صفحات الثقافة

رجل في طور الغرق يتمسك بكومة قش مؤمناً بالنجاة

الصيني مو يان يكتب في “باو” النهم والتخييل والجنس

    رلى راشد

إذا كان الإنتصار العسكري يتحدّد قبل خوض المعركة وفق مفاهيم الإستراتيجيا الصينية القديمة، فالرواية تنتصر لنفسها قبل أن تُكتب حتى. المؤلف مو يان يعي ذلك تماماً ويبين تبصره في روايته “باو” المنقولة أخيراً الى الإنكليزية، بعد مجافاة انغلوساكسونية دامت عشر سنين. صدرت الرواية في الصين قبل عقد واستحال ان تثير حماسة الناشرين في الولايات المتحدة الأميركية بحركة أقل من نيل صاحبها نوبل الآداب. بدّل قدر العولمة الأدبية مصير مو يان، ليظهر نصه عجز أصوات أخرى، وتقصيرها في المزج بين الحكاية الشعبية والتاريخ والحدث المعاصر. أخرج الصيني سردا يدين الى التخييل الأدبي العظيم وروح الفلاحين في آن واحد، الى نبرة مؤثرة، في صنف أدبي نخشى اغترابه عنّا.

يلقي الكاتب حكايته في حقبة الإصلاح الإقتصادي في أرياف الصين، في تسعينات القرن المنصرم في ولاية شاندونغ، أرض الإنتماء الأولى. اعتاد مو يان زرع تخييله المبعثر بين التوهيمات والإستعارة في التربة الخصبة حيث تتناسل أسقام اجتماعية، تبدأ بالجشع الرسمي ولا تنتهي عند سياسة الطفل الوحيد. أمراض محليّة تتشعب كعناقيد العنب في مواسم الصيف الحارة فتتسلل الى كل مكان، وتتورط في كل انشغالات المجتمع. في روايته وخلف ملامح الفلاحين ثمة حيوية مصدرها إحساس كوني يتعلق بالخوف من التقهقر والموت. يكتب مو يان عن “رجل في طور الغرق يتمسك يائساً بكومة قش، معتقداً ان في وسعه وقف انحدار جسده الحتمي”.

 أكّدت الأكاديمية الأسوجية تأثر نص مو يان بواقعية غبريال غارثيا ماركيز السحرية عندما منحته نوبل الآداب، ولا يسع رواية “باو” أن تكذّب الإدعاء. الرواية غامضة في اكثر من مستوى، تتقدم في مسارين متوازيين من طريق حكايتين يمكن تميز كل واحدة بفضل الخط الطباعي المستخدم. في الخط المائل يسرد لوو شياوتونغ، الفتى ثم المراهق ثم البالغ، في ما يشبه الثرثرة الموضوعية، لقاء يجمعه بالراهب الكبير لان، نسيب زعيم القرية حيث يقيم مع أسرته. في مستهل الكتاب، يبدو لوو في العشرين وغير ناضج، لكنه يطمح إلى أن يصير تلميذ الراهب الكبير وان يغدو نباتيا ويبلغ القداسة. بغية تحقيق الهدف، ينصرف الى اعتراف حيث يقرّ بخطاياه لينتقل النص عندئذ الى الخط الطباعي العادي ويلحق بدفق كلامي حيث تستدعى حوادث ومشاعر سنوات اليفاع. يَستَقطع هذا الإفصاح المتردد سردٌ راهني، في خط طباعي مائل.

يخشى الراوي ان يكبر ويدخل عالماً فاسداً حيث يقتصّ القوي من الضعيف. لوو شياوتونغ نقيض أوسكار، الفتى الذي يأبى جسده أن يكبر بينما يتقدم عمره الذهني، في كتاب غونتر غراس “الطبل الصفيح”. في “باو” إئتمن جسم الشاب النامي على عقل طفل تظهر إلتباساته العميقة أحيانا، نقرأ: “عندما أنظر الى عشيقة والدي أشعر كأني في السابعة أو الثامنة. بينما تعلن دقات قلبي وحركات هذا الشيء بين ساقيّ اني لم أعد طفلا”. من طريق مراقبة البالغين يدرك لوو شياوتونغ قدرة الجسد على استدراج الناس الى أماكن قاتمة فيتمسّك ببراءته. لكن، عندما ينشأ المرء في وسط عالم منحرف يقوده التوتر الى حدّ غير محتمل، فيضيّع براءته في لحظة، وفي عنف غريب.

تستبقي نسخة الرواية الإنكليزية كلمة “باو” عنوانا (في حين عنوانها بالفرنسية “إحدى واربعون طلقة”) وللمفردة معنيان. اولاً الصوت الذي تصدره قطعة هاون المدفعية التي استخدمها الجيش الياباني سابقاً ويرغب لوو في استعمالها لتفجير العالم البالغ. بينما تدلّل الكلمة أيضاً على سرد القصص والعلاقة الجنسية في إحدى اللغات المحلية في بيجينغ. لا لبس في ان الرواية رحلة ايروسية وعبثية في آن واحد. في جزء منها انها أسطورة وفي الجزء الآخر سيرة ذاتية تخييلية، وفي الحالتين سرد للتحول الذي تختبره قرية الراوي من بيئة زراعية الى مركز للمسالخ. يكتب مو: “اخترع لاو لان تقنية علميّة تقوم على ضخّ المياه المضغوطة في شرايين الحيوانات المذبوحة. تالياً صار ممكنا إفراغ سطل مياه في كل خنزير. في حين بالكاد أمكن، وفق الأسلوب القديم، إفراغ نصف هذه الكمية في جيفة بقرة”.

في وصف زعيم القرية: “كان خدا لاو لان زهريين وممتلئين وأصدر الرجل صوتا كرنين الجرس. بدا كأنه ولِد ليصير مسؤولا رسميا ثريا. بعدما رُقّي زعيما للقرية، علّم السكان تقنية حقن المياه وبات قائد تيار الأغنياء المحليين الناجحين بفضل الحيلة”. بمنّة من عائدات اللحوم، وجد المجتمع الزراعي الضيق النعمة الإقتصادية. يسرد شياوتونغ حكايته الإقرارية أمام راهب عجوز وصامت ودمث يتواصل معه عبر شدّ الوبر في أذنيه بحركة عصبية. لكن شياوتونغ لا يجيء بحكاية ارتقائه الشخصية كآكل نهم للحوم وزير نساء فحسب وانما حكاية قريته مركزا لأول معمل صناعي للحوم في الصين. يبتكر مو يان شخصيات قادرة من مثل والدة الفتى التي يشكل نضالها لتربيته في أعقاب مغادرة والده القرية في رفقة سيدة أخرى، الحلقة الأكثر تأثيراً في الرواية. يصور الكاتب المرأة في الرواية وفق نماذج محددة، انها السيدة المتسلطة والمتوترة على نسق والدة شياوتونغ، أو المأخوذة الى الجنس على نحو مفرط من نوع عشيقة والده، او سيدة التخيّلات في المعبد. يتنافس الرجال على جذب انتباه نساء، هنّ اغراض الشهوة أو الطرائد. في موازاة ركض الرجال اللاهث للإستيلاء على السلطة، تصير الذكورة تيمة إضافية في الرواية. بورتريه الوالد هو في كل حال دليل اضافي على ذلك. وثق الرجل الكسول والمشاغب، باللحم الذي دخل معدته فحسب، واستطاع بنظرة معرفة وزن الحيوان قبالته، على نحو أدق من الميزان.

في كل ركن من “باو” (لدى “سيغال بوكس”) حال من الفوضى يحركها مال جرى كسبه أو سرقته من دون احساس بالندم. ثمة أعراس وطقوس تأبينية وأعياد للحوم وتبجّح رسمي وإنحلال وكثير من العنف. يصير هذا العنف كلامياً أحياناً عندما تندفع والدة شياوتونغ صوبه مهددة: “سأقطع أذنيك وألتهمهما”، قبل ان تمسك بهما وتشدّ “ليروح يئن كالخنازير التي تذبح في القرية”. الإلماح معبّر في خضم سرد قادر.

تنطوي “باو” على نقد اجتماعي وسياسي بفضل قرية. انها البرهان على إمكان تلاوة حكاية عظيمة من طريق حكاية صغيرة.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى