صفحات الثقافة

«سِيرْفَانْتِيسْ» في الآدَاب الإِسْبَانِيَّة لِلْكَاتِب خْوَانْ غُوْيتِيسُولُو: كلّما أمْعَنْتُ النّظرَ في الثّقافة الإسلاميّة أدركت أهميّة ما ورثناه عنها في الأندلس/ محمّد محمّد خطّابي

 

 

غرناطة ـ «القدس العربي»: قبل أن يتسلّم الكاتب الإسباني الذائع الصّيت خوان غويتيسولو في الثالث والعشرين من شهر نيسان/ إبريل الجاري 2015 جائزةَ «سيرفانتيس» في الآداب الإسبانيّة، وهو أوّل تكريم يمنحه العاهلُ الإسباني فيليبّي السّادس، وحرمُه الملكة ليتيثيا بعد أن تنازل والده ملك إسبانيا السّابق خوان كارلوس الأوّل عن العرش الإسباني له أواخر شهر حزيران/ يونيو من العام الفارط 2014.

وخلال لقاء لخوان غويتيسولو مع ثلّة من الصّحافيين الإسبان في المكتبة الوطنية الإسبانية بتاريخ 21 إبريل الجاري، كان قد صرّح بأنه أثناء حضوره مراسيم حفل تسليمه جَائِزَة «سيرفانتيس» بجامعة «ألْكَلاَ دِي إِنَارِيسْ» (قلعة النّهر) بالقرب من العاصمة الإسبانية مدريد قائلاً: «لن أرتدي بدلة السّهرة السّوداء «شاكيّ» أيّ المعطف التقليدي الذي عادة ما يُلبس في مثل هذه الحفلات الرّسمية، بل أنني سأرتدي خلال هذه التظاهرة الأدبية الكبرى بشكل عادي»، وكان غويتيسولو قد برّر ذلك قائلاً كذلك: «إنه من السّخف أن يُطلب من رجلٍ عجوز في الرابعة والثمانين من عمره أن يرتدي أرديةً تنكّريّة، وإذا كان لابدّ لي أن أفعل ذلك، فإنّني أوثر وأحبّذ أن أرتدي جلباباً»، أيّ متسربلاً برمزٍ من رموز الثقافة التي أعطت الكثيرَ، وأثَّرَتْ في تكوين الثقافة الإسبانية، وثقافة شبه الجزيرة الإيبيرية على وجه الخصوص، والعالم الناطق باللغة الإسبانية بشكلٍ عام، وهي الثقافة الإسلامية، كما أكّد هو نفسه ذلك من قبل في العديد من المناسبات، وبالفعل ارتدى غويتيسولو خلال حفل مراسيم تسلّمه لهذه الجائزة (يوم الخميس 23 ابريل 2015) من يديّ العاهل الإسباني فيليبّي السادس لباساً عادياً بسيطاً، مُوليّاً ظهرَه للتقاليد المتّبعة، وبعيداً عن التصنّع والتنكّر والبهرجة.

وكان الكاتب خوان غويتيسولو في يوم 21 ابريل الجاري نفسه قد أودعَ – كما هي عادة كلّ فائز بهذا التكريم – في «صندوق الآداب» بمعهد سيرفانتيس للثقافة الإسبانية مخطوطيْن غير مطبوعين من أعماله الإبداعية (شعراً ونثراً)، لا يمكن فتحهما، أو الاطّلاع عليهما، أو قراءتهما إلا بعد مرور عِقدين من الزّمن حسب رغبته – أيّ في عام 2031، حيث سيبلغ غويتيسولو المئة عام من عمره.

بعد عدّة ترشيحات منذ سنوات عديدة خلت، أمكن- لهذا الكاتب المُغرَم والهائم بالعالم العربي والإسلامي، والذي اختار مدينة مرّاكش المغربية منذ سنوات عديدة خلت مكاناً ومقرّاً ومستقرّاً له – أمكن له الحصول أخيراً على هذا التكريم الأدبي الكبير لعام 2014 الذي أُعْلِنت نتائجه يوم الاثنين 24 تشرين الثاني/ نوفمبر من العام المنصرم 2014. وتُعتبر جائزة سيرفانتيس الإسبانية بمثابة نوبل في آداب هذه اللغة الواسعة الانتشار، وتُشرِف على تنظيم هذه الجائزة المهمّة كلّ سنة وزارة التربية والثقافة الإسبانية، وتبلغ قيمتها المادية (125000) يورو، ويتمّ تنظيم مراسيم حفل تسليم هذه الجائزة في 23 إبريل من كل عام، حيث يصادف هذا التاريخ ذكرى وفاة الكاتب الإسباني المعروف ميغيل دي سيرفانتيس الذي تحمل الجائزةُ اسمَه، وهو صاحب الرّواية المطوّلة الشّهيرة «دُونْ كِيشوت دِي لاَ مَنْشَا»، (أنظر مقالي في «القدس العربي» حول هذه الرّواية تحت عنوان: «دون كيشوت لسرفانتيس.. رحلة في عالم الأحلام» المنشور بتاريخ 10 أيلول/ سبتمبر 2013)،

وكان وزير الثقافة الإسباني خوسّيه إغناثيو ويرت، قد صرّح بأنّ خوان غويتيسولو قد تمّ اختياره بعد سبع جلسات من التصويت، وأنّه حصل على هذه الجائزة نظراً لمقدرته الخارقة في تطويع اللغة، ورصانة تحقيقاته اللغوية العميقة، والتزامه المتواصل، ودفاعه الدائم عن الحوار بين الثقافات»، كما صرّح الكاتب خوسّيه مانويل كابايرو (رئيس لجنة التحكيم التي منحته هذه الجائزة الكبرى والحاصل على الجائزة نفسها عام 2012) فقال: «هذه الجائزة التي حصل عليها غويتيسولو جاءته في الوقت المناسب وبكل المقاييس، إذ يُعتبر هذا الكاتب واحداً من قمم، وروائع الأدب الإسباني غداة الحرب. وقد تطوّرت أعماله الأدبية من الواقعيّة الاجتماعيّة، إلى بحوثه وتساؤلاته وتحقيقاته وتضلّعه في اللغة». وصرّحت الكاتبة المكسيكية المعروفة إلينا بونياتوسكا (الحاصلة على الجائزة نفسها كذلك لدورة عام 2013 وعضو لجنة التحكيم الحالية) فقالت: «إنّ حصول خوان غويتيسولو على هذا التكريم يشكّل حفلاً أدبياً كبيراً، فنحن في المكسيك نعرف هذا الكاتب منذ أن كان شابّاً في مقتبل العُمر، حيث كان يتردّد كثيراً علينا لزيارتنا، كان صديقاً أثيراً وحميماً للكاتب المكسيكي الرّاحل كارلوس فوينتيس، إنّه كاتب يحرص على أن يربط ويجمع باستمرار ما بين الضفتين (الإيبيرية والأمريكية)»، ولا شكّ أنه يفعل الشيء ذاته بين ضفتيّ المتوسّط، بين أوروبّا وشمال أفريقيا وتحديداً المغرب. وتضيف بونياتوسكا: «إنّه رجل جدير بالثقة لأصالته»، (أنظر مقالي حول هذه الكاتبة المكسيكية المبدعة في «القدس العربي» بتاريخ 23 أيار/ مايو 2013).

 

بين ابن عربي وإبن حزم وسان خوان دي لاكروث

 

خوان غويتيسولو يُعتبر من أبرزالكتّاب الإسبان في الوقت الرّاهن، لما يمتاز به من صوت أدبي متفرّد بين باقي الأدباء الإسبان، ولنوعية كتبه ورواياته المتعددة، التي أثارت جدلاً ما زال يُسمع صداه إلى الآن ليس في إسبانيا وحسب، بل وفي مختلف الأوساط الأوروبية، والأمريكية والإنكليزية كذلك لجرأتها وخاصّيتها وإشكالية الإبداع فيها، التي تنطلق من التعامل مع اللغة من منظور تفجيرها وتفكيكها وتغيير مسارها وإعطائها نَفَساً وَزَخَماً إبداعياً خلاّقاً. كما أنّه يُعتبر مثالاً للاستقلال الفكري والثقافي وممثّلا للتجديد في الأدب الإسباني المعاصر.

ويجدر بنا التذكير في هذا المقام بهذه المناسبة أنّ الأديب خوان غويتيسولو يكنّ محبّةً كبرى، وتقديراً عظيماً للثقافة الإسلامية على وجه العموم، ويشعر بإعجاب كبير نحوها في مختلف مجالات الفكر والخلق والإبداع، حيثما نما وسما وترعرع، سواء في المشرق العربي أو في المغرب، ففي معرض إعجابه بالمسلمين وتراثهم وحضارتهم ولغتهم نجده يقول بالحرف الواحد: «إنّ استيعابي وتمثلي للفضول الأوروبّي الشّره جعلني أتحوّل شيئاً فشيئاً إلى مواطن إسباني من نوع آخر، عاشق لأنماط الحياة والثقافات واللغات من مختلف المناطق الجغرافية. لا ينحصر عشقي وإعجابي وَوَلَهيِ بكيبيدو، أو غونغورا، أو ستيرن، أو فولتير، أو مالارميه، أو جويس، بل يتعدّاه كذلك إلى ابن عربي، وأبي نواس، وابن حزم، وإلى التركي جلال الدّين الرومي مولانا. إنّ هناك عوامل إيجابية، وطاقات إبداعية هائلة مختلفة من كل نوع لهؤلاء وأولئك على حدّ سواء، فعندما يكلّف المرءُ نفسه عناء تعلّم لغة صعبة جداً مثل اللغة العربية، وقد بلغ من السنّ عتيّا، فإنه ينبغي أن تكون هناك دواعٍ عميقة جدّاً لذلك، (الكاتب الأرجنتيني المعروف خورخي لويس بورخيس قرّر تعلّم اللغة العربية كذلك عندما ناهز سنّه الثمانين) والحقيقة أنّ الدواعي موجودة. فأنا أعتقد أنه يستحيل فهم الثقافة الإسبانية وهضمها بشكل شامل ودقيق من دون استيعاب التراث الإسلامي، ومعرفة الثقافة العربية، وكلّما دخلتُ في هذه الثقافة، تأكّد لي بشكل جليّ قيمةَ وأهميةَ ما ورثناه عن تلك القرون للوجود الاسلامي في شبه الجزيرة الايبيرية». ويردف الكاتبُ قائلاً في السّياق نفسه: «هناك من ناحية أخرى جانب المودّة في العلاقات الإنسانية التي انعدمت في المجتمع الأوروبي الذي أعيش فيه وأنتمي إليه، ففي مدينة مراكش، على سبيل المثال، يمكنني أن أكتب وأن أقرأ، كما يمكنني في الوقت ذاته الخروج للنّزهة والتحدّث إلى الناس البسطاء وليس مثل ما هو عليه الأمر في باريس ونيويورك، اللتين انعدمت فيهما العلاقات الإنسانية وتلاشت». لقد قرأ خوان غويتيسولو ـ على حدّ تعبيره: «نصوصاً دينية إسلامية كثيرة وهي نصوص تهمّه جدّاً، إنّه يقرأها مثلما يقرأ أعمالاً لماغلان، أو ابن عربي المُرسي، أو ابن حزم، أو سان خوان دي لاكروث، بمعنى أنّها تبدو له وسيلة تعبير أدبي راقٍ جدير بالإعجاب والتقدير».

 

إسبانيا استفادت كثيراً من الحضارة الإسلاميّة

 

يدافع الكاتب خوان غويتيسولو دائماً عن مغزى التداخل والتكامل الثقافيين عكس ما يحدث في إسبانيا في الوقت الرّاهن من ميولات إقليمية وانفصالية منكمشة ومنغلقة على نفسها، إلاّ أنّ غاية تدخّلاته وتصريحاته في هذا القبيل لم تكن مفهومة بما فيه الكفاية. إنّه يشير في هذا الصدد» إلى أنّ الدفاع عن التعدّد الثقافي والتنوّع الفكري أو تعدّد قنوات الثقافات القائمة في محيط بلد مّا شيء، وإقامة حواجز بين هذه الثقافات وتصنيفيها في حيازة فرضيات ذات مضامين معّينة وطنية أو محليّة شيء آخر مخالف للسّابق. إنّ ثقافة من هذا القبيل منكمشة على نفسها لهي ثقافة مُنكِرة لوجود سواها من الثقافات وإشعاعاتها، فالتزوير المتعمّد للماضي التاريخي، وتشذيب أو حذف أو التغاضي عن كلّ ما هو أجنبي من الثقافات، من شأنه أن يفقر أو يفسد الحقيقة في حدّ ذاتها.

كما أنّ ذلك يشكّل حاجزاً يقف حجرعثرة في سبيل التداخل المتناغم للثقافات. إنّ المثال الأعلى للفكر التعدّدي هو أن يكون فكراً متقبّلاً ومفتوحاً خلاّقا. وانطلاقاً من هذا المفهوم، فإنّنا نورّط أنفسنا ونجعلها تغيّر موقعها الحقيقي من تاريخ إسبانيا. إنّ النيّة المبّيتة التي تجرّد جميع تلك المُعطيات من عناصرها الصالحة بشكل تعسّفي لهويّة وطنية مّا، لهي نيّة تتّسم بنظرة ضيّقة وهامشية ومنغلقة، ذلك أنّ تاريخ أيّ شعب إنّما هو خلاصةُ التمازج الحضاري والتأثيرات الخارجية التي استقبلها وهضمها، وإسبانيا خير مثال للبلدان التي استفادت بشكل إيجابي مباشر وكبير من الحضارة العربية الإسلامية التي تألقت، وازدهرت، وبلغت أوجها فوق ترابها زهاء ثمانية قرون ونيّف، بالعطاءات الثرّة والخلق والإبداع في مختلف مجالات الحياة التي ما زالت تطبع الحياة الإسبانية، وتميّزها عن سواها حتى اليوم .

 

حياة حافلة وأعمال وفيرة

 

وُلد خوان غويتيسولو في برشلونة عام 1931، وبدأ يكتب القصص والرّوايات منذ سنّ 23 سنة (عام 1954) وتحمل أولى رواياته عنوان «لعبة الأيدي» التي وضعته في ذلك الإبّان في مصافّ كتّاب الواقعية السّحرية غداة الحرب. استقر في باريس منذ عام 1956، وبعد أن انتقل بين كوبا ومدينة ألميرية الإسبانية، بدأ في كتابة نوع جديد من الإبداع الرّوائي الذي سوف يتميّز به منذ ظهور روايته الشّهيرة «علامات هويّة» عام 1966، التي يقدّم فيها نظرةَ مَضَضٍ وتقزّزٍ عن إسبانيا على عهد الجنرال فرانكو على لسان ألفارو ميننديولا الذي كان في الواقع يعبّر، وينطق باسم الأنا الآخر للكاتب نفسه.

ومنذ أوائل الثمانينات من القرن المنصرم انتقل خوان غويتيسولو لإقامته الدائمة التي حدّدها بين مدينتي باريس ومرّاكش، حيث استقر بصفة دائمة في المدينة المغربية منذ عام، 1996والتي أهداها روايته الكبرى «مقبرة» (1980)، ومن أعماله الأخرى : «الإشارات»، و»صراع في الجنّة»، و»السيرك» و»الجزيرة» و»نهاية الحفل» و»عناوين هويّة» و»دون خوليان» و»خوان بلا أرض» و»فضائل الطائر المنعزل» و»أسابيع الحديقة» و»ستارة الفم» و»في ممالك الطوائف»(مذكّرات) وسواها من الأعمال الإبداعية الأخرى في مثل «لمحة بعد المعركة»، وملحمة ماركس»، و»موقع المواقع»، حيث تمتزج في هذه الأعمال جميعها هواجسُ الحياة، وتداخل الأزمنة، وتوارد وتواترالأصوات والتصوّف والأبيات الشعرية العائدة لأرثيبيستي دي هيتا، وإشكاليات الهجرة وتطوّر اليسار بعد سقوط جدار برلين، وحرب البلقان والعالم العربي والإسلامي. تضاف إلى ذلك أعمال شكلت سيرته الذاتية أو مذكراته مثل، «منطقة محظورة»، ومن أشهر كتبه في العالم العربي كتابه المُترجم للغة العربية «إسبانيا في مواجهة التاريخ.. فكّ العقد» حيث يُدافع فيه عن الثقافة العربية، ودورها في التقريب بين الشعوب وسواها من الأعمال الإبداعية الأخرى.

وهو حاصل على جائزة «فورمينتور» الدّولية الأدبية لعام 2012، وكذلك على أكبر جائزة أدبية في أوروبا، وهي «أورباليا» التي تُمنح في بروكسل، والتي تُعتبر بمثابة نوبل في الآداب الأوروبية، وعلى جائزة «أوكتافيو باث» في الآداب، وعلى جائزة «الأدب الأمريكي اللاتيني والكرايب خوان رولفو»، وعلى «الجائزة الوطنية للآداب الإسبانية» و»جائزة «بلانيتا» الإسبانية كذلك، بالإضافة للعديد من الجوائز الأدبية الرّفيعة الأخرى في مختلف بلدان العالم. ومنذ عام 2007 أصبحت المكتبة التابعة لمعهد سيرفانتيس في مدينة طنجة تحمل اسمه تكريماً له ولإبداعاته المتميّزة. وتمنح جائزة «سيرفانتيس» الأدبية الكبرى بالتناوب لكتّاب من إسبانيا، وبلدان أمريكا اللاتينية الناطقة باللغة الإسبانية، ومن الأدباء الكبار الذين حصدوا هذه الجائزة: خورخي لويس بورخيس، وماريا ثامبرانو، وكاميلو خوسّيه ثيلا، وماريو برغاس يوسا، (كلاهما حاصلان على نوبل في الآداب كذلك) داماسو ألونسو، كارلوس فويتنتيس، أليخو كاربنتير، رفائيل ألبرتي، إلينا بونياتوسكا، وآخرون.

القدس العربي

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى