صفحات الرأي

بريماكوف والرؤية الروسية تجاه سوريا


عماد الدين رائف

عندما يتذكر السياسي السوفياتي ـ الروسي المخضرم يفغيني بريماكوف لبنان، يتوقف عند حادثة جرت في العام 1975، حين كُلف بمهمة تسليم رسالة من القيادة السوفياتية إلى الرئيس اللبناني السابق كميل شمعون، الذي كان مكتبه يقع خارج بيروت. يروي «كانت هناك حرب أهلية، وكنت نائبا لمدير معهد الاقتصاد الدولي والعلاقات الدولية. المشكلة كانت تكمن في كيفية الوصول إلى شمعون، خاصة أن السير في الشوارع كان خطراً بسبب إطلاق النار المستمر. في نهاية الأمر وصلت سيارتان ركبت إحداهما والثانية استقلها رجال أمن سفارتنا في بيروت. في البداية سار كل شيء على ما يرام لوجود هدنة قصيرة. ولكن في أثناء اللقاء مع شمعون، رنّ جرس هاتفه، وبعدما استمع إلى المتكلم شحب لونه. لقد ظهر في ما بعد أنه رد على مقتل خمسة شبان مسيحيين قتل مسلحو الكتائب 160 مسلماً. لقد أصبح معلوماً أن المعركة في المدينة ستبدأ من جديد وبضراوة أشد. لم يحالف الحظ السيارة المرافقة فقد أصيب روبرت مارتيروسيان بجروح كبيرة، أما فلاديمير زايتسيف (أصبح في ما بعد برتبة جنرال) فكانت جروحه طفيفة».

قضايا لبنان والمنطقة العربية، والصراع فيها، ليست محطات عابرة في رحلة بريماكوف السياسية، التي قضى فيها معظم سني عمره، فهو في كتابه «الشرق الأوسط ـ على المسرح وفي الكواليس» (موسكو ـ 2006)، وإن كان لم يتوقع ثورات «الربيع العربي»، إلا أنه استشرف عددا من التغييرات المهمة في المنطقة. وقد صدّر بريماكوف الجزء المتعلق بالصور في كتابه، بصورة جمعته بالزعيم الليبي الراحل معمر القذافي وهو يهديه خنجراً من وراء مكتبه، وكانت آخر صوره السياسية إلى جانب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (في دورته الرئاسية السابقة)، وهو يناقش معه تكليفه بالتوجه إلى بغداد. ومنذ أيام، كان لصحيفة «روسيسكايا غازيتا» لقاء موسع مع بريماكوف. في اللقاء لم يشذ قيد أنملة عن التوجه العام للسياسة الروسية، التي أرسيت أسسها منذ اللحظة الأولى لانطلاقة الاحتجاجات على الساحة السورية. لا بل زاد على ذلك حصرية «الموقف الوحيد الصحيح» لروسيا، من الأزمة السورية. وأنه «في المستقبل القريب لن تحدث موجات ثورية جديدة»، ما يؤذن بانتهاء ما سمي بـ«الربيع العربي».

سوريا و«الموقف الأخلاقي»

يرى بريماكوف أن ما يجري في سوريا هو «حرب أهلية شاملة، بمشاركة قوى خارجية. حيث يواجه النظام إلى جانب المعارضة السورية المسلحة، المرتزقة ومتطوعين من بلدان أخرى»، لافتاً إلى أن الرئيس الأميركي باراك أوباما «أعطى أوامر مباشرة إلى وكالة المخابرات المركزية لدعم المعارضة السورية. وهذا تدخل فاضح في الشؤون الداخلية لدولة ذات سيادة، والتي لا تهدد بأي شكل من الأشكال لا الولايات المتحدة الأميركية ولا غيرها من الدول». فـ«السعودية وقطر تمولان المقاتلين، وتركيا تقدم لهم دعما كبيراً.. إنها حرب أهلية شاملة، يتضرر بنتيجتها السكان المدنيون».

وروسيا الاتحادية اليوم، وفق بريماكوف، «تنتهج موقفا يمكن أن نسميه بأنه الموقف الوحيد الصحيح في هذه الأوضاع. فلو كنت رئيسا للحكومة حاليا أو وزيرا للخارجية، لكنت اتخذت الموقف نفسه. وطبعا هذا لا يعني أنه حتما الموقف الفائز. والشيء الذي يعجبني أن هدفنا ليس الحصول على مكاسب من هذا الصراع بأية وسيلة، لان موقفنا أخلاقي وجوهره المحافظة على حياة الملايين من الناس، وكذلك الاهتمام باستقرار منطقة مهمة واسعة. وهذا هو الموقف الوحيد الممكن في مثل هذه الأوضاع. أما كيف ستكون النتيجة، فأكرر بأنها غير معروفة. وليس هناك من يعلم فيما إذا كنا سنحصل على العدالة. وهذا الموقف صعب لأننا نخسر علاقاتنا مع عدد من الدول العربية».

ما الذي سيحدث إذا سقط نظام الأسد؟ سؤال يجيب عنه بريماكوف بسؤال «لماذا تساند العديد من الدول العربية الأعضاء في الجامعة العربية المعارضة السورية؟ إنها لا تريد أن ينتصر الأسد، لاعتقادها أن ذلك سيخلق حزاما شيعيا يضم إيران والعراق وسوريا ولبنان». ويرى أنه في لبنان «يزداد السكان الشيعة بصورة أسرع من البقية. و«حزب الله» منظمة شيعية. والطائفة العلوية في سوريا قريبة من الشيعة. وفي العراق، السلطة المركزية بيد القوى الشيعية. البلدان العربية تخشى هذا، لهذا في موقفها لهجة سنية. إذا ما تمكنت المعارضة من إطاحة الأسد فسيقام في دمشق نظام سني، وهذا سيؤدي إلى اضطهاد العلويين الذين يشكلون نسبة كبيرة من السكان. وسيتعرض للاضطهاد ليس فقط نشطاء حزب «البعث»، كما يتصور البعض، بل كل من لا يؤيد المعتقدات الدينية للمعارضة». ويتساءل بريماكوف «لماذا انضمت القاعدة إلى النزاع المسلح إلى جانب المعارضة؟ لأن «القاعدة» منظمة سنية. وكل حديث عن دعم الغرب للمعارضة بسبب رغبته في إحلال الديموقراطية والاستقرار هو غير صحيح مطلقا. فلن تكون هناك لا ديموقراطية ولا استقرار».

الإسلاميون ثم الإسلاميون

لا يرى بريماكوف أن «النتائج النهائية للثورات، هي تقوية مواقف الإسلام المتطرف»، فمنظمة «الإخوان المسلمين» في مصر، هي منظمة معتدلة جدا. أما في سوريا فمنظمة «الإخوان» أكثر تطرفا. يجب أن نولي الاهتمام حاليا في مصر إلى العلاقة بين «الإخوان المسلمين» والسلفيين، أي بين حزب «الحرية والعدالة» (الذي كان له 50 في المئة من مقاعد البرلمان الذي حلته المحكمة الدستورية) وبين «حزب النور» (الذي حصل على نحو 30 في المئة من المقاعد)»، معتبراً أنه إذا «اتفق الحزبان على قاعدة ما، وأنا لا أعتقد أن احتمال ذلك كبير، فإنه سيخلق مشكلة كبيرة. وكان محمد مرسي الرئيس المصري المنتخب قد أعلن عن خروجه من منظمة «الإخوان» ووعد بأن يكون «أبا لجميع المصريين». وان تصريحاته الأخيرة حول السياسة الداخلية والخارجية، تسمح بأن نعتقد ببقاء مصر دولة علمانية. أما السلفيون فيعارضون ذلك بشدة ويريدون أن تبنى الدولة على أساس الشريعة الإسلامية».

خطاب الإسلاميين وما يمكن أن يتوقع منهم في حال وصولهم إلى الحكم، لا يبارح الحديث عن «الربيع العربي»، ويذكر بريماكوف بأنه التقى «مرات عديدة العاهل السعودي، عندما كان وليا للعهد وبعدما أصبح ملكا. لقد قال عن الوهابية إنه تيار من غير الصحيح ربطه بالإسلام الراديكالي. إن الاتجاه الرئيسي لعبد الوهاب الذي عاش في القرن الثامن عشر كان العودة إلى صدر الإسلام، وان الله هو السلطة الوحيدة ولا سلطة لغيره. صحيح أن العالم الإسلامي غير متجانس، فهناك من يسير على نهج إسلامي معتدل وهناك راديكاليون. وطبعا فإن كل شيء سيكون مرتبطا بنتيجة الصراع بين هذين التيارين. وبالمناسبة ستؤثر نتيجة هذا الصراع ليس فقط على مستقبل الشرق الأوسط فقط، بل على مستقبل العالم قاطبة».

إلا أن التوجس العام من التمدد الإسلامي الراديكالي ينسحب من الحدود التركية إلى الحدود الصينية مروراً بآسيا الوسطى. وفيما تتزايد نسب التطرف في الجمهوريات الإسلامية المستقلة عن الاتحاد السوفياتي، لا يرى بريماكوف أن الأميركيين سيسحبون قواتهم من أفغانستان بحلول عام 2014، «بل ستبقى هناك تشكيلات كبيرة نسبيا. وهذا شيء جيد، لأنه لا يجوز ترك أفغانستان من دون مراقبة.. وإذا ما استلمت طالبان السلطة مرة ثانية، فسيكون لها تأثير قوي في الفضاء السوفياتي السابق. ستتوجه عناصر طالبان إلى حدود طاجيكستان، وأوزبكستان، حيث تتمتع قوى الإسلام الراديكالي بنفوذ كبير». أما من جهة الغرب، وبالمقارنة مع الضربة الجوية الإسرائيلية المحتملة لإيران، فيقول: «لنتذكر النزاع في أوسيتا الجنوبية عام 2008. لم تكن الإدارة الأميركية راغبة بقيام جورجيا بإعلان الحرب. فلقد وصلت كوندليسا رايس جورجيا، والتقت ميخائيل ساكاشفيلي وقالت له بالحرف الواحد «نرجوكم لا تفعلوا ذلك». ولكن الرئيس الجورجي كانت له علاقات مع أميركيين آخرين ومن بينهم نائب الرئيس. لذا كان مقتنعا بأن «الناتو» سيتدخل ويقدم له المساعدات. لقد اعتقد ساكاشفيلي بأنه سيتقدم إلى نفق روكسك (الفاصل بين تسخينفالي وروسيا) ويغلقه ولن تتمكن روسيا من إرسال دباباتها عبره. وفي هذه الأثناء يتدخل الجانب الأميركي. وبالأسلوب نفسه يحاول الإسرائيليون. وهم بذلك سيتصلون ليس فقط بأوباما بل قد يكون هناك من سيعدهم بالمساندة». وهو يرى أن الضربة الجوية لإيران ستكون غير مجدية. وبعد سنتين ستسترد إيران أنفاسها تماماً وتخرج علنا من اتفاقية الحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل، وعندها ستقدم على إنتاج أسلحة الدمار الشامل.

إعداد: عماد الدين رائف

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى