صفحات الحوار

الأب باولو ل”المدن”: من أجل التعددية

 

رند صباغ

مرتدياً ثوب الكهنوت الأبيض الذي خصصه لهذه الفترة المؤلمة وقد كتب عليه بالعربية “المصالحة” وقف الأب باولو دالوليو في أسبوعه الأخير أمام هيكل دير مار موسى الذي قضى فيه آخر ثلاثين عاماً يتلو صلاة الوداع بعد لحظاتٍ من معرفته قرار إبعاده عن الأرض التي لطالما اعتبرها وطنه بعد زياراته المعلنة إلى القصير والقرى المحيطة بنية المصالحة بين الأهالي وإعادة المخطوفين، تدمع عيناه للحظات ويرفع الكأس والقربان على نية النصر والشهداء وسط بعض الأصدقاء، وعلى ذلك الطريق الطويل، يقول كلمة الوداع “حرية”، مقدماً وعده بالاستمرار بالعمل.

 تسعة أشهر مرت على خروجه دخل فيها المؤتمرات والمحافل الدولية حاملاً رسالة الشعب، ليعود إليه مرةً أخرى بالعزيمة عينها في نية الصلاة على شهداء الوطن، ليمر على بيروت حيث التقت به “المدن” ليخبرنا عن رحلته إلى المناطق الواقعة تحت سيطرة المعارضة المسلحة، فيروي لنا حكاية خروجه عندما تعذر على “جبهة النصرة” تأمين طريقٍ آمنٍ له إلى لبنان لاشتداد المعارك، فأخذوه نحو تركيا ليسافر من خلالها.

 “كانت غاية زيارتي رمزية” يقول باولو وهو يتوسط عدداً من اللاجئين السوريين، “كنت أرغب بزيارة الأماكن التي عاشت المجازر لأبكي مع الناس على المقابر الجماعية، سائلاً إن كان هناك نور للرجاء بعد كل ما حصل”.

 تبدأ الرحلة في رأس العين مع لجنة المصالحة الوطنية، هناك حيث يشتد الصراع العربي الكردي، ويخبرنا: “كنت في رأس العين، وتم إبرام الاتفاقية مع أخوتنا الكرد، وقد انحصر دوري بأن أكون شاهداً (الطبخة ليست طبختي)، وكنت موجوداً في أول أيام الالتزام الكامل، ولعل وجودي قد كان جزءاً لا يتجزأ من رمزية الاتفاق”. ينظر باولو إلى الأمر بالتفاؤل، حيث يرى أن “الطرفين كانا مرحبين بالاتفاقية سواءً من جهة الجيش الحر أو من جهة الأكراد”، وفي جوابه عن استفسار حول طبيعة الكتائب التي كانت تتواجد في المنطقة يقول الأب دالوليو: “الجيش الحر وجبهة النصرة وغيرهما يعملون معاً، إلا أن لكل طرفٍ عمله، الجهاديون في كل مكان، وعلينا ألا نفكر بأنهم منفصلون كلياً”.

 للأب الإيطالي السوري نظرة مختلفة عن الجهاديين، فهو لا يتعامل مع الحالة ضمن الصورة النمطية فلا يرى سبباً للمخاوف أو الملامة “لقد تخلى عنا العالم بأسره، فطلبنا العون ممن غلبوا الأميركيين في أفغانستان، وطردوا بطريقةٍ أو أخرى الاحتلال في العراق، وأقلقوا راحة أعداء العرب في غزة”، مدركاً أن وجودهم “قد يظهر جواً لا يعجب الجميع” محيلاً الأمر إلى ” غياب التضامن الديموقراطي العالمي من أجل الديموقراطية المبتغاة في سوريا”، ويضيف “كتبت على حسابي على تويتر رسالةً وجهتها إلى أوباما والاتحاد الأوروبي وصفتهم خلالها بالنعام، فنحن قد اتخذنا قرارنا بإسقاط النظام، وإن تطلب منا الأمر الاستعانة بالطوارق وطالبان، وأقصد بأنهم قد وضعونا في (خانة اليك) ولم يبق لدينا إلا أن نظهر أنيابنا”.

 “هناك العديد من المقاتلين غير السوريين” يجيب الأب باولو على سؤالنا عن حقيقة التواجد الأجنبي بين المعارضة المسلحة، إلا أن رؤيته للأمر بدت أكثر تعاطفاً أو ربما تقديراً لوجودهم “إنهم أناس عرب شعروا بنا، وأناس مسلمون أحسوا بألمنا، فأين المشكلة؟” معتبراً أن المشكلة تكمن “ما بين المشروع الإسلامي الجهادي والمشروع الديموقراطي التعددي بشكل تصادمٍ فكريٍ رمزي”، متمنياً أن تكون سوريا “مركزاً للتوافق الدستوري بين الهوية الدينية والهوية الطائفية والتوافقية المدنية تحت غطاء الحضارة العربية” ويضيف “الحضارة العربية ذات لون إسلامي بالتأكيد، وهي من فتحت المجال لأكبر تعاونٍ حضاري ما بين المسلمين والمسيحيين واليهود”.

 يزور الراهب اليسوعي قرىً أثيرت حولها بعض الأقاويل والمخاوف لاختلاف اتجاهات بعضها حيال الوضع الراهن، أو لاختلاف انتمائها الطائفي، حيث يبرز هنا التخوف من صراعٍ شيعيٍ سني والذي تم تسليط الأضواء عليه في تلك البقعة الجغرافية تحديداً في الآونة الأخيرة. “ذهبنا إلى نبل والزهرة والفوعة” يقول باولو “العرب السنة يمدون يد المصالحة للعرب الشيعة، وإن كان أخوتنا الأكراد يمتلكون القدرة على المساعدة لإطفاء الخوف ومنح الضمانات، فإن المجاهدين السنة على أتم الاستعداد لطلب عونهم لطمأنة الشيعة حيال ما يثار من مسائل كالإبادة أو الذبح، ليؤكدوا لهم أنهم لن يتعرضوا لشيء”، لكن الأمور ليست بهذه السهولة فيشير “اليوم وفي الوقت الذي تحلق فيه طائرات الأسد وقنابله فوق رؤوسهم فيما يأتيهم العسكر من حلفائه اللبنانين أو الإيرانيين، فالأمور ستكون صعبة”.

الآن تقترب الثورة السورية من دخول عامها الثالث، بالنسبة للأب باولو فهو لا ينشد اليوم أكثر من رغبته بالحزن والوقوف إلى جانب المتعبين “أريد أن نبكي على أراملنا وأمهاتنا اللائي فقدن أولادهن وأن نطلب الرحمة لشهدائنا ونلتزم بعون اليتامى وإسعاف المتضررين”، ويكمل “سنة ثالثة من الثورة لن يأتي فيها خير، فما خسرناه يفوق أي مقياس، لكن هذا ما حصل” خاتماً بأمنيته “إيماننا يجعلنا نرى أننا إن استطعنا رؤية سوريا الديموقراطية التعددية الإيمانية التقية لكل السوريين لن تذهب التضحيات سدىً لما سيعيشه أبناؤنا”.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى