا مجال هنا بالطبع لبحث مختلف نواحى التمييز الإثنى والدينى والمذهبى فى سوريا.

    8: وتتعدد الأحزاب السياسية دون تعددية. وتشكل عدة أحزاب مع حزب البعث العربى الاشتراكى السورى الائتلاف الحاكم الذى يتمثل فى الجبهة الوطنية التقدمية ويرأس الأمين العام لحزب البعث وهو نفسه رئيس الجمهورية هذه الجبهة التى يمكن النظر إليها على أنها مجرد ديكور ساخر للديمقراطية التى يعلنها نظام ديكتاتورى فاشى فى عهدىْ كلٍّ من الرئيس الأب ووريثه الرئيس الابن. وهناك أحزاب جديدة مع قانون الأحزاب الجديد والانتخابات الپرلمانية بعد الثورة، وأحزاب كردية وغير كردية غير مشروعة. والإذاعة والتليڤزيون ملك للدولة وكذلك معظم الصحف، وقد ظل العمل بقانون الطوارئ مفروضا فى سوريا منذ 1963 وحتى 2011.

    9: والاقتصاد السورى الذى يتجه الآن إلى الانهيار هو اقتصاد دولة متوسطة الدخل يقوم على الزراعة، والنفط، والصناعة، والسياحة، وعلى قطاع عام يشرف على القطاعات الإستراتيچية الرئيسية وقطاعين خاص ومشترك. ويبلغ نصيب الفرد من الناتج المحلى الإجمالى (حسب القدرة الشرائية) أكثر من 5000 ليرة سورية، و (حسب القيمة الاسمية) 2800 ليرة سورية حسب تقديرات 2010، أىْ حوالى 106 دولار و 60 دولارا على الترتيب بحساب الدولار الواحد 47 ليرة سورية فى 2010. ويبلغ حجم الدين الخارجى 8 مليارات دولار فى 31 ديسمبر 2011. ورغم الحجم الكبير للقطاع العام فإنه واقع فى ظل رأسمالية الدولة تحت السيطرة الفعلية لبيروقراطية الدولة، كما تقوم فى القطاع الخاص إمپراطوريات اقتصادية يملكها قادة النظام. والعمودان الأساسيان لهذا الاقتصاد هما الزراعة والنفط. وقد تطور الرقم القياسى للتضخم إلى من 100 فى 2000 إلى 122 فى 2005. ويبلغ نصيب القطاع الصناعى الذى يشمل التعدين والصناعة التحويلية والتشييد والنفط أىْ الصناعات الاستخراجية والاستهلاكية 27.3 فى المائة من الناتج المحلى الإجمالى فى 2010، والزراعة 17.7 فى المائة، والسياحة 6 فى المائة، والخدمات 45.3 فى 2009. وفيما يتعلق بقوة العمل فإن معدل النمو السكانى يبلغ 2.37 فى المائة سنويا، و65 فى المائة من السكان تحت سن 35، وأكثر من 40 فى المائة تحت سن 15، وتقدر قوة العمل السورية فى 2010 بإجمالى حوالى 5.5 مليون فرد، يعمل 67 فى المائة منهم فى قطاع الخدمات بما فى ذلك الحكومة، وتستخدم الحكومة والقطاع العام 30 فى المائة من إجمالى قوة العمل بمرتبات وأجور متدنية، و 17 فى المائة فى قطاع الزراعة، و 16 فى المائة فى الصناعة، فى 2008. ووفقا للإحصائيات الرسمية بلغ معدل البطالة 12.6 فى 2009، وتقدره مصادر أدقّ ﺑ 20 فى المائة، ويكسب حوالى 70 فى المائة من قوة العمل أقل من 300 دولار أمريكى فى الشهر، وكانت 70 ألف أسرة (3.5 مليون فرد) بدون دخل فى 2009، ويعتبر 30 فى المائة من سكان سوريا فى 2005 فقراء و 11.4 فى المائة تحت خط الكفاف. وفى حالةٍ من عزلة النظام، والفساد، وضخامة الإنفاق العسكرى رغم التخلِّى الفعلى عن تحرير الجولان، ينخفض معدل الاستثمار وتنخفض مستويات الإنتاجية فى الصناعة والزراعة. وتعتمد سوريا كثيرا على المِنَح السعودية والكويتية خاصة بعد اشتراكها فى حرب تحرير الكويت، وعلى الدعم الذى تتلقاه من إيران وروسيا، وعلى إعفاءات من الدين الخارجى. وتستضيف سوريا إلى جانب أكثر من نصف مليون لاجئ فلسطينى أعدادا من المهاجرين العراقيين بلغت مليونا و300 ألف نسمة يعود كثيرون منهم إلى بلادهم فى الوقت الحالى.

    10: ورغم الحجم الهائل لضحايا الاشتباكات الضارية الواسعة النطاق والدمار الواسع الذى لا يكاد يستثنى مدينة أو ريفا أو قرية فى سوريا من حلب والحدود مع تركيا شمالا إلى درعا والحدود مع إسرائيل والأردن جنوبا ومن ساحل المتوسط والحدود مع لبنان غربا إلى بو كمال والحدود مع العراق شرقا، هناك حتى فى بيانات مختلف الدول والهيئات الدولية تحذيرات عن احتمالات انزلاق سوريا إلى حرب أهلية فى مرحلة تالية وبالأخص فى حالة سقوط نظام بشار الأسد، وكأن ما تشهده سوريا الآن ومنذ بدايات الصراع المسلح هناك ليس حربا أهلية. وينطلق مثل هذا الإنكار لواقع الحرب الأهلية فى سوريا من مفهوم يقصرها على الصراع المسلح داخل بلد بين جماعات أو طوائف إثنية أو قومية أو قَبَلِية أو عشائرية أو ثقافية أو دينية أو مذهبية دينية. ويأتى غموض هذا المفهوم من عدم وجود تعريف واضح له فى اتفاقيات چنيڤ أو أىّ وثائق دولية. غير أن تعريفاتٍ لعلماء السياسة للحرب الأهلية تنظر إليه على أنه صراع عنيف مسلح متواصل بين مجموعات منظمة بحيث تشمل القوات المسلحة النظامية، ويكون أحد طرفيها الدولة، وتُوقِع أكثر من ألف من الضحايا (وهناك تقديرات تهبط بهذه الأعداد حتى إلى مائة فى بعض التعريفات). ومن الجلىّ أن القمع العسكرى للثورة فى سوريا قد تحوَّل منذ وقت طويل إلى حرب أهلية لا تنقصها سمة من سماتها النموذجية فالقوات المسلحة النظامية والدولة هما الطرف الأساسى فيها وبلغت أعداد القتلى أكثر من عشرين ألفا وبلغت أعداد الجرحى والمعتقلين والمفقودين واللاجئين مئات الآلاف وعمَّ البلاد من أقصاها إلى أقصاها دمار شامل. وبطبيعة الحال فإنه لا مجال فى سياق نظام طائفى يسيطر عليه العلويون استبعاد أن تتخذ الحرب الأهلية فى مرحلة تالية قبل و/أو بعد السقوط النهائى للنظام شكل الحرب الأهلية الطائفية أيضا خاصةً نظرا للتعقيد المتزايد لبنية المعارضة المسلحة: الجيش الحر، والإخوان المسلمون، والقوى الليبرالية والمدنية، والجماعت الإسلامية الجهادية التى تتدفق الآن عبر الحدود مع تركيا والعراق ولبنان وربما غيرها، ونظرا للدور المعادى للشعب السورى الذى تورطت فيه وانزلقت إليه أقسام كبيرة من الطائفة العلوية قبل وبعد الثورة، و ونظرا لاحتمال حروب بالوكالة لتضارب المصالح الخارجية التى صارت تلعب دورا كبيرا فى التطورات السورية (إيران، العراق، دول الخليج، تركيا مع النظام أو ضده، والولايات المتحدة وأوروپا وإسرائيل، مع الثورة أو ضدها).

    11: ولا شك فى أن البُعْد الطائفى ماثل فى الطريق الذى سارت فيه القيادة السورية فى مجال تصفية الثورة. ومن الملاحظ أنه يوجد فى بلدان ثورات ما يسمَّى بالربيع العربى (تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا) طريقان لتصفية الثورة: طريق التصفية التدريجية للثورة كما فى مصر وتونس وطريق التصفية الحربية العنيفة للثورة كما فى ليبيا واليمن وسوريا. وقد أوضحتُ فى مقالات سابقة أن أوضاعا بذاتها هى التى تحسم خيار طريق تصفية الثورة. ولا شك فى أن “حكم الشخص” فى هذه البلدان جميعا جعل من العلاقة الفعلية لرأس النظام مع بقية مؤسسات الدولة وأجهزتها المخابراتية والأمنية عاملا حاسما فى قدرة هذا “الشخص القائد” على جرّ كل القيادة والنظام ومؤسسات الدولة وراءه على الطريق إلى الحجيم. ويمكن القول إنه كان هناك تماسُك كبير فى قمة النظام السورى، رغم انشقاقاتٍ (رفعت الأسد، عبد الحليم خدام) لم تمزِّق هذا التماسك، بحيث كانت لدى القيادة السورية ثقة زائدة بالقدرة على سحق الثورة بسرعة، الأمر الذى ورَّطها بحيث صار من المستحيل عند مرحلة بعينها أن تتراجع هذه القيادة فتتجه إلى إصلاحات ذات شأن فى محاولة لتهدئة الثورة فى سياق تصفيتها. وقد تمثَّلَ أحد عوامل ثقة النظام السورى بنفسه وبالتالى انزلاقه بسهولة فى طريق التصفية العنيفة الحربية للثورة فى واقع استناده الطائفى المذهبى إلى الشيعة العلويين، وذلك بالإضافة إلى استناده إلى حزب له تاريخ طويل فى القمع الأيديولوچى والأمنى وحتى العسكرى (مجزرة حماة فى 1982) هو حزب البعث العربى الاشتراكى السورى. ولا شك فى أن مخاوف العلويين والبعثيين والأجهزة المخابراتية والأمنية من العواقب الوخيمة عليهم جميعا فى حالة انتصار الثورة قد جعلت الاستماتة فى الدفاع عن النظام السورى مسألة حياة أو موت. وبالطبع فقد كانت مواقف إيران وروسيا والصين والعراق عوامل مشجِّعة حاسمة فى خيار الطريق إلى الجحيم.

    12: وقبل وبعد السقوط المحتمل للنظام تتصارع على أرض سوريا مصالح خارجية متضاربة تضيف إلى الحرب الأهلية احتمالات اكتساب ملامح من الحروب بالوكالة. وتمثل جمهورية إيران الإسلامية لاعبا أساسيا، بحكم تحالفها القوى مع نظام الأسد، وهو تحالف لا يمكن فهمه فى إطار القربى المذهبية الشيعية-العلوية، رغم أهميتها. ذلك أنه لا شك فى أن إيران الجمهورية الإسلامية قد اكتسبت قوة مضافة كبرى إلى قوتها الاقتصادية ومكانتها السياسية فى تحالفها مع سوريا وحزب الله وحركة حماس، بالإضافة إلى الحكام الحاليين للعراق. ومن المؤكد أن سقوط نظام الأسد سوف يعنى انهيار نفوذها السياسى فى المنطقة العربية المجاورة لإسرائيل، وانهيار قوة حليفها المتمثل فى حزب الله، وكذلك نفوذها لدى حركة حماس. ويعنى هذا إحكام عزلة إيران التى تعانى العزلة أصلا طوال عقود وبالأخص منذ تفجُّر المشكلة النووية. ويمكن أن يشكل هذا أيضا ضربة للتوازنات التى تعتمد عليها كحامية للأقليات الشيعية فى بلدان عربية عديدة والأغلبية الشيعية فى العراق. ولهذا سارعت إيران إلى تحذير تركيا من الرد القاسى على تدخل عسكرى محتمل من جانبها فى سوريا، مع إدراكها التام لحقيقة أن تركيا مدفوعة إلى إجهاض تهديدات محتملة بشدة لمصالحها من خلال سيطرة محتملة لحزب العمال الديمقراطى الكردستانى على حدودها مع سوريا ومخاوف ارتفاع أعداد اللاجئين السوريين إليها، ومع هذا فإن التحذيرات الإيرانية يمكن أن تكون نباحا وليس عضًّا وتهويشا وليس استعدادا حقيقيا لمواجهة مع تركيا الأطلنطية دفاعا عن سوريا.

    13: وتتداخل مع صدامات المصالح هذه مواجهةٌ سياسية وقتال بالوكالة فى سوريا بين إيران ودول الخليج. وفى هذه المرة أيضا تقف دول الخليج وبالأخص قطر والسعودية والإمارات إلى جانب ثورة من الثورات العربية الراهنة بعد تونس ومصر وليبيا رغم وقوفها الحاسم مع الثورة المضادة فى اليمن والبحرين. ويمكن أن نفهم موقف دول الخليج فى المحطات الأساسية للثورة العربية إلى جانب الثورة ضد النظام وثورته المضادة فى إطار الموقف المزدوج من جانب دول الخليج التى تحارب الثورة وتخشى امتدادها إليها فهى بالتالى فى صف الثورة المضادة ولا يمكن أن تكون فى صف الثورة. ويتمثل الموقف المنافق المعادى للثورة لدول الخليج فى وقوفها مع الثورة المضادة ضد الثورة باعتبار أن قوى الثورة المضادة هى الثورة. وفى حالة سقوط رأس النظام بسرعة فى كل من تونس ومصر فى فترة لا تتجاوز أسابيع قليلة وقفت بعض هذه الدول مع المعارضات التى بدت بمظهر الثورة خلال تلك الأسابيع وواصلت دعم تلك المعارضات بعد أن حسمت موقفها بسرعة مع النظام ضد الثورة كما حدث فى مصر خاصةً من جانب الإسلام السياسى بقيادة الإخوان المسلمين فى مصر. وفى حالة التصفية العنيفة الحربية للثورة، واستمرار الصراع المسلح المرير بين النظام والشعب، كان لا مناص من وقوف هذه الدول إلى جانب الثورة القابلة للتحول مستقبلا إلى ثورة مضادة، وإلى نظام جديد للرأسمالية التابعة، بهدف منع انتشار الثورة، وإدراكا لحقيقة أن من المستحيل أن يستمر معمر القذافى أو بشار الأسد فى حكم الشعب المعنىّ بعد ذبح بناته وأبنائه وتدمير وطنه، وإدراكا منها أيضا لحقيقة أخرى أهم وهى أن هذه القوة الثائرة ستكون قادرة على إخضاع الثورة مستقبلا بالاستناد إلى أسطورة أنها هى الثورة. وإذا تركنا جانبا دولة قطر التى قامت بدور بارز فى هذه الثورات جميعا حتى قبل انفجار الثورات بوقت طويل، فى سياق بحثها عن مكان تحت الشمس سياسيا واقتصاديا متسلحة بقناة الجزيرة والإنفاق الواسع على دول وحركات وثورات، ربما فى إطار تحالف دولى يهدف إلى المساعدة على تغيير الخيول فى المنطقة فى سياق الثورة، فإن قطر والسعودية والإمارات مجتمعةً، وهى من أقطاب الثورة المضادة دون شك، تقف إلى جانب الثورة السورية إدراكا منها لطابعها المزدوج، باعتبارها ثورة وثورة مضادة متداخلتين فى هذه الثورات جميعا. وكان التخلص من نظام القذافى يفتح، عاجلا أم آجلا، بابًا إلى احتمال حكم حلفاء إسلاميين محتملين فى ليبيا. وما دامت الثورات قد تفجرت، وشاركت فيها قوى للإسلام السياسى، فقد صار من المأمول أن تنتصر الثورة المضادة ببقاء الرأسمالية التابعة فى هذه البلدان على أيدى العسكر و/أو الإخوان المسلمين، والحيلولة دون امتداد المدّ الثورى إلى دول الخليج التى كانت مؤهلة بحكم أوضاعها كبلدان نفطية غنية لتفادى الثورة وسحق بداياتها وإرهاصاتها. وتعمل دول الخليج أيضا على إطفاء نار الصراع المسلح بين الثورة والثورة المضادة لأن استمراره يعنى احتمال امتداده إليها، ولأن انتصار الثورات والأنظمة الناشئة عنها يقوِّى نفوذها على هذه البلدان وتحالفها معها، ولأن هذه البلدان تقاوم النفوذ الإيرانى فى المنطقة من خلال سوريا وحزب الله وحماس والجهاد فى غزة، بهدف إحكام العزلة والحصار على إيران لإضعافها فى مواجهة هجوم أمريكى و/أو إسرائيلى ضدها، وبالتالى بهدف التخلص من الضغوط الإيرانية عليها وتشجيعها لأقسام متمردة من شعوبها فى مواجهة التمييز المذهبى ضدها.

    14: ورغم أن النظام السورى كان يقف مكتوف اليدين إزاء قضية تحرير الجولان المحتلة خشية سقوطه كنتيجة طبيعية لهزيمة عسكرية تحتمها علاقات القوة العسكرية بينها وبين إسرائيل، فإن دوره فى دعم حزب الله وفى تعميق نفوذ إيران فى المنطقة العربية من خلال سوريا وحزب الله والمقاومة الفلسطينية فى غزة، كان يجعل التخلص منه ضرورة أمريكية وإسرائيلية وخليجية فى سبيل عزل إيران تمهيدا لتوجيه ضربة غير مستبعدة فى لحظة مواتية إلى قدرتها النووية، وإضعاف حزب الله وحركتىْ حماس والجهاد. وصار التخلص من النظام السورى هدفا عمليا واقعيا بعد تفجر الثورة السورية. ولو كانت الثورة السورية ثورة استقلالية حقيقية وديمقراطية حقيقية دون أىّ أبعاد أخرى لما قامت دول الخليج وحلفاؤها الدوليون بتأييد ودعم الثورة، غير أن هذه الثورة كانت ثورة وثورة مضادة فى الوقت ذاته، بحكم حركة شدّ الحبل المتوقعة بين القوى الديمقراطية والقوى الإسلامية الإخوانية بالذات وقيادات الجيش السورى الحر، كما هو الحال أيضا بالنسبة للثورة المصرية وغيرها أيضا. ولأن الثورات العربية ليست ناشئة فى المحل الأول عن نضالات ديمقراطية أو استقلالية أو اشتراكية منظمة واسعة طويلة بل تفجرت نتيجة للأوضاع الاجتماعية والاقتصادية المتردية إلى حد البؤس فى هذه البلدان مع تراجع تاريخى للقوى الليبرالية واليسارية ونمو منظم كبير للإسلام السياسى بوجه عام والإخوان المسلمين بوجه خاص، بمستويات متفاوتة بالطبع، فقد كان انفجار هذه الثورات يعنى صعود مختلف قوى المعارضة السياسية بأحجامها الحقيقية إلى السطح. ومهما كان موقف هذه المعارضات ضد الأنظمة الحاكمة قبل الثورة فإن هذا الموقف لم يكن ليعنى أنها جميعا معارضات ثورية، وذلك لأن قطاعات حاسمة من هذه المعارضات كانت فى الوقت ذاته قطاعات مهمة لا يمكن الاستهانة بها من الطبقة الرأسمالية التابعة الحاكمة، وينطبق هذا فى المحل الأول على الإخوان المسلمين والسلفيين والوهابيين والجهاديين وكذلك على الليبراليين اليمينيين. وهذه المعارضات إذن معارضة للنظام المعنىّ وموالية للطبقة المالكة، ومن هنا طبيعتها المزدوجة التى تقدمها فى البدايات الأولى للثورة كمعارَضة وثوار وقوى ثائرة قبل أن تتضح طبيعتها المعادية للثورة بأقصى سرعة من خلال تحالفها ضد الثورة مع النظام عند سقوط رأسه وعناصر من قمته، وهو ما حدث بصورة نموذجية فى مصر بالذات، وهو بحكم طبيعته تحالف مع الرأسمالية التابعة الحاكمة فى بلدان الثورة وتحالف مع الإمپريالية العالمية بقيادة الولايات الدولية وإسرائيل إقليميا. ومن هنا يمكن القول إن مواقف وجهود وأموال وربما أسلحة دول الخليج التى دعمت الثورة إنما تصبّ فى مصلحة الثورة المضادة سواء فى حالة استمرار نفس النظام ونفس الطبقة المالكة فى الاقتصاد والسلطة كما هو الحال فى مصر وتونس، أم فى حالة سقوط الطبقة الرأسمالية التابعة ذاتها، مع النظام، ومع رأس النظام، لصالح إعادة تشكيل الطبقة الرأسمالية التابعة ذاتها بأفراد ورجال أعمال جدد ومجموعات وشركات جديدة فى حالة التصفية العنيفة للثورة عن طريق الحب الأهلية كما يحدث الآن فى ليبيا، وكما يحتمل أن يحدث فى سوريا، إذا تركنا جانبا التجربة اليمنية التى يقوم فيها النظام القبلى الأكثر قوة ورسوخا بالمقارنة بالوضع القبلى فى ليبيا وسوريا بفرض “سقف” حديدى على الصراع بين الثورة والثورة المضادة هناك.

    15: وتدقّ إسرائيل طبول الحرب ضد إيران تمهيدا لهجوم إسرائيلى محتمل رغم صعوبته فى عام الانتخابات الأمريكية، أو لردع إيران عن القيام بأىّ مغامرة مباشرة أو بالوكالة فى سوريا. كما تتواصل تهديدات وتحذيرات إسرائيل للنظام السورى بالحرب فى حالة تحقُّق مخاوف إسرائيلية أكيدة منها قيامه بنقل أسلحة كيماوية وجرثومية أو أسلحة صاروخية متقدمة إلى حزب الله، أو فقدانه السيطرة على هذه الأسلحة وانتقالها بالتالى إلى قوى أو جماعات معادية لإسرائيل، أو أىّ تفكير محتمل من جانب النظام السورى فى أن يلعب اللعبة الوطنية القومية بالدخول فى حرب ضد إسرائيل بهدف إنقاذ نفسه رغم روادع علاقات القوة العسكرية بين إسرائيل وسوريا.

    16: وتتواصل التهديدات والتحذيرات الأمريكية والأوروپية للنظام السورى لمنع استخدام أو نقل الأسلحة الكيماوية والجرثومية. وترتفع أصوات للعمل خارج نطاق مجلس الأمن تفاديا للڤيتو الروسى الصينى الجاهز هناك، ويتنامى اتجاه إلى إقرار تسليح المعارضة السورية المسلحة والجيش السورى الحر، ويستقيل كوفى أنان من مهمته كموفد عربى ودولى. ولا يمكن بالطبع استبعاد احتمال أن تؤدى الحرب الأهلية التى تدور فى سوريا، بين الشعب ونظام الأسد، إلى التدخل العسكرى الخارجى أيضا رغم صعوبته “الحربية” بالمقارنة مع ليبيا. وكانت الحرب فى ليبيا فى الحقيقة حربا أهلية بين الشعب الليبى ونظام القذافى جرَّتْ إلى حرب تدخل خارجى قام به حلف الناتو ضد نظام القذافى. غير أن هناك بالطبع مصالح أمريكية وإسرائيلية وأوروپية إستراتيچية مهمة للغاية سبقت الإشارة إليها تربط القضاء على نظام الأسد بتوجيه ضربة كبرى للنفوذ الإيرانى فى المنطقة (سوريا، حزب الله، غزة). وإذا كان خيار طريق الحرب الأهلية لتصفية الثورة مشتركا بين النظامين الليبى والسورى فقد كانت هناك اختلافات كبيرة بين البلدين فى خصائص الحرب الأهلية الدائرة فيهما. والفارق الجغرافى الحاسم بين سوريا وليبيا واضح جلىّ. ففى سوريا تتواجد مدن وأرياف البلاد متصلة على الأرض ومتداخلة ومتشابكة على العكس تماما من ليبيا التى تتناثر فوق صحاريها المترامية مدن وواحات متباعدة قد تصل المسافة بين إحداها والأخرى أحيانا إلى مئات الكيلومترات، وكان هذا مفيدا عسكريا لكلٍّ من نظام القذافى وقوى وقوات الثورة فى آن معا. فقد أتاح الفاصل الجغرافى الطبيعى لكلٍّ من الطرفين التمركز والتطور بعيدا عن هجوم الطرف الآخر استعدادا لزحف كلٍّ منهما على الآخر فى مراحل لاحقة. ويختلف هذا عن الاتصال الجغرافى الذى سمح للجيش السورى القوىّ للغاية نسبيا بالانتشار السريع بدباباته ومدافعه وشبِّيحته فى كل نقطة فى البلاد فى ظرف كان فى البداية بعيدا عن أن يكون مواتيا لقوى الثورة وقوات الجيش الحر التى ظلت تقاتل ببسالة وصارت الآن قوة عسكرية يُحسب حسابها كما تجلَّى أمس فى دشق واليوم فى حلب. وهناك فارق آخر بالغ الأهمية يتمثل فى طول فترة الحرب الأهلية بالمقارنة مع ليبيا. كما أن هناك أيضا فارق الجوار الجغرافى-السياسى فى سوريا على العكس من ليبيا، ففى مقابل فتح الحدود الليبية مع تونس ومصر المنكفئتين على ذاتهما للأجانب المغادرين، فيما بقى الليبيون المقيمون بالداخل والقادمون من الخارج فى بلدهم، كان هناك ملاذ آمن لأعداد هائلة من اللاجئين السوريِّين فى تركيا ولبنان والأردن. وكانت وما تزال هناك بالطبع ضغوط ومساعدات تأتى من هذا الجوار الذى يشمل أيضا إسرائيل والعراق وإيران عبْرَ العراق، بالإضافة إلى الدعم السياسى والدپلوماسى وقَدْرٍ من الدعم العسكرى من روسيا، وربما من إيران والعراق وحزب الله لدعم نظام بشار الأسد، وربما من سُنَّة العراق ولبنان وتركيا لدعم الثوار. وبالطبع فإن وجود سوريا فى قلب الشرق الأوسط جعل ويجعل الاهتمام بها كبيرا فى المنطقة وفى العالم غير أن تدخُّل العالم أمر بالغ الصعوبة وخاصةً بالمقارنة بالسهولة النسبية للتدخل فى ليبيا بسبب تداخُل وتشابُك جماهير الثورة والقوات السورية المسلحة.

    17: ومع كل هذا فإن احتمالات دفاع نظام الأسد عن بقائه بكل وسيلة متاحة واحتمالات ردود الفعل التى يمكن أن تدفع إليها من جانب تركيا أو إسرائيل، أو فى أشكال متصاعدة للدعم العسكرى للثورة من جانب تركيا ودول الخليج، وخيارات إقرار ورفع درجة تسليح الجيش الحر وحتى التدخل العسكرى الجراحى ضد القيادة السياسية والعسكرية فى حالة حدوث تطورات بعينها من جانب أمريكا وأوروپا، تطورات محتملة يمكن أن تعجِّل بانهيار النظام السورى إنْ لم يأتِ هذا الانهيار سريعا من الداخل. وهنا تتجه الأنظار إلى استشراف الأنواع المحتملة للنظام أو الفوضى أو الحرب الأهلية عند انهيار النظام. وتأتى الأخطار كما فى كل ثوراتنا العربية الراهنة من جانب الإسلام السياسى وميول الحكم العسكرى لدى قيادات الجيش الحر رغم دوره الحالى فى حماية الشعب وثورته وفى الصراع العسكرى ببسالة وعناد فى سبيل إسقاط النظام. ورغم الضربات القاصمة التى كان قد وجهها الأسد الأب إلى الإخوان المسلمين، والحصار اللاحق من جانب نظام الأسد الابن وحزب البعث، واتساع نطاق المهجر الإخوانى بالتالى، فإن الوضع السورى يختلف كثيرا عن ليبيا. وهناك العامل السياسى المهم من الزاوية التى نهتم بها هنا وهو أن الزمن الممتد نسبيا للثورة أتاح للإخوان المسلمين السوريِّين فى داخل وخارج البلاد أن يشاركوا بصورة مكثفة فى الاحتجاجات السلمية وربما فى الاشتباكات العسكرية بصورة تؤهلهم لأن يكونوا شريكا مهما فى تقاسُم السلطة فى سوريا ما بعد بشار الأسد. وكما سبق القول فإن طريق الحرب الأهلية فى تصفية الثورة كما حدث فى ليبيا وسوريا يؤدى على الأرجح إلى انهيار النظام والدولة والطبقة فاتحا الباب أمام احتمال السيطرة الاقتصادية والسياسية للإخوان المسلمين وقيادات الجيش الحر. وبين واقع التعدد الإثنى والعشائرى والدينى والمذهبى البالغ التعقيد والغياب الفعلى لمنطق التعددية يقع الظل الثقيل لكل مخاوف الفوضى والحرب الأهلية الوحشية وللأمل فى قيام نظام جديد تعددى بفضل تنوع القوى السياسية المشاركة فى الثورة بعيدا عن نزوع تحالف محتمل بين قيادة الجيش الحر والإسلام السياسى بقيادة الإخوان المسلمين إلى احتكار السيطرة الاقتصادية والعسكرية لإعادة إنتاج نظام من الديكتاتورية والفساد واللصوصية الاستثنائية.

    18: وكلما تجسدت أمام بصائرنا رؤى مصائر بالغة الكآبة للثورة السورية اهتزت فكرة دعم الثورة بعد أن اتضح أن ثوراتنا جميعا إنما هى ثورة وثورة مضادة بحكم ضخامة وزن قوى أصيلة فى معاداتها للثورة فى هذه الثورات جميعا، وهما تبدوان فى فترة ما، خاصة فى البداية، كأنهما داخل بوتقة واحدة لكنهما كالزيت والماء لا تمتزجان. غير أن دعم الثورة الشعبية، رغم المشاركة فى عملياتها السياسية والعسكرية لقوى مضادة للثورة استعمارية عالمية ورجعية عربية ورجعية إسلامية وعناصر عسكرية محلية، موقف يُمليه مبدأ أعلى لا يعلوه مبدأ وهو بقاء الشعب السورى بدلا من إبادته وهلاكه وفنائه، ثم قدرة قواه الحية على مقاومة النظام التابع القادم أو الفوضى والحرب الأهلية غير المستبعدتين بعد انهيار نظام بشار الأسد.

    3 أغسطس 2012

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى