صفحات الناس

بطاطا ووحل/ بندر عبدالحميد

 

 

ليس غريباً أن تحمل حصيلة «منجزات» تنظيم «داعش» وأمثاله من تنظيمات بوكو حرام وشباب الصومال وفجر ليبيا و«أنصار الله» في اليمن وأجنحة «القاعدة» المختلفة، في أفعالها وشعاراتها ونواياها، رغبة واضحة في إشعال حرب صليبية جديدة، تهدف إلى تهجير الطوائف الأخرى من جهة وجذب المهاجرين المسلمين في الغرب إلى صفوفها وتحقيق حلمها الكبير بتأسيس إمبراطورية لا حدود لها، ثم خلط الأوراق وبعثرة الجهود البطيئة المتنامية في مواجهة الإرهاب، هنا وهناك. ولم تكن جريمة شارلي ايبدو، وما بعدها في باريس، بمنأى عن هذا الهدف، وهي حرب يديرها رعاة متخرجون من كتاتيب الملالي الذين يحملون ألقاب العلماء، وهم أكثر الناس كرهاً للعلم والحرية والحب والحضارة والزراعة والصناعة والعمارة والفن والجمال.

ويبدو أن المواطن العربي على مدى سنوات عجاف من القهر والقتل والتشريد اعتاد على التعايش مع الواقع بكل ما فيه، وتآلف مع الخيارات الصعبة بين التهديد بالموت السريع أو الموت البطيء، وتشابهت لديه الأخبار التلفزيونية المرعبة مع الإعلانات التجارية الباذخة في السباق بين المعقول واللا معقول في الأخبار اليومية من حوله، على مدار الساعة، مع غياب الدهشة التي تصنعها المفاجآت المثيرة، وتدمير نظام علاقتنا بروزنامة الزمن، وعلاقتنا بالناس المنكوبين. وانسحقت علاقتنا بالفكر التنويري والنهضوي الذي تصاعد منذ نهايات القرن التاسع عشر، بالتزامن مع ولادة مسرحية ابسـن «بيت الدمية» التي حررت المرأة في أوروبا أولاً، ولوحة ادفار مونش «الصرخة»، التي بثت الرعب مما سيحدث في العالم، ثم جاءت ولادة السينما – أم التلفزيون – التي حوّلت الفنون المتخيلة إلى فن مرئي، موشح برؤى الخيال العلمي التي حملتها روايات جول فيرن.

ويبدو لنا التنافس حاداً، على الشاشات الملونة مع المباريات الرياضية والمسلسلات العاطفية مع أخبار تلك التنظيمات بكل ما فيها من ذبح ومجازر ليست مدهشة أو جديدة، لأن لها جذوراً بعيدة تمتد إلى القرون المظلمة التي انتشرت فيها الخرافات الدينية الشرقية المصنوعة لتمجيد الموت واحتقار الحياة، واستيقظت هذه الخرافات بعد الغزو السوفياتي لأفغانستان ومسلسل الحرب العراقية الإيرانية وأمهات المعارك المجانية التي تتلبس قناع العروبة أو الإسلام.

يرى المخرج والكاتب والممثل السينمائي وودي آلن أن «الحياة لا تقلد الفن وإنما تقلد التلفزيون»، وأكثر الناس تقليداً للتلفزيون وإعلاناته هم الأطفال والنساء، وعشاق الرياضة والألعاب من الشبان وعاشقات أدوات التجميل من الصبايا والمتصابيات، من الذين تعايشوا مع الرعب في الأخبار التلفزيونية والإعلانات معاً، وهم يقيسون أعمارهم بعدد المجازر والانفجارات، ويقيس الأطفال أعمارهم بما يصلهم من قشور البطاطا مع الوحل، بينما كان الشاعر ت. س. إليوت يقيس عمره بملاعق القهوة.

الحياة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى