صفحات الثقافة

إتحاد مركّبات العنف في الصورة التلفزيونية


    سلام عبود

خلال السنوات المنصرمة، سنوات مكافحة الإرهاب، أنفقت الحكومات العراقية المتعاقبة ملايين الدولارات بهدف صناعة دعاية تلفزيونية مضادة للإرهاب. وقد تم إنتاج سلسلة من الأشرطة الموجهة الى المواطن العراقي، بثت على قنوات عراقية وعربية عدة.

صور تلفزيونية سادت الشاشة عن قوات “العقرب”، تلتها تسميات أقل بشاعة “صولة الفرسان”، ثم أفضت الى تسميات محسّنة “القوات الذهبية”. بيد أن هذه المواد الإعلامية لم تحسن محتواها التربوي، ولبثت تعيد إنتاج صور جديدة شكلا، تستمد أخيلتها المباشرة من تقاليد العنف الاجتماعي المتوارثة.

هذه الصورة الإعلامية العراقية ليست حكرا على جهاز الإعلام الحكومي العراقي، بل نجد لها مثيلا، في أماكن كثيرة. ولا تنحصر هذه الظاهرة في موضوع محدد، بل نجدها في صور أكثر ابتذالا أحيانا، في مضامين الأغاني العاطفية المصورة، ذات المناظر التغريبية أو المعالجات السطحية والبهرجة التهريجية. هذه الموضوعات، تضاف اليها برامج التنجيم والحظ والجوائز والمجادلات السياسية الفارغة، تكمل بعضها، وتتساند، صانعة لوحة شاملة لميول ثقافية جديدة، تتسيد قنوات البث التلفزيوني، المنتشرة كالفطر السام في حياتنا.

حينما يكون العنف مشروعا سلطويا، تسري قوانيه وأحكامه على الجميع، بمن في ذلك من ينفذه، ومن يقع عليه الحكم، ومن يسمع ويراقب، وحتى من يهرب من شروره. إن ثقافة العنف درس شعبي، مجاني، شامل وعميق الأثر. حينما يُمارس على مدى عقود متصلة، يغدو الفرد المقهور موضوعاً ومادة للقهر وليس ذاتا فاعلة. على العكس من الثقافة السلمية والقانونية، التي تجد لها موقعا في نفوس الناس جميعا من طريق الممارسة أيضا، ولكن الواعية، التي تتعمق بالثقافة والتجربة القائمة على الالتزام الطوعي فرديا، أو الامتثال الإرغامي قانونيا. إن ثقافة السلام والقانون متطلّبة، ذات شروط عالية السقف، صبورة، تدريجية، لذلك تشترط في رعاتها الروية والدقة وسعة التأثير وتغيير الوسائل وتجديدها وتعميم الحقائق على المجتمع كله. لأنها تشترط على الجميع: المؤسسة الحقوقية والسياسية والفرد والجماعات على السواء، قدرا عاليا من التفاعل الايجابي والانسجام يتحدى ضغط الذات وفلتاتها. سبب ذلك يعود الى أن التاريخ البشري عامة لم يكن تاريخ سلام، ولأن تطبيع الكائن البشري يتطلب كبح نوازعه العدوانية، التي هي المصدر الداخلي للعنف، المتوارث غريزيا، وكبح موروثاته البيئية والاجتماعية. لذلك يكون السلام حالة دائمة من الصراع ضد النوازع الداخلية وضد الموروث التاريخي وضد مستجدات الشر التي تنتجها البيئة. إن الثقافة العنفية وثقافة السلاح لا تحتاج إلا الى بوق للنفير، وطبول للهجوم، يليها نزول القوات الى الميادين والبدء بعمليات السلخ. ثم يعقبها صدور مرسوم استثنائي، مكتوب بيد شريرة.

قد يحسب القارئ أن النماذج الدراسية المعروضة هنا أمثلة تهدف الى توضيح شيوع ظاهرة العنف وامتدادها الى مجالات الفن والإعلام. وهذا انطباع خاطئ تماما. لأن ملاحظة ظاهرة العنف وتسجيل امتداداتها وتوثيقها لا تحتاج الى جهد بحثي للكشف عنها، فهي ظاهرة فاشية، مكشوفة، معروضة بابتذال في الحياة اليومية العراقية. حتى أننا نجدها تلوّن الخبر الرياضي، فتجعل اللاعب الماهر سفاحا، والانتصار الرياضي نصرا عسكريا، والتنافس الكروي واقعة حربية، وغيرها من التسميات القائمة على مبدأ العنف. إن امتداد العنف الى كيان من يدّعي محاربته باسم القانون والدولة والمجتمع، يعني أن العنف غدا مركّبا نفسيا وسياسيا وتربويا. أي أنه أضحى سلسلة معقدة من اتحاد الدوافع. فحينما نشاهد الإعلانات التلفزيونية التي خصصت لمكافحة الإرهاب نجدها مؤسسة تأسيسا نموذجيا على قواعد إرهابية أيضا. لإنها تواجه الإرهاب تربويا بالارهاب، وتخاطب العنف بالعنف. وهي لا تهدف الى تطهير ذات المتلقي من نوازع العنف، إنما تهدف الى صناعة منافسة أو مباراة في لغة العنف العدائية والانتقامية، وتهدف الى إقناع المتلقي بقوة عنف السلطة المسيّرة للثقافة العامة، مقارنةً بخصمها الإرهابي. فحتى أكثر هذه الإعلانات توفيقا في بنائها الدرامي (كحدث حكائي) تنبع من جوهر عنفي تقليدي واحد. إن عامل فرن الخبز، في إعلان “الخبّاز”، يختتم موقفه من العنف بالعبارة الآتية، التي يوجهها الى الإرهابي: “يا خسيس… ولّلي، تَرَ أخبزك، يا ناقص!”. تتضمن هذه النهاية شتيمة قبيحة أخلاقيا، مستنسخة من شتائم القيادات البعثية (نلاحظ هنا وحدة منابع الوضاعة التربوية، على رغم الفوارق المذهبية والسياسية)، وعلى فعل عنفي مثير للاشمئزاز، يتفوق على عنف الإرهابيين في بشاعة صورته. لأنه يربط رغيف الخبر، رمز الخير والحياة، بالقتل: “أخبزك”. وفي إعلان “الشرطي”، تبدو الخاتمة أقل بشاعة، في ظاهرها، لأنها ترتبط بشخص يعمل في مجال العنف. لكنها لا تقل عن سابقتها ضررا تربويا ونفسيا وتوجيهيا: “إمش يا جبان تره أكسر ظهرك!”. أما إعلان “الرجل المقعد”، الجالس على كرسي متحرك بسبب الإرهاب، فإنه ينقل الى المشاهد صورة ثأرية، عدوانية، تجسد تجسيدا مطلقا وناطقا عنوان موضوعنا الرئيسي: اتحاد ميول العنف بالخضوع، وتحول الدعوة الى العنف من اتحاد بسيط، كما رأيناها في زمن الديكتاتورية، الى اتحاد عصابي مركّب، في زمن فوضى التعبير العنفي وتنوع أساليبه ومصادره. ينتهي إعلان “الرجل المقعد” بتهديد يهدم مجمل ما سبقه من صور، خلاصته أن المقعد يتعهد جعل الارهابي يجلس في مكانه، لو أمسك به! ربما  ظن القائمون على جهاز الدعاية أن البعد الخارجي للحدث تعبير رمزي يشير الى الانتصار على الارهاب وتفكيكه. هذا التفسير صحيح تماما، من وجهة نظر عسكرية وشكلية خالصة. لكنه خلاصة تربوية عدوانية، لأنها تجعل من المقعد محاربا ثأريا ومنتقما، وليس مواطنا مسالما، ذا خبرات معادية للعنف. إن الغاية هنا من الانتصار على الإرهاب هي الحصول على مقاتل جديد، في هيئة منتقم جيد، وليس الحصول على مواطن محصّن من دوافع العنف، يضع تضحيته أمام المشاهد دليلا على التسامح والأمل بيوم خال من العنف. إن هذا الضرب من التوجيه الدعائي مثير انفعالي مركّب، لأنه يزرع بدلا من الإرهاب اللاشرعي مواطنا شرعيا، يمارس ردود الفعل الثأرية والحقد باسم المجتمع والقانون، بقدر ما يمتلك من قوة: الخباز يخبز البشر، والشرطي يكسر الظهر، والمقعد، الذي لا حول ولا قوة له، يرغم الإرهابي على الجلوس في كرسيه المتحرك! تلك هي مبادئ العدوانية الاجتماعية مبثوثةً تلفزيونيا بأموال الشعب الى المواطن البريء، المحروم.

من ملامح هذه الإعلانات أنها تخلط، تربويا وخطابيا، بين مفهوم الشعبي والسوقي. مثل هذا الخلط يشير الى جانبين: الأول، يعكس محتوى فهم القائمين على الإعلان للجانب التربوي. الثاني، يوضح طبيعة فهم هؤلاء للمجتمع ويرسم جوهر علاقتهم به. فالشعبي في نظرهم يوازي السوقي والمبتذل. بما أن المتحدث خباز مثلا، لا بد له أن يستخدم كلمات جارحة ونابية: خسيس، مقصوص، ناقص. ولما كان الإعلان مبثوثا الى ملايين الناس، يكون هذا التصور معدّا للتعميم، أي أنه معدّ في الأساس لكي يكون مادة تربوية وطنية شاملة. إن هذا الضرب من العنف ليس مركّبا في دوافعه فحسب (مصادر إنتاجه النفسية)، بل هو مركّب في تكوينه الفني والأخلاقي والسياسي أيضا (غاياته ورسائله وطبيعته السردية). من المؤكد أن يعكس هذا المستوى المتدني من المعالجة طبيعة الحاكمين وشخصياتهم، وليس فقط طبيعة ممثليهم في مجال الإعلام. فالمادة الدعائية صورة ناطقة لما يريده مالكها، وليس صانعها. حينما ننظر الى المادة الإعلانية، باعتبارها بناء مركّب الدوافع والتكوين، نجد أن التوجيه الدعائي لا يكتفي بالعنف وحده مادة سلبية، لكنه يقوم بتوحيده وربطه بعدد آخر من المؤثرات، كالسوقية والابتذال الأخلاقي. لذلك يغدو الهدف الدعائي شيئا آخر، ذا توجيه خاص متفرد. لا يعني هذا أن سلبية التوجيه تتضاعف كميا فحسب، بل يكون المنتج قد غيّر غاياته، وغيّر علاقته بالمتلقي، وغيّر من طبيعة إشاراته ورسائله أيضا. لذا يشعر المتلقي بأن اتحاد السوقية والابتذال بالعنف، يجعل الإعلان موجها لا الى المجتمع أو الى المتلقي فحسب، بل في الدرجة الأولى الى جهة معينة، سياسية أو اجتماعية، والى خصوم في هيئة أفراد أو جماعات، يراد النيل منهم، بطريقة استفزازية فظة: الاستخفاف والهزء والتحقير والتشفي والتحدي العدواني. في النتيجة تصبح مهمة المتلقي مركّبة أيضا. فهو موضوع للتأثير من المادة الإعلامية، جانبها التربوي والتعبوي تحديدا، وهو وسيلة يستخدمها مالك الإعلان  للنيل من الآخر، المنافس أو الغريم أو العدو، ولإمرار الرسائل. في الأحوال جميعها يكون المتلقي – المواطن – الخاسر الأكبر تربويا وماليا وأخلاقيا وجماليا.

إن المجتمع العراقي الذي عانى من ويلات الديكتاتورية والإحتلال والحروب عقودا مديدة، يحمل تأهيلا ذاتيا كافيا لقيام ردود فعل عنيفة. لذلك كان مشروع التحرير من طريق الحرب فرصة سانحة ومثالية لكي تطلق مخزونات العنف العراقي بأكملها. في الجانب الآخر كان من المحتم أن يتم إطلاق كل مهارات العنف الوحشي التي يمتلكها الجيش الأميركي والكتل الطائفية والعرقية والمناطقية. من المسؤول عن إطلاق الخزين العنفي بهذه الطريقة الفوضوية؟ ليس الشعب حتما. إنه من يختار المشروع – الحل- الخطأ، في اللحظة الخاطئة، وبالوسيلة الخاطئة، وهو أيضا من يغلق مسالك حركة التغيير الاجتماعي وآفاقها. حينما نعود الى التماهي مع قوانين العنف وموروثاته والخضوع وتحوّلها الى مركّب نفسي، بديلا من العنف والخضوع الأحادي السابق، نجدها مزروعة حتى في الإعلانات التي تدعو الى الأمان والسلم الاجتماعي. هذا ما رأيناه في إعلان شهر رمضان 2010 التلفزيوني، الذي كان مزجا دعائيا شاذا للعنف والخضوع والدين والعادات، على قاعدة التماهي مع العنف تحت ذريعة محاربة الإرهاب. يصور الإعلان التلفزيوني دورية عسكرية مشتركة، أميركية – عراقية، تتجول في الأزقة، بين البيوت الشعبية، وتراقب بحذر ومهنية عالية حركة الإرهاب، من أجل حماية العراقيين الصائمين! قد يبدو هذا المثال نافرا ومتناقضا مع مشاعر شهر رمضان، لكنه أمر يمكن احتماله باعتباره جزءا من ضريبة الاحتلال. بيد أن الحكمة النهائية للمشهد الإعلاني تنتهي بالكلمات التربوية الآتية: أخي المواطن رمضان شهر الكرم والغفران فادعو القوات الحليفة، التي تسهر على أمنك، الى مائدتك الرمضانية. رمضان كريم! هذا النداء المُذلّ، الجاهل بقوانين علم النفس الاجتماعي، المنافي للشرائع والتقاليد والحرمات والمنطق، هو خلاصة هذا البحث التحليلية. إن العنف والخضوع، الذي يبدو لنا في هيئة مخيال أو صورة أو أمان مكتوبة على ورق، هو مضمون سياسي مموّه، تكمن خلفه دوافع عصابية شخصية حينما يكتبه الأفراد، ودوافع عدوانية سياسية وحزبية وايديولوجية حينما يصاغ على يد مؤسسة مولودة من رحم العنف. إن النماذج السابقة جميعها تخضع للآلية العدوانية ذاتها: التماهي التام مع شروط العنف، واهتبال وجوده وشرعيته لغرض تنفيذ دوافع عنفية خاصة، إضافية، باسم المجتمع والقانون.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى