صفحات العالم

لبنان: عن الترحيل والتنظيف والكره الدفين

 

سامر فرنجيّة

أثارت التصريحات الأخيرة للوزير جبران باسيل موجة ردود فعل مندّدة بعنصرية صهر الجنرال ميشال عون وميليشيوية أقواله. فلخّص الوزير اللبناني الفكر العنصري ببضع عبارات، مزج فيها بين الكره والجهل ليستنتج ضرورة طرد اللاجئين السوريين، الذين «بوجودهم وبعملهم وبعيشهم يأخذون مكان اللبناني». كما استنكر في تصريحه المقتضب «تعليم المنهج السوري في لبنان في بعض المدارس» والتخوف من «الافكار الغريبة والشريرة التي تأكلنا» وتأتينا من خارج الحدود. وفي مواجهة حجم التعدي على بلده الحبيب، طالب الحكومة بالبحث جدياً «بترحيل النازحين» إلى بلدان قد تستوعبهم أفضل أو إلى أراض في «أيادي الثوار والمعارضة والجيش الحر كما يقولون» (وقد يكون هذا التصريح الاعتراف الأول بأن الثورة في سورية لم «تخلص»). واختتم بقوله إن «هذا التفكير ليس عنصرياً أبداً، بل انه تفكير وطني ونفتخر به».

كلام باسيل، على رغم انحطاطه، لم يخرج عن أدبيات التيار الوطني الحر، مهما حاول البعض اعتباره مجرد «خطأ» وانجراف خطابي من جانب «وزير إصلاحي، إنسانوي، تربطه شراكة حقيقيّة بالمقاومة» (بيار أبي صعب، «الأخبار»، ٢٤ كانون الأول/ديسمبر ٢٠١٢). فقد حذّر من قبله رئيس تكتل التغيير والإصلاح من خطورة تدفق النازحين السوريين، مطالباً الحكومة بـ «نشر الأعداد رسمياً، وتكليف الأجهزة الأمنية والمخابرات ضبط السكن على الأراضي اللبنانية، إذ لا أحد يعرف العدد أو أماكن السكن أو إذا كانوا يحملون هوية أم لا». هكذا استعان النائب عون بالخطابات العنصرية عن التكتلات الشعبية الخطيرة والغامضة التي بررت معظم عمليات الفصل العنصري، ليطالب ضمنياً بتحويل مخيمات النازحين إلى مكان شبيه بمخيمات الاعتقال. وإذا تساءل أحد عن دور تلك المخيمات، أمكن استنتاج الجواب من تطمينات النائب عون الأسبوعية عن قرب انتهاء الثورة في سورية.

فلقد صرح قبل بضعة أشهر: «بعد المعركة الأخيرة في حمص وإدلب، يكون الوضع قد انتقل إلى مرحلة تنظيف». مخيمات اعتقال وترحيل نازحين وتنظيف…، والتراث السياسي لتلك الأفكار معروف، وهو، لمجرد التوضيح، ليس تراث التنوير والديموقراطية والاعتدال والانفتاح، كما يتوهم البعض.

هذا التراث ليس محصوراً بعائلة النائب عون فحسب، بل يمتدّ إلى تياره السياسي، ليغدو فلسفة يشترك فيها معظم ممثليه السياسيين. فإذا أخذنا الثورات العربية، فإن النغمة واحدة حيالها هي رفض التغيير. هكذا نعت النائب العوني نيبل نقولا «الربيع العربي» بـ «التخلف العربي» و «الفوضى العربية»، ولحقه زميله النائب فادي الأعور بتسميته «ربيع الموت» و «ربيع تدمير وخراب للأوطان». كما أن هذا التراث ليس محصوراً في الموقف من الثورات العربية، بل يطاول الداخل اللبناني حيث أرسى عون وتياره نمطاً من التعاطي الطائفي لم يشهده لبنان من قبل ولم يعد يحتاج إلى أمثلة لإظهاره. وكل ذلك مرفق برفض، إن لم يكن بكره، للآخر حتى في صفته كشهيد. فمنذ حادثة «مين سمير قصير؟»، اشتهر النائب عون وتياره بأسلوب يمزج بين «ما تحت الزنار» و «تفليت اللسان»، وكان التبرير دائماً أنّ الجنرال كيله قد طفح، فضلاً عن تهكم وتذاكٍ يراد منهما سلب الضحية كل رمزية. فمن التلميح بالدوافع الشخصية لبعض الاغتيالات إلى اتهام الشيخ المقتول على حاجز للجيش اللبناني بـ «الشرب»، وصولاً إلى الحملة الشنيعة على الإعلامية مي شدياق من جانب مقربين من التيار، بقي الموال نفسه وهو أن الذنب صادر عن الضحية.

وبعد كل موجة استنكار لخطاب عون وممثليه، تتكاثر التحليلات لتفسير هذه الظاهرة، أي شعبية هذا الأسلوب الرديء في السياسة. في هذا الإطار، شكّلت صورة الفاشي الصغير إحدى الاستعارات لفهم خطاب عون وإغرائه. غير أن «فاشية عون» رثة وقد بقيت أشبه بشعبويات عنصرية وكارهة. هذا ما دفع حازم الأمين إلى الاستعانة بصورة بقال «متوسط التعليم والذكاء، ابن الطبقة المتوسطة، الصاعد من سوية اقتصادية أدنى» لالتقاط ضجيج عون اللافعال (ناو ليبانون، 13 نيسان/ابريل 2012). وبين البقال والفاشي، تعددت الصور لتحاول فهم عون وظاهرته، من صورة «المجنون»، النافية للتفسير، إلى صورة «الوصولي» التي تحاول التقاط الغاية من وراء هذا الضجيج، وصولاً إلى اعتباره مجرد زعيم طائفي، يقود مجموعة لم تقبل بعد بما بلغه التاريخ وبلغها (والبعض الآخر اعتبروه سامورياً، لأسباب ما زالت غامضة).

وقد تفسر تلك الصور بعض تصرفات النائب عون، غير أنها تلتقي بأشكال مختلفة على أن الميزة الأساسية لهذه الظاهرة هي فقدان الكلمات لمعانيها. فكما لاحظ كل من حاول محاسبة عون في محكمة المنطق والثبات، أو الأخلاق والحياء، أو حتى السياسة والفعالية، نجح البقّال «الفاشي» في الإفلات من الحكم، كون الكلمات لم تعد تعني شيئاً عنده أو عند تياره ومناصريه. فالكلمات تطفو في فضاء لا مكان فيه لقوانين المنطق أو السببية: فهو يسمح بالمطالبة بالشيء وعكسه أو بأمر التاريخ أو إهانة الشهداء والأحياء.

من يبحث عن تفسير لهذه الظاهرة لن يجدها، إلاّ في قوانين خاصة محصورة في الاجتماع الأسبوعي لتكتل التغيير والإصلاح. تصريحات صهر الجنرال قد تستعين ببعض الأفكار السياسية من هنا وهناك، غير أنها فاقدة لأية دلالة سياسية، غير هذا الفقدان للمعاني.

بهذا المعنى، فظاهرة عون هي خلط لعاملين: الأول مكون من استياء وغيظ تحولا مع انتهاء المشروع السياسي إلى مجرد كره دفين وهدّام. أما الثاني، فهو الرخاوة الأيديولوجية للسياسة اللبنانية، والتي تفاقمت بعد الحرب الأهلية، وجعلت نوعاً من اللامبالاة أو «السينيكية» أسلوباً من التعاطي السياسي. وقد حرّر هذا الأسلوب التعبير عن الكره من كل ضوابطه، السياسية والأخلاقية، التي باتت في نظر الكاره جزءاً من المنظومة المرفوضة.

وبلغة أدق، فالظاهرة العونية إشارة الى انحلال البيئة السياسية في لبنان، وهي نتيجتها الرمزية الأساسية. وفي هذا، إذا كان «العزل» مرفوضاً لارتباطه بتجربة لبنانية سابقة، فقد يصح عنوان «التجاهل» كأسلوب في التعامل مع هذا التيار وكمحاولة للحصانة ضد عدوى الكراهية.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى