صفحات الثقافة

وطن قومي للفقراء


فادي عزام

لما نزحت العائلة الأولى لم أعد أذكر ماذا كنت أفعل يومها؟ على الأغلب كنت مشغولا بنشرات الأخبار والهروب من العمل محتشدا بالانتباه الصارخ لأن بلدي ‘يعيش’ الموت.

وهل الموت يعاش؟ يسألني من أراه في المرآة!

كززت على شفتي السفلى حتى أدميتها.

وقلت له حازما: كُلْ بعضاً من هواء الوقت وتوقف عن الفذلكة؟ نعم أصلا اللجوء السوري طالما كان أليفا. كل ما حصل إنه هذه المرة يأتي بمنتهى الوضوح؟

طوال عقود والسوريون لاجئون في بلدهم حالمون بمغادرته.

أما اليوم الذين نزحوا وتشردوا وأصبحوا بعرف التاريخ لاجئين وبعرف الدين مساكين وبعرف الإنسانية وصمة عار. المشتتون في بقاع الكون بعيون مصوبة على سوريا التي اضحت دريئة لكل أنواع الاقتناص والاقتصاص.

أيها ‘العزيز الحكيم’ إنهم يهربون من الجحيم يحدوهم الإيمان بحكمتك الغامضة، يهربون وهم يسلمون بقضائك وقدرك ومشيئتك، يتأملون في الطرقات باحثين عن المفتاح الذي يفتح قفل الفرج بالصبر والمثابرة بروح بنلوب وإخلاص أحفاد أيوب.

هم فقراء سوريا الذين صب الأسياد عليهم حمم الجحيم. هم من تلتقط لهم الصور في المخيمات وتركز عليهم الفلاشات والعدسات وتجمع باسمهم التبرعات. هم أولائك يا الله من ليس لهم سواك من أول رصاصة، أول قتيل، أول ذبيح، أول هابيل سوري وهم يناجونك ولم يفقدوا الإيمان للحظة إنك ستبعث لهم ‘بالسيد فرج’.

في معتقل يقبع هذا السيد المتأخر أما زال يبحث عن مقشته فهم بأمس الحاجة إليه ليكنس عنهم لزوجة الكربة.

هم فقراء سوريا نزلوا من التل يحملون صلبانهم وكرجوا درب الجلجلة معكوسا يجتازون به الحدود إلى المنافي والمخيمات.

هم ناسك الطيبون بأحلامهم الخالية من الأذى وكلماتهم المليئة بالتقشف، وآلامهم اللجوجة وقلوبهم الكليمة. يهمسون لك في تشردهم الواسع بشتاتهم المثير ويسألونك هل من وطن قومي للفقراء.

في مقدمة الفتوحات المكية يستهل الشيخ محي الدين بن عربي هذه الحوارية:

سمح الله لموسى أن يكلمه فسأله: أين أجدك؟

فقال: ابحث عني في المنكسرة قلوبهم.

فأجاب كليم الله وهل هناك من هو منكسر قلبه اكثر مني؟

يا موسى عليك السلام.

جولة واحدة في مخيم واحد ونظرة واحدة لعين طفل فقدت أختها بشظية واحدة وتحديق عميق بوجه طفلة غارق بالركام ستعرف أنه لم يعرف التاريخ عن شعب انكسر قلبه تحت قبة هذا الصمت الاخرق مثل السوريين.

*روائي وشاعر سوري

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى