صفحات الرأي

مواجهة شبح تفكك الدولة في العالم العربي/ عمار علي حسن *

لا توجد دولة واحدة في العالم تتمع بتجانس اجتماعي تام، فالدول كافة تكونها أشتات من البشر، إن لم تكن قبائل، فهي طوائف أو أعراق أو طبقات أو مذاهب أو شرائح أو لغات ولهجات مختلفة، ناهيك عن تعدد الهويات والثقافات الفرعية داخل كل ثقافة أصلية. بل لا نبالغ حين نقول إن الدولة الأقوى عسكرياً واقتصادياً في عالمنا المعاصر وهي الولايات المتحدة الأميركية عبارة عن «متحف أجناس بشرية».

لكن هناك دولاً تمتلك مقدرة فائقة على تذويب أشتاتها عند الحد المناسب الذي يضمن التعايش ويعززه، ويحول الاختلاف إلى تنوع خلاق. وتوجد دول أخرى تفشل في تحقيق «التكامل الوطني» بين الجماعات التي تكونها، وتحول الاختلاف إلى خلاف بل شقاق، يجعلها تعاني من أزمات تلاحقة، واحتقانات مستمرة، تعيق تقدمها، وتغري متربصين بها وأعداء لها بالتدخل بدس أنوفهم في شؤونها، وهذا حال كثير من الدول العربية في الوقت الراهن، ما يجعل من الضروري أن نبحث في سبل تحقيق الانصهار أو الاندماج الوطني الناجع.

فحتى تتم عملية الاندماج تلك على خير وجه، وتؤدي دورها في رفع الجماعة ودفع المجتمع إلى الإمام فلا بد من توافر شروط عدة يمكن ذكرها على النحو التالي:

1- الطوعية: فالاندماجات التي تتم قسراً لا يمكنها أن تعيش طويلاً، لأنها تحتفظ طيلة الوقت بجدر تهبط وتعلو بين الجماعات المندمجة رغماً عنها، فتبقى في أحسن الأحوال متجاورة، يتحين كل منها الفرصة لينقض على الآخر، أو يتحلل من الرابطة التي تجمعه به. والمثل الناصع تاريخياً على هذا هي الإمبراطوريات التي تلاحقت على حكم البشرية طيلة القرون التي سبقت قيام «الدولة القومية»، ففي توسعها ضمت أجناساً وأتباع أديان ومذاهب ولغات وأعراقاً عدة، ودمجت بينهم عنوة، وظل هذا الدمج القسري قائماً ردحاً من الزمن، من دون أن يتحول في أغلب الأحيان والمناطق إلى انصهار اجتماعي تام. ولهذا ما إن فلتت قبضة السلطة المركزية في هذه الإمبراطوريات حتى تمردت عليها الجماعات المجبرة على الإنضواء تحت لواء الإمبراطور وانفصلت تباعاً في كيانات مستقلة.

أما المثل الناصع في العالم الحديث فهو الاتحاد السوفياتي السابق، الذي قام على ضم قوميات وعرقيات وأصحاب ثقافات وديانات بالقوة المسلحة ضمن هذا الكيان الإمبراطوري الكبير، الذي ما إن تراخت قوته، حتى تفكك إلى دويلات عدة. وهناك أيضاً الاتحاد اليوغسلافي الذي راح يتفكك قبل أن تطوي الألفية الثانية سنواتها المديدة.

2- الخصائص البنيوية المشتركة: وهي تتوزع على مسارات متعددة تؤدي جميعها إلى تماسك «التيار الاجتماعي العريض» ومنها ما يتعلق بالقيم الاجتماعية السائدة والمتوارثة والتي إن تجددت لا تخل بهذا التماسك ولا تهزه فجأة فتنتج تصدعات وتشققات تضر به. ومنها ما يرتبط بالثقافة التي تحكم الأذهان والأفهام وتصقلها، وتحدد السلوك وتعّينه، فهذه الثقافة بما تنطوي عليه من معارف وقيم وتوجهات يمكنها أن توظف لبناء الوعي الذي يؤسس للتعايش وقبول الآخر من حيث المنشأ، ثم يفتح الطريق أمام البحث الدائم والدائب عن الانصهار الوطني. ومنها كذلك ما يرتبط بالجوانب الاقتصادية ومقتضيات السوق التي تبني شبكة من المصالح بين الفئات والشرائح والطوائف تجعلها حريصة على أن تبقي علاقات جيدة مع الكتل الاجتماعية المغايرة. وهناك أيضاً الأبنية السياسية التي بوسعها أن تلعب الدور الأكبر والأهم في إيجاد تلاحم بين أبناء الوطن الواحد، مهما توزعت هوياتهم على اتجاهات عدة، فالأحزاب السياسية والبرلمانات يمكن في الدولة الديموقراطية أن تكون معامل لصهر أتباع مختلف الهويات ودفعهم في سبيل إيجاد حلول لمشكلات تواجه المواطنين كافة، وتشريع ما يخدم الجميع. ويمكن أيضاً أن تكون المؤسسات البيروقراطية والجيش والمعاهد التعليمية أماكن جيدة لتعزيز التعايش والانصهار الوطني، من خلال إتاحة الفرص المتلاحقة لمنتمين إلى هويات متعددة في أن يتفاعلوا في مكان واحد، وينفتحوا على أفكار وسلوكيات غيرهم.

3- الإطار العادل: فالدستور الذي يحكم التصورات والممارسات داخل الدولة يجب ألا يفرق بين المواطنين على أي من الاختلافات القائمة بينهم، بل تسوي نصوصه بين الجميع في الحقوق والواجبات. ولو حمل دستور بلد أو قوانينه ما يميز بين مواطنيه على أي من أسس الاختلاف فإن هذا أمر جد خطير، ويفتح الباب على مصراعيه أمام ظهور أفعال اضطهاد سواء على مستوى الأفراد أم المؤسسات. ولا يجب الاكتفاء بالنصوص التي تقيم العلاقة بين المواطنين على أساس التساوي والتماثل، بل من الضروري أن تنتقل هذه النصوص إلى عالم الواقع، فتتحول من مجرد سطور إلى سلوك وتدابير.

4- الرابطة العاطفية: فمن الضروري أن تكون هناك نقطة موحدة تنجذب إليها مشاعر الجماهير، وتكون الأكثر سطوعاً من أي نقاط أخرى جاذبة، يمكن أن تشتت ولاءهم الجمعي. وهذه النقطة لا تخلقها الادعاءات ولا يصنعها الاكتفاء بالخطابات والكلمات الرنانة الطنانة التي تدغدغ المشاعر، إنما تتطلب إجراءات ملموسة في الواقع تغذي الانتماء.

5- المشروع السياسي والحضاري المشترك: فغياب المشروع السياسي، الذي يتحلق حوله الجميع ويعملون من أجل نجاحه، يؤدي إلى عودة الناس إلى انتماءاتها الأولية، لا سيما الدينية. أما حضور هذا المشروع بشكل طوعي، واشتماله على القواسم المشتركة والمصالح المتبادلة بين مختلف طوائف وطبقات وشرائح وفئات المجتمع، يؤدي بهؤلاء جميعاً إلى التوحد والانصهار.

* كاتب مصري

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى