راتب شعبوصفحات سورية

سينيكالية سورية ناشئة/ راتب شعبو

يتعزز لدى مثقفين سوريين شباب هذه الأيام نزوع كلبي (سينيكال) جوهره رد أي فكرة سياسية عامة إلى أصل ذاتي مذموم يتصل بقائلها. يتطلب ذلك بطبيعة الحال معرفة شخصية عن المتحدث (المنبت المذهبي أو العرقي والقومي) أولاً ثم البحث عن دافع أناني أو ذاتي لجعله المضمون “الحقيقي” للفكرة. ليست الفكرة، وفق هذا التحليل الدارج، سوى غطاء يحظى بقبول عام تتستر به ميول شائنة. على هذا، يتحول مديح الفدرالية إلى مكر كردي، ومديح العلمانية إلى مكر أقلي، وعلوي بشكل خاص، ومديح الديموقراطية النسبية إلى مكر سني. تؤخذ الفكرة إذن بدلالة القائل ويتم بذلك إسقاط أي قيمة عامة لها.

يقول أحد البوستات على صفحة شاب سوري معارض: (تغليفُ المطالِب الذاتيَّة بأفكار عامَّة، لا شيء مُسلَّي أكثر من هذا، ككردّي يتحدَّثُ “بتجرّد” عن فوائد الفدراليَّة على الاقتصاد، أو علويّ يحدّثكَ عن دور العلمانيَّة في التصنيع، أو سنّي يحدثّك عن شرعيَّة صندوق الاقتراع وحكم الأغلبيَّة). هذا مثال عن هذه النزعة  الكلبية التي نتناولها. فضاء الأفكار مخترق دائماً، حسب التحليل السينيكالي هذا، باستطالات فئوية أو شخصية تحول دون التفاعل الفعال معها. استطالات تحرم الفكرة من استقلاليتها في المستوى الذي تنتمي إليه وتقسرها على البقاء مرتبطة بقائلها. الأفكار العامة إذن مجرد أقنعة وعلى التحليل إزاحتها وكشف “الخصوصيات” وراءها.

وفي غير مكان نقرأ كلاماً مكروراً عن “باطنية الغايات الطائفية” وعن “اللاطائفية الطائفية” وعن “العلمانية الطائفية” ..الخ. من سبل التحليل السياسي وطرائقه أن يعرض القول على الفعل ويكشف التفارق ويبني عليه النقد. ومن سبله، أن يعرض القول على الحدود الواقعية التي تحيله إلى قول مزاود مثلاً أو تضليلي. ومن طرائقه أيضاً، أن يعرض قولاً على قول ويكشف عن تعارضات أو انزياحات أملتها مصالح معينة ..الخ. غير أن التحليل السينيكالي يبني ذاته على أرضية مختلفة هي الحكم المسبق بأن الأفراد لا يمكن أن يكونوا مواطنين صالحين أو خالصين، فهم ليسوا سوى ألسنة متعددة الصيغ لخدمة الفئة الاجتماعية (الطائفة، العرق، ..) التي ولدوا فيها والتي تعطيهم تحديداتهم النهائية (شاءوا أم أبوا)، لأن الانتماء الطائفي هو “الهوية الأصلية الصلبة”، كما يقول أحدهم، ولأن “القاع الطائفي العميق” هو مصدر خطاب كل مثقف من أبناء الأقليات، على قول آخر.

إذن غاية التحليل السينيكالي هي أن يزيح القناع العام عن أي خطاب ليكشف وراءه المرامي الذاتية الطائفية أو الشوفينية أو سواهما. ولن يخيب التحليل السينيكالي في الوصول إلى غايته، لأن النتيجة التي يبحث عنها كان قد وضعها سلفاً في مقدماته. ولا يفقد هذا النمط الدارج من التحليل موضوعه إلا حين يقف أمام خطاب طائفي صريح. عندئذ يتطابق الوجه والقناع، حسب السينيكالي، ولا حاجة به بالتالي إلى كشف المكشوف. وعليه، المثقف الصادق هو المثقف ذو الخطاب الطائفي، وما سوى ذلك ليس إلا تحايل وتلوّن وتمويه وما إلى ذلك من فنون المثقفين.

غير أن هؤلاء السينيكاليين سرعان ما يرمون شكوكهم وترسانتهم التحليلية جانباً حين يتناولون ظواهر أخرى، مثل الخطاب الخليجي الداعم للثورة السورية مثلاً. هنا تختلف المقاربة. هنا يمكن لأحدهم أن يقول: صحيح إن دول الخليج لا علاقة لها بالديموقراطية ولا بحقوق الإنسان، ولكن لماذا لا نستفيد من دعمها لتحقيق غايتنا الديموقراطية. الشيء نفسه ينسحب على تحليل الموقف الأمريكي والأوروبي. يستنكف المنطق السينيكالي هنا عن مهامه “الكشفية” ويرضى بظاهر الكلام الخليجي أو الأمريكي، بالرغم من وضوح التفارق بين الغاية الخليجية والغربية وبين غاية الثورة السورية. ويبقى السؤال: لماذا لا يرضى هؤلاء بظاهر الكلام العلماني الديموقراطي للمثقف السوري كمنطلق لبناء أرض وطنية مشتركة، كما يرضون بظاهر الكلام الخليجي مثلاً لتحقيق غاية الثورة؟

روزنة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى